وبالحديث إلى الدكتور أمير شفقتلي خبير الشؤون الليبية في مركز دراسات الشرق الأوسط (أورسام)، عن هذه المخاوف التي أعلنها الأمينان العامان للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، أوضح أنه «مع حصول حكومة فتحي باشاغا على ثقة البرلمان، ظهرت حكومتان مختلفتان مرة أخرى في ليبيا، ويمتد تأثير هذا الهيكل ذي الرأسين بشكل مباشر على الجو الأمني في المدن الليبية الغربية، مصراتة وطرابلس. لدرجة أننا عندما ننظر في تصريحات رئيس الوزراء دبيبه بأنه لن يسلم المهمة إلا إلى سلطة منتخبة، يمكننا القول بإمكانية اندلاع اشتباكات بين الجماعات المسلحة في غرب البلد في المستقبل القريب»، بحسب ما أخبر «ساسة بوست».

تنازع سياسي يصاحبه تحشيد عسكري من الطرفين

عادت ليبيا إلى حالة تنازع الشرعيات منذ شهر ديسمبر (كانون الأول) 2021، تاريخ إعلان تأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وزاد هذا التنازع بتعيين فتحي باشاغا رئيسًا للحكومة من قبل البرلمان في طبرق مقابل تمسك عبد الحميد الدبيبة بمنصبه رئيسًا لحكومة الوحدة الوطنية.

وكان عبد الحميد الدبيبة قد اقترح في الثاني والعشرين من فبراير (شباط) 2022 الماضي مبادرة خارطة طريق تتضمن خطته لإنجاز انتخابات في يوليو (تموز) المقبل، والتي تقوم على أربع نقاط أساسية تنطلق بتشكيل لجنة فنية لإعداد مشروع قانون الانتخابات البرلمانية يقدمه مجلس الوزراء إلى المجلس الأعلى الدولة، ثم يحال إلى مجلس النواب للمصادقة عليه، وإن تعذر ذلك يحال إلى ملتقى الحوار السياسي. وحددت الخطة يوم الرابع والعشرين من يونيو (حزيران) 2022 تاريخًا لانطلاق العملية الانتخابية، على أن يتزامن ذلك مع الاستفتاء على الدستور.

وفي أول مارس 2022 صادق البرلمان في طبرق على حكومة فتحي باشاغا، وفي اليوم نفسه أكد عبد الحميد الدبيبة رفضه تسليم السلطة لهذه الحكومة، فيما أصدرت حكومة الوحدة الوطنية بيانًا عبرت من خلاله عن متابعتها «استمرار رئاسة مجلس النواب في العبث بأمن واستقرار الليبيين، وتهديد استقرارهم» واتهمت الحكومة برلمان طبرق بالتزوير والتزييف، وقالت إنها ستحاسب «كل من يتجرأ على الاقتراب من أي مقر حكومي، أو العبث باستقرار ومقدرات الليبيين»، فيما حدد البرلمان يوم الخميس 3 مارس 2022 تاريخًا لأداء حكومة باشاغا اليمين الدستورية.

وفي مساء يوم الأربعاء 2 مارس 2022 تداولت أخبار تفيد بغلق المجال الجوي، وتعطل حركة الطيران في ليبيا، واعتبر فتحي باشاغا ذلك قطعًا للطريق أمام وزراء حكومته حتى لا يتوجهوا من طرابلس إلى طبرق لأداء اليمين الدستورية. وأعلن المكتب الإعلامي لحكومة فتحي باشاغا لاحقًا أن أطرافًا – لم يسمّها – احتجزت وزير الخارجية ووزيرة الثقافة في حكومته لـ«عرقلة عملية أداء اليمين في طبرق بشرق ليبيا»، على حد تعبيره.

على الجانب الآخر يواصل الدبيبة العمل بوصفه رئيس حكومة، حتى أنه دعا الشعب الليبي في مختلف المناطق إلى تحركات سلمية تطالب بإجراء الانتخابات، ورفض المسار المنتهج من قبل البرلمان.

وجاء في بيان صادر عن بعثة الأمم المتحدة في ليبيا أنها تتابع عن كثب وبقلق التقارير المتعلقة بحشد قوات وتحركات أرتال كبيرة للمجموعات المسلحة؛ مما أدى إلى زيادة التوتر في طرابلس وما حولها، مشددة على أهمية الحفاظ على الهدوء والاستقرار في البلاد. فيما يؤكد شهود عيان تمركز كتائب مسلحة داعمة لفتحي باشاغا في محيط طرابلس استعدادًا لدخوله طرابلس، وتوليه الحكم فيها.

ويشار إلى أن عددًا من قيادات الكتائب المسلحة في طرابلس أعلنت أول مارس 2022 رفضها حكومة باشاغا، ودعمها حكومة الدبيبة، وإجراء انتخابات برلمانية في يونيو المقبل.

وساطات ومبادرات تهدف إلى التهدئة

أخبرا موقع «راديو فرنسا الدولي» السبت 12 مارس 2022 بنجاح وساطة أمريكية أممية في تحقيق اتفاق «هش» بين عبد الحميد الدبيبة وفتحي باشاغا، يقضي بتمكين باشاغا وحكومته من دخول طرابلس سلميًا، بالإضافة إلى فتح المجال الجوي والطريق الساحلي الذي يربط طرابلس بمدينة بنغازي، بحسب الإذاعة الفرنسية. كذلك جرى الحديث مؤخرًا عن وجود وساطة تركية للحيلولة دون الوصول إلى مربع النزاع المسلح. فيما تحدثت مصادر عديدة عن مساعي أعيان مدينة مصراتة مسقط رأس الدبيبة وباشاغا لنزع فتيل الفتنة، وضمان اتفاق سلس بينهما.

وفي السياق نفسه أطلقت ستيفاني وليامز المستشارة الخاصة لأمين عام الأمم المتحدة بليبيا مبادرة يوم 4 مارس 2022، تتلخص في تشكيل لجنة مشتركة من 12 عضوًا، مناصفة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لإعداد قاعدة دستورية، خلال 14 يومًا ابتداءً من 15 مارس؛ ما يسمح بتنظيم انتخابات في أقرب وقت.

ونشرت دول الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا بيانًا بتاريخ 6 مارس 2022 قالت فيه إنها تدعم «جهود الوساطة التي تبذلها الأمم المتحدة من خلال المستشار الخاص للأمين العام وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا للحفاظ على الانتقال السلمي في البلاد، لتسهيل الحوار بين الأطراف السياسية والأمنية والاقتصادية»، وجاء في البيان نفسه أن هذه الدول مستعدة «لمحاسبة من يهدد الاستقرار باللجوء إلى العنف أو بالتحريض عليه».

وأشار البيان أن محاسبة هؤلاء الأفراد أو الكيانات ستكون عبر «تحديدهم من قبل لجنة العقوبات الخاصة بليبيا التابعة لمجلس الأمن في الأمم المتحدة، وفقًا لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2571 (2021) والقرارات ذات الصلة».

وعلق الدبيبة على مبادرة ستيفاني وليامز بأنها «تنسجم مع خطة الحكومة للانتخابات في يونيو المقبل 2022»، في إشارة إلى إعلانه قبل أسبوعين عن خطة لإجراء انتخابات برلمانية». فيما صدر بيان عن حكومة فتحي باشاغا قالت فيه أنها «نالت الثقة من الجهة الشرعية الممثلة لكل ليبيا، وأن الحكومة مكلفة بتسلم مهامها بقوة القانون».

وأضاف البيان أن «حكومة باشاغا لا تملك التفاوض حول تسلم مهامها من عدمه، وأنها تتعامل مع أي مساع دولية أو محلية من منطلق ضرورة احترامها السيادة الليبية، وما يصدر عنها من قرارات، وأن هذه المساعي مرحب بها في إطار تسليم سلس للسلطة من الحكومة منتهية الولاية»، وفق نص البيان.

لكن.. هل تنجح جهود الوساطة؟

عوامل عديدة تؤثر في مجريات الأحداث في ليبيا منها ما هو سياسي داخلي ومنها ما هو مرتبط بأجندات ورهانات أطراف خارجية، في هذا الاتجاه يقول الدبلوماسي السابق في ليبيا بشير الجويني لـ«ساسة بوست»: «ستحرص الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية على الحيلولة دون سقوط ليبيا في مربع الحرب خاصة في هذه المرحلة».

ويربط الجويني الموقف الغربي بمجريات الأحداث في أوكرانيا قائلًا «هذا الحرص الغربي على الاستقرار في ليبيا مرده المخاوف من أن تتسبب الحرب في إيقاف إمدادات النفط إلى أوروبا وكذلك مخاوف من تزايد الهجرة غير الشرعية إليها». ويضيف الجويني بأن «الولايات المتحدة الأمريكية ستحاول وقف التمدد الروسي في أفريقيا عبر مقايضة يكون استقرار ليبيا وشمال أفريقيا جزءًا منها». ويرجح الجويني بأن تلعب ليبيا دورًا يتقاطع مع المصالح الأمريكية والغربية بما لا يعارض مصالحها.

وفي الاتجاه نفسه يرى رئيس تحرير موقع «أفريقيا 2050»، المتخصص في الشؤون الأفريقية علي اللافي في تصريح لـ«ساسة بوست» أن «التنازع السياسي بين الحكومتين سيتواصل في ليبيا، وسيسعى كل طرف خلال هذه الفترة إلى تحشيد رأي عام داخلي وخارجي لصالحه».

ويضيف اللافي أن «التنازع لن يخرج على دائرة النزاع السياسي السلمي، وأن القوى الدولية الغربية لن تسمح بنجاح مساعي روسيا وحلفائها في المنطقة إلى تحويل ليبيا إلى نقطة توتر تزيد من محاصرة أوروبا». ويرى اللافي أن القوى الدولية بقيادة ستيفاني وليامز ستدفع نحو حل سياسي عبر خيار ثالث خلال الأشهر القادمة خارج خيارات الدبيبة وباشاغا مرجحًا أن يكون الخيار في فرض القاضي العدلي إبراهيم دغندة ابن مدينة مصراته رئيسًا للحكومة.

في المقابل يقول الباحث في الشؤون الليبية من مركز دراسات الشرق الأوسط أورسام بإسطنبول أمير شفقتلي لـ«ساسة بوست»: إن « المساعي الدولية الليبية لفرض التهدئة في ليبيا قد تساهم في الحيلولة دون نشوب حرب شاملة في ليبيا مماثلة لما حصل سابقًا، لكنها لن توقف بعض المناوشات المسلحة بين أنصار الدبيبة وأنصار باشاغا في مواقع داخل الغرب الليبي، وخاصة في طرابلس ومصراتة».

لذا ورغم تصعيد طرفي النزاع في ليبيا مستوى التهديد الفعلي والضمني، ورغم محاولات الدفع بالبلاد نحو العودة إلى مربع الحرب والنزاع المسلح؛ فإن هذا الخيار يبقى مستبعدًا في الوقت الراهن، ويعد حرص الليبيين على الاستقرار عاملًا مرجحًا لذلك، إلا أن مراهنة القوى الدولية الغربية على حماية مصالحهم من خلال الاستقرار هو المحدد الأبرز في رسم ملامح الوضع في ليبيا مستقبلًا.

_____________

مواد ذات علاقة