د. محمد بالروين

المقصود بالدوّامة هي أحداث سريعة الدوران، وشعارات فضفاضة تقود إلى طرد الأفكار المناسبة والمشاريع الجيدة من المشهد السياسي، بمعني آخر، هي شعارات جوفاء، وحركات عارمة تجعل النخب السياسية تدور في نفس المكان، وتُكرر نفس الأفكار، وتتشبث بنفس الآراء، وتتجه نحو المجهول، مما يقود المجتمع كله إلى الفوضى والاضطرابات، والمزيد من الفساد والتخلف والانحطاط.

أما المقصود بالحلقات المفرغة  (Vicious Circles)، فهي سلسلة من القضايا المتشابكة التي تُعزز نفسها من خلال تغذية بعضها البعض، فما أن تنتهي حلقة حتى تبدأ الأخرى لتنتهي من حيث ابتدأت، وخلال هذه الحلقات تسير القضايا في أشكال دائرية يؤدي كل شكل فيها إلى نفس النقطة التي انطلقت منها، وتعتمد كل قضية على القضية السابقة لها، مما يؤدي إلى المزيد من تفاقم الأزمات وتعقيدها.

انطلاقا من هذه التعريفات يمكن القول إن النخب السياسية الليبية، التي تتصدر المشهد السياسي هذه الأيام، أصبحت تدور في دوامة الحلقات المفرغة، تنقلها من صراع إلى صراع، ومن فوضى إلى فوضى، ومن فشل إلى فشل أكبر وأسوأ منه، مما يؤكد على أن الأفكار التي تملكها هذه النخب هي أفكار ضارة، وأن المشاريع التي تقدمها هي مشاريع سطحية وانتهازية، وأن الأدوات التي تستخدمها بدائية وغير صالحة، وأن المؤسسات الحالية قد أصبحت جزء من المشكلة وأكبر عائق للإصلاح والنهوض بالدولة، والأسوأ من ذلك كله، أن هذه النخب قد عجزت عن تأسيس مؤسسات عسكرية وأمنية موحدة وقوية تُمكّن الدولة من تحقيق الاستقرار والأمن والأمان.

الأسباب

قد يتساءل سائل فيقول: ما أسباب هذه الدوائر المفرغة؟

الحقيقة أن هناك أسباب عديدة لعل من أهمها:

  1. الحوار السفسطائي: بمعنى لقد أصبحت نقاشات وحوارات النخب السياسية مجرد جدل سفسطائي يدور حول التلاعب بالأدلة، واستخدام مصطلحات فضفاضة، لإثبات أمر ما ونقيضه في نفس الوقت، وطمس الحقائق والتلاعب بها، وإثارة الجدل ومزجه بشيء من التهكم والاستخفاف، وأصبح الغرض الأساسي من كل ذلك هو إفحام الخصم وإسكاته حتى ولو كان هذا الخصم على حق!.
  2. تجاهل التحديات: بمعنى قيام النخب بتجاهل التحديات الحقيقية والخطيرة التي تواجه الوطن والمواطن، وهذا التجاهل جعل هذه النخب رهينة للقضايا القديمة المرتبطة بالزمان الذي عاشت فيه، وبذلك لم تستطع الانتباه والاستعداد لما استجد من قضايا جديدة ومعقدة، وتحديات مستقبلية خطيرة، وعليه فإن تجاهل التفكير في تحديات المستقبل والتخطيط لها جعل هذه النخب تتصرف بسياسة رد الفعل والعجز عن أخذ المبادرات، وبذلك أصبحت أسيرة لما تواجهه، وعاجزة عن التفكير والتجديد والإبداع.
  3. عدم ترتيب الألويات: والأسوأ من تجاهل التحديات أن هذه النخب قد عجزت عن تحديد أولوياتها وترتيبها الترتيب المتوافق عليه فيما بينها! والحقيقة أن فشل النخب في تحديد وتعريف القضايا التي تواجهها، وعجزها عن ترتيب أولوياتها، جعل من السهل انتشار القضايا الفرعية والأقل أهمية، وبذلك دخلت الدولة في دوامة الحلقات المفرغة التي لا نهاية لها.
  4. غياب التراكمية: وتعني ببساطة أن يُبنَي العمل اللاحق على الجهود السابقة، والحقيقة، التي لا جدال فيها، أن العملية التراكمية قد تم رفضها من النخب السياسية في المشهد الليبي المعاصر! وبذلك لم تتكامل الخبرات، ولم تبدأ أي مرحلة من حيث انتهت المرحلة التي سبقتها، فعندما جاء القذافي للسلطة، على سبيل المثال، قام بوضع الخبرات التي انتجها العهد الملكي في السجون، وأحال بعضهم على التقاعد، وبعث من تبقى منهم مستشارين بالسفارات في الخارج! وفي ما عُرف بخطاب زوارة عام 1973، أعلن القذافي “خمس نقاط” للقضاء على ما تبقى من أفكار ومؤسسات ناجحة أسسها العهد الملكي.

وعندما جاءت ثورة 17 فبراير في 2011، قامت النخب السياسية، التي تصدرت المشهد السياسي، باتباع نفس النهج، وذلك بإصدار قانون ما عرف بـ”العزل السياسي”، والذي كانت نتيجته إقصاء كل من لديه خبرة (من مدير مدرسة إلى أعلى مسئول) في إدارة البلاد خلال حكم القذافي! مما قاد إلى خلق فراغ سياسي أنتج الفوضى والتسابق على المناصب تحت شعار الثورة والثوار! كل هذا قاد إلى ظهور حالة من الدوران السياسي في نفس المكان، وإصرار النخب على عدم تعلّمها من أخطاء الماضي ومحاولة إعادة اختراع العجلة من جديد، وبذلك فشلت كل النخب في أن تبني العمل اللاحق على جهود السابق.

الحلول

السؤال هنا هو: كيف يمكن الخروج من هذه الدوامة؟

والحقيقة أن الحلول كثيرة تختلف من دولة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر، ولعل من أهم الركائز التي يجب أن تتضمنها الحلول هي الآتي:

أولا: ضرورة المصارحة 

لابد من اقتناع النخب بأن المصارحة والاعتذار وجبر الضرر هم الأولويات الضرورية لتحقيق المصالحة الحقيقية، ولابد أن تعي النخب أن المصارحة هي بداية العلاج الاجتماعي والسياسي في أي مجتمع، ولكي تتحقق المصارحة لابد أن تقوم على أساس إشراك الفرقاء في كل ما يهم الوطن وكيف يمكن إنقاذه، واحترام كل ما يتفق الفرقاء عليه.

ثانيا قابلية التغيير 

لابد من قابلية النخب للتغيير والانفتاح على كل ما هو جديد، ولابد على الفرقاء أن يكونوا قادرين على إحداث أشياء إيجابية لم تكن موجودة من قبل، وأن يكونوا مستعدين للانتقال من واقع سيء وغير مرغوب فيه إلى رؤى شعبية منشودة ومستقبل جديد تزيد فيه الإنتاجية، ويتعزز فيه الأداء، ويشجع فيه العمل والاجتهاد والإبداع. بمعني آخر، لابد من الإيمان بأن الثابت الوحيد في حركة التاريخ هو التغيير، وما عدا ذلك فهو متغير.

ثالثا: النقد البناء

لابد أن يكون أساس المصارحة “التفكير النقدي البناء”، أي الفحص والتحليل العقلاني والموضوعيّ للحقائق والأدلة للوصول لنتائج واضحة وعملية ومحددة، وهو التفكير العلمي والتأملي لاتخاذ قرارات حول ما يجب القيام به، ومساعدة المواطن على استخدام مهاراته المعرفية والعملية وتشجيعه على تطبيق طرق البحث والاستدلال التي تعينه على الوصول للأهداف المنشودة. وبمعنى آخر، يجب الابتعاد عن الفكر والحوار السفسطائي، ورفض كل أدعياء هذا النوع من النقاش والحوار، والذين يتكلمون كثيرا ولا يقولون شئياً مفيداً!.

رابعاالقواسم المشتركة

 من الضرورة البحث عن القواسم المشتركة التي تجمع الفرقاء مع بعضهم البعض، وأن يتم الانطلاق منها نحو إعادة بناء الدولة، وفي نفس الوقت من الضروري الابتعاد عن كل الشخوص الجدليين والقضايا الخلافية التي تفرق أبناء الشعب الواحد.

خامساالتراكمية الإيجابية

على الفرقاء أن يؤمنوا بأن عملية التغيير ليست مجرد معادلة صفرية، وإنما هي عملية للانتقال نحو الأحسن والأفضل، بأساليب عملية وتدريجية، وهي محاولة للعمل على الزيادة والإضافة الإيجابية للقيم التي تملكها الشعوب في لحظة ما، ولكي يتحقق ذلك، لابد أن تكون حركة الفرقاء نحو المستقبل منطلقة من مبادئ لعل من أهمها الجود بالموجود، وأخذ أحسن ما عند الغير على ألا نترك أحسن ما عندنا.

الخلاصة

مما ذكرأعلاه، يمكن القول إن الفرقاء والنخب الليبية تعيش هذه الأيام دوّامة الحلقات المفرغة، ونتج عن ذلك المزيد من الفساد والفوضى والتشرذم والانحلال، وفي اعتقادي المتواضع، لكي يتم الخروج من هذه الدوامة بنجاح:

ـ لابد من رفع شعار “المصارحة أولا” لكي تتحقق المصالحة الحقيقية، ويقود ذلك للاعتراف والاعتذار وجبر الضرر. (2)

ـ  لابد أن تقوم المصارحة على ممارسة التفكير النقدي البناء، أي التحليل العقلاني والموضوعيّ للحقائق والأدلة من أجل الوصول للنتائج المنشودة والمرغوبة

ـ لابد من محاولة التوافق على قواسم مشتركة تجمع الفرقاء للانطلاق منها نحو إعادة بناء الدولة

ـ لابد من الالتزام بالعملية التراكمية والإيمان بأن عملية الانتقال نحو الأحسن والأفضل هي عملية تدريجية

ـ لابد من الإيمان بمبدأ القابلية للتغيير، أي الإيمان بأنه لا يمكن الخروج من هذه الدوّامة بدون قابلية كل الفرقاء للتغيير والانفتاح على كل ما هو جديد، والتخلص من كل المعرقلين للعملية السياسية، وإنهاء الحوار السفسطائي واستبداله بأرقى أشكال التواصل التي تُجسد أفضل السلوكيات واحترام الآخر والقبول به.

وعليه أنا على يقين بأنه إن لم يقم الفرقاء الخيرين والنخب السياسية في هذا الوطن الجريح بممارسة الركائز الخمس أعلاه، فلن يصل الليبيون للمصالحة الحقيقية بينهم مهما شكلوا من برلمانات وحكومات ولجان ومجالس للحكماء والأعيان! ولن يستطيعوا بناء الدولة المدنية الديمقراطية التي يحلمون بها.

فهل أدرك الفرقاء والنخب الوطنية هذا الدرس، وهل هم على استعداد لإعادة الانطلاق من جديد لإنجاح المرحلة القادمة؟

ادعو الله ان يتحقق ذلك.

أخيرا يا أحباب، لا تنسوا أن هذا مجرد رأي، من أتى برأي أحسن منه قبلناه، ومن أتى برأي يختلف عنه احترمناه. والله المسـتعـان..

***

د. محمد بالروين ـ أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

______________

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

مواد ذات علاقة