شريف هلالي

استحدث العرب نظرية جديدة في العلوم السياسية، وهي ما يمكن تسميته الانقلاب المدني، بعد أن كانت تلك الانقلابات قاصرة على العسكريين فقط في العالم الثالث، وما حدث في تونس في يوليو/ تموز الماضي يؤكد ذلك، إذ جاء الانقلاب من رئيس الدولة الذي فاز عبر انتخاباتٍ أجريت وفقا لنصوص الدستور، لكنه قام بانقلاب على العملية الديمقراطية:

  • ألغى الدستور فعليا،
  • وجمّد مجلس النواب المنتخب،
  • وأصدر ما يشبه الإعلان الدستوري، يجمع بموجبه بين السلطات
  • وحل المجلس الأعلى للقضاء،
  • وعمل على تقييد حرية الرأي والتعبير،
  • وسمح بالمحاكمات العسكرية للمدنيين.

وعلى الرغم من نجاحه، لم يعترض أحد من الفرقاء أو القوى السياسية الأخرى. كانت هناك مناوشات بين الأحزاب الرئيسية ومجلس الوزراء والرئيس، وهذا طبيعي، ويحدث في كل البلدان التي تطبق النظام البرلماني، لكن المحظور أن يقلب أحد الأطراف الطاولة على الجميع، مستندا إلى دعم المؤسسة العسكرية أو الأمنية، وبدون دعم شعبي كافٍ لينقلب على كل البديهيات الدستورية.

المفارقة واضحة، كيف لمتخصص في القانون يعلم طلابه احترام نصوص الدستور ومبادئ رئيسية، مثل الفصل بين السلطات وسيادة القانون واستقلال القضاء، أن يقوم بعكس ما يدرسه، في ابتكار نظريةٍ جديدةٍ ترفض العمل الحزبي، وتميل إلى العمل القاعدي في غيابٍ لآليات الشفافية والمحاسبة، في تكرار لتجربة القذافي، ونظريته في اللجان الثورية، وشعاره المعروف وقتها “من تحزّب خان“، وهو ما أوصل ليبيا إلى مجتمع بدون مؤسسات سياسية تقوم بالتصحيح.

ويشبه ذلك ما حدث في سورية، بتوريث القيادة من الأسد الأب إلى الابن الذي كان يدرس طبيب أسنان، ولم يكن له نشاط سياسي من قبل، والذي أدخل سورية في حالة احتراب أهلي، واستخدم القوة في قتل معارضيه، وهجّر ملايين المواطنين خارج وطنهم هروبا من الحرب، فقط لأنه يحظى بتأييد النخبة المسيطرة بحزب البعث، حفاظا على مصالحها السياسية والاقتصادية.

كما كان ما حدث في مصر في الثالث من يوليو/ تموز 2013 انقلابا استخدمت فيه الإدارة العسكرية صراعات القوى السياسية، واستغلت أخطاء ارتكبتها جماعة الإخوان المسلمين في العام الذي استلموا فيه الحكم.

ما حدث في تونس وغيرها يظهر طبائع الاستبداد العربي، حسب عبد الرحمن الكواكبي، الذي أكد أن داء الأمة يكمن في فساد السياسة وإنتاج المستبد الذي “يتحكّم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم.

فكرة الانقلاب المدني أو العسكري، خصوصا عندما تستخدم المخاوف الشعبية، ومنها غياب الاستقرار أو تردّي الأوضاع الاقتصادية، مبرّرا للوصول إلى مقعد الرئاسة، ترجع إلى غموض آليات الوصول إلى السلطة، إذ، في بعض الحالات، يصل إلى السلطة طرفٌ ليس لديه تاريخ سياسي، ولم يختبر في أي موقع سابق اعتمادا على بعض الشعارات المبهمة، بغض النظر عن صدقيتها من عدمها، وبدون برنامج واضح.

وتعبّر هذه الآليات عن كراهية للسياسة ورجال الأحزاب، وتسمح للمجهولين، أحيانا، بالوصول إلى السلطة، عبر استخدام آليات قانونية ودستورية، أو عبر آليات القوة العسكرية، ثم الانقلاب عليها، بما لا يسمح بتطبيق مبدأ تداول السلطة، ويحافظ على حقوق الانتخابات الحرّة والمحاسبة الشعبية.

وهو عين ما حدث في التجربة الأميركية بوصول دونالد ترامب إلى السلطة عام 2018، حيث جاء من خارج صفوف النخبة السياسية التقليدية، واستخدم خطابا شعبويا لجذب الجماهير، حتى وصل إلى السلطة ليقوم بممارساتٍ ضد الديمقراطية، ويحرّض على اقتحام الكونغرس، ويتجاهل نتائج التصويت في سابقة تاريخية، ولكن هناك مؤسّسات ضمنت انتقالا سلميا للسلطة وأجبرته على احترام النتائج.

ولكن العالم العربي تسود فيه حالة فقدان التوازن بين المؤسسات، ويغيب صوت المواطنين، ويجري استغلال الخلافات الحزبية واستخدام القمع والحبس لأي ناقد للسلطة ومساراتها، فضلا عن تنامي ظاهرة اللجان الإلكترونية الرسمية في وضع جدول أعمال تتجاهل فيه القضايا الأساسية.

استحدث العرب نظرية جديدة في العلوم السياسية، وهي ما يمكن تسميته الانقلاب المدني، بعد أن كانت الانقلابات قاصرة على العسكريين

هناك ملاحظات على هذه النصوص التي لا تضع ضمانات كافية للترشّح للموقع الرئاسي سوى شروط الجنسية والسن وعدم وجود سوابق جنائية، في مقابل تغييب الخبرة السياسية، وبعضها قد يتطلب توقيعاتٍ من أعضاء مجلس النواب أو المواطنين، لكن ذلك ليس كافيا، إذ يمكن استخدامه في ظل ضعف استقلال المؤسسات.

يؤدّي ذلك إلى السماح بتغييب رجال السياسة، وإيصال ما يمكن أن نصفهم مغامرين أو من ليس لديهم تجربة سياسية سابقة، كما أن الوقت المتاح بين الترشّح والتصويت ليس كافيا لوضع المرشحين تحت المنظار منذ نشأتهم وعلاقتهم بالمحيطين، الاجتماعي والعائلي، وخصائصهم النفسية والاجتماعية وإيجابياتهم وسلبياتهم، وهو ما كان يمكن أن تقوم به صحافة حرّة ومستقلة، تسمح بمناقشة تاريخهم الشخصي والسياسي.

وهو ما يدعو النخب الحزبية إلى التفكير جدّيا في وضع ضمانات حقيقية تتبنّى شرط العمل السياسي للمرشحين على هذا الموقع المهم، وتضع قيودا على أفراد المؤسسة العسكرية الراغبين في ممارسة السياسة، بضرورة فوات مدة محدّدة على استقالتهم أو وصولهم إلى سن التقاعد قبيل الترشّح. وضمان دعم الأحزاب لهؤلاء المرشحين.

وتوفر خبرة سياسية سابقة. وهذا يضمن، إلى حد ما، وصول المرشّحين الذين يعتمدون على تاريخ سياسي سابق، فرديا كان أو حزبيا، والتي ستؤثر حتما على إدارته السياسات العامة في الداخل، وعلاقاته الدولية بالخارج. إلى جانب ضرورة السماح بحرية ممارسة العمل السياسي في كل المواقع الجماهيرية، وانتخاب المحافظين ورؤساء الأحياء انتخابا حرّا مباشرا.

______________

مواد ذات علاقة