زياد أكديش

بعد عامين من المفاوضات والاتفاقات ومقاربة الحل، عادت الأزمة الليبية إلى المربع الأول. فبعد أن كانت قبل أشهر قليلة على مشارف الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لحسم الصراع المزمن على السلطة، تقف البلاد اليوم على أبواب انقسام سياسي جديد بين حكومتين متنازعتين على الشرعية، يصطف خلفهما فرقاء الأمس واليوم، في المعسكرين السياسيين، في الشرق والغرب.

الصراع الجديد القديم، بدأ بتشكيل مجلس النواب حكومةً جديدةً بقيادة وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، لتحل محل الحكومة الحالية التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة الذي رفض التنازل عن السلطة، واتخذ إجراءات تنذر بتجدد الصدام العسكري في قلب طرابلس، منها قرار بالقبض على رئيس الحكومة المكلف وفريقه الوزاري فور وصولهم إلى العاصمة.

ومع النذر الخطيرة التي بدأ يوحي بها هذا الصراع الحكومي على أمن البلاد واستقرارها ومستقبل العملية السياسية التي ترعاها بعثة الأمم المتحدة منذ سنوات، تحركت الكثير من الأطراف المحلية والدولية في محاولة لتسوية الخلاف بين باشاغا والدبيبة والبرلمان ومجلس الدولة، وفشلت جميعها حتى الآن، فكل مبادرة تُقبل في طرابلس تُرفض في بنغازي وطبرق، والعكس صحيح.

بداية الأزمة

وبدأت الأزمة حين قرر مجلس النواب وضع خريطة طريق جديدة للانتخابات، تتضمن تعديلاً على السلطة التنفيذية وتحديد موعد جديد للعملية الانتخابية بعد عام ونصف العام، وقوبلت هذه الإجراءات برفض تام من رئيس الحكومة الموحدة عبد الحميد الدبيبة، الذي طرح خريطة طريق موازيةً تقترح إجراء الانتخابات العامة بداية الصيف المقبل.

أصرّ البرلمان على موقفه، ومنح الثقة بغالبية أصوات النواب لحكومة باشاغا، قبل أن يصعّد الدبيبة ضد القرار في اليوم المحدد لأداء الحكومة الجديدة اليمين الدستورية، والذي شهد أحداثاً خطيرةً تمثلت في خطف وزيرين لمنع توجههما إلى طبرق لأداء القسم القانوني، وإغلاق المجال الجوي لمنع وصول بقية الفريق الوزاري إلى مقر مجلس النواب.

بعد عامين من المفاوضات والاتفاقات ومقاربة الحل، عادت الأزمة الليبية إلى المربع الأول. فبعد أن كانت قبل أشهر قليلة على مشارف الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لحسم الصراع المزمن على السلطة، تقف البلاد اليوم على أبواب انقسام سياسي جديد

مبادرة البعثة الدولية

أمام هذا التصعيد وانسداد الأفق السياسي، طرحت المبعوثة الأممية إلى ليبيا ستيفاني وليامز، مبادرةً جديدةً للخروج من الأزمة الحالية، تقترح عودة لجان التفاوض في مجلسي النواب والدولة إلى طاولة الحوار، للتوافق على خريطة طريق جديدة تقود إلى الانتخابات في أجل قريب.

ولقيت هذه المبادرة ترحيب كل الأطراف السياسية في غرب ليبيا، منها مجلس الدولة والحكومة والمجلس الرئاسي، بينما رفضها مجلس النواب رفضاً قاطعاً، محذراً البعثة الأممية من النتائج التي قد تؤدي إليها، والتي قد تصل إلى تقسيم البلاد.

وحظيت مبادرة البعثة الدولية بترحيب كبير وسريع من أغلب الأطراف السياسية في المنطقة الغربية، بدايةً من موافقة مجلس الدولة، الذي رأى في بيان، أن “هذه المراسلة كانت استجابةً واضحةً لمطلب المجلس الذي أقرّ قاعدةً دستوريةً كاملةً في أيلول/ سبتمبر الماضي، والتي يمكن البناء عليها لإيجاد توافق وطني”، مؤكداً أن “دور البعثة سيكون في رعاية عمل اللجنة من دون التدخل فيه، فحسب”.

أما المجلس الرئاسي، فقد عبّر على لسان رئيسه محمد المنفى، عن الترحيب بمبادرة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في ليبيا، فيما دعا نائب رئيس المجلس الرئاسي عبد الله اللافي، مجلسَي النواب والدولة إلى “التعامل بجدية ومسؤولية مع مقترح وليامز”.

أطراف دولية داعمة

وأبدت أطراف دولية عدة دعمها مبادرة البعثة الأممية، بدايةً من الاتحاد الأوروبي الذي عبّر عن دعمه “مبادرات الأمم المتحدة التي تمثلها المستشارة الخاصة للأمين العام في شأن ليبيا، ستيفاني وليامز، وبعثة الدعم في ليبيا”، مطالباً الأطراف المحلية بـ”الامتناع عن العنف وضبط النفس”.

وفي بيان مشترك، أيدت فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وأمريكا الوساطة التي تقودها مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة، مبديةً استعدادها لـ”محاسبة من يهدد الاستقرار بالعنف أو بالتحريض عليه”.

وذكرت الدول الخمس أن “الأفراد أو الكيانات داخل ليبيا أو خارجها، الذين يعرقلون أو يقوّضون الاستكمال الناجح لعملية الانتقال السياسي في ليبيا، قد تحددها لجنة عقوبات ليبيا التابعة لمجلس الأمن، وفقاً لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2571 (2021)، والقرارات ذات الصلة”.

موقف البرلمان

في طبرق، رفض مجلس النواب رفضاً قاطعاً التعامل مع المبادرة التي طرحتها البعثة الأممية في ليبيا، وأكد رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، “عدم قبوله التدخل في قرارات مجلس النواب، وأن قرارات المجلس غير قابلة للتصديق من أي جهة كانت”.

وتمسّك صالح، بـ”قانونية الإجراءات المتخذة من قبل مجلس النواب، سواء في ما يتعلق بالتعديل الدستوري الثاني عشر وخريطة الطريق، أو تشكيل الحكومة الجديدة، عقب انتهاء ولاية حكومة الوحدة الوطنية في 24 كانون الأول/ ديسمبر 2021″.

ولفت إلى أن “هذه الإجراءات تمت عقب التوافق مع مجلس الدولة من خلال اللجنتين المشكّلتَين من مجلس النواب والدولة”.

وقال عضو البرلمان عيسى العريبي، إنه “بالفعل هناك لجنة لخريطة طريق ليبية-ليبية، وتُوّجت بالتعديل الدستوري رقم 12، وخريطة الطريق واضحة ومضمّنة في التعديل الدستوري، وتؤدي إلى انتخابات بجدول زمني واضح بعد 14 شهراً”.

وحذّر العريبي من أن “مقترح وليامز سيؤدي إلى انقسام ليبيا، وهي ستتحمل مسؤولية أي عبث قد يحدث بناءً عليه”.

وأشار إلى “تمسك مجلس النواب بخيار تشكيل حكومة جديدة، مهامها تعزيز الاستقرار والمصالحة الوطنية والتجهيز للانتخابات الرئاسية والتشريعية”.

من جانبه، رأى النائب عبد المنعم العرفي، أن “مبادرة ستيفاني وليامز تجاوزها الزمن، بعد أن أصبحت لدينا حكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، وأبرز ما تم من خلالها هو التوصل إلى تسمية وزير للدفاع للمرة الأولى منذ سنوات، وهو ما يضمن تكوين قوة عسكرية واحدة واندثار كل الميليشيات الموجودة”.

الخلاف بين رئيسَي الوزراء، المكلف والمُقال من البرلمان، ترك بصمات واحدةً على أكثر من صعيد على المستوى الاقتصادي وحتى العسكري، بعد أن عادت ظاهرة إقفال الحقول النفطية من جديد بعد أيام من اندلاع الأزمة، والتي أدت إلى تراجع إنتاج ليبيا النفطي إلى 920 ألف برميل يومياً فقط

وشدد على ضرورة “دخول باشاغا إلى العاصمة لممارسة مهامه، وإذا فشلت هذه العملية فسيكون ذلك بمثابة آخر مسمار يُدقّ في نعش وحدة ليبيا”.

صمامات النفط

الخلاف بين رئيسَي الوزراء، المكلف والمُقال من البرلمان، ترك بصمات واحدةً على أكثر من صعيد على المستوى الاقتصادي وحتى العسكري، بعد أن عادت ظاهرة إقفال الحقول النفطية من جديد بعد أيام من اندلاع الأزمة، والتي أدت إلى تراجع إنتاج ليبيا النفطي إلى 920 ألف برميل يومياً فقط، بعد أن انتعش خلال الأشهر الماضية ليبلغ نحو مليون و300 ألف برميل.

وأغلق محتجون تابعون لحرس المنشآت النفطية حقلَي الشرارة والفيل جنوب غرب ليبيا، مما أدى إلى توقف ضخ النفط منهما بشكل كامل، وتسبب ذلك في تراجع معدلات الإنتاج في البلاد بشكل واضح، متأثرةً تحديداً بإغلاق حقل الشرارة، أضخم حقول النفط الليبية الذي ينتج نحو 300 ألف برميل يومياً.

وكلّف إغلاق خطوط الإنتاج في حقل الفيل النفطي الواصل إلى ميناء مليتة غرب البلاد، خسارة نحو 60 ألف برميل، بعد إغلاق صمام قرب مدينة الرياينة نفّذه محتجون تابعون لجهاز حرس المنشآت، مطالبين بصرف رواتبهم المتأخرة، وكانت المجموعة نفسها قد عطلت خطوط نقل النفط الخام الواصلة بين حقل الشرارة وميناء الزاوية النفطي، الأسبوع الماضي.

ووجهت هذه الإغلاقات ضربةً إلى الآمال التي عُلّقت على الزيادة الكبيرة في أسعار النفط الخام، وإعطاء دفعة للاقتصاد الليبي الذي يواجه أزمات كبيرةً، وتأتي في وقت تسببت فيه الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا بزيادة سعر برميل النفط الذي يقترب حالياً من حاجز الـ140 دولاراً للبرميل الواحد، للمرة الأولى منذ سنوات طويلة.

وكشفت المؤسسة الوطنية للنفط حجم الخسائر التي تكبّدتها جراء إغلاق صمامات ضخ الخام من حقلَي الشرارة والفيل، مبيّنةً أنها “تتسبب في فقدان 330 ألف برميل في اليوم، وخسارة يومية تتجاوز الـ160 مليون دينار ليبي (33.3 مليون دولار)”.

تحركت الكثير من الأطراف المحلية والدولية في محاولة لتسوية الخلاف بين باشاغا والدبيبة والبرلمان ومجلس الدولة، وفشلت جميعها حتى الآن، فكل مبادرة تُقبل في طرابلس تُرفض في بنغازي وطبرق، والعكس صحيح

وقال رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، مصطفى صنع الله، إن “مجموعةً من العصابات المشبوهة أقدمت على إغلاق صمامات ضخ الخام، وأضحى تنفيذ التزاماتنا تجاه المكررين في السوق النفطية مستحيلاً”، وأعلن صنع الله عن حال القوة القاهرة في الحقول التي توقف فيها الإنتاج، متسائلاً: “لمصلحة من تأتي هذه الإغلاقات التي أتت بعد قفزة الأسعار التي تجاوزت المئة دولار للبرميل؟”.

وأضاف: “العصابة نفسها أغلقت هذه الصمامات بين عامي 2014 و2016، وتزامن ذلك مع طفرة في الأسعار، وكل هذه المؤشرات تؤكد أن لها ارتباطات مشبوهةً تحركها أيدٍ خفية لجر البلاد إلى فوضى”.

وعلى الرغم من خطورة كل هذه التطورات، إلا أن مراقبين يرون أن الأخطر لم يأتِ بعد، مع تمسك رئيس الوزراء الجديد فتحي باشاغا، باستلام مقارّ الحكومة في طرابلس، وتحشيد رئيس الحكومة المُقال عبد الحميد الدبيبة لمواجهة هذه الرغبة بالرصاص إذا لزم الأمر، كما قال في تصريح صريح، ما يضع البلاد على عتبة العودة إلى الاحتكام إلى السلاح بين المتنافسين على السلطة، بعد عامين من السلام المؤقت.

____________

مواد ذات علاقة