عمر روابحي

لم تكن العلاقات التي تربط الاتحاد السوفياتي السابق بكل دولة من دول المنطقة المغاربية على نفس المستوى والنسق، وذلك بسبب التوجهات السياسية والإيديولوجية التي اختارتها هذه الدول لنفسها غداة استقلالها، فقد اختارت الجزائر وليبيا –بعد انقلاب القذافي النهج الاشتراكي في تسيير الدولة، بينما انتهجت تونس والمغرب نمطاً قريباً من النهج الليبرالي.

تعتبر الجزائر أوثق الدول المغاربية علاقة مع موسكو، وتعود هذه العلاقة الوثيقة إلى ما قبل استقلال الجزائر، حيث ساند الاتحاد السوفياتي الثورة الجزائرية سياسياً وعسكرياً، وكان أول دولة في العالم تقيم علاقات دبلوماسية مع الجزائر المستقلة، وقد تنامت هذه العلاقة مع السنوات لتشكل شراكة استراتيجية بين البلدين لاسيما فيما يخص مساعدة الجزائر في بناء قاعدة صناعية وطنية خلال فترة السبعينيات، وفي المجال العسكري إلى غاية يومنا هذا.

تقاس قوة العلاقة بين الدول عادةً بمستوى الزيارات الرسمية المتبادلة، وبعدد الاتفاقيات التي يوقعونها ونوعها، وفي هذا السياق يذكر أن تبادل الزيارات الرسمية على مستوى رؤساء الدول في العلاقات الروسية المغاربية شملت فقط الجزائر والمغرب وليبيا، بينما لم يزر تونس وموريتانيا أي رئيس روسي، وبقى تبادل الزيارات الرسمية لروسيا مع هذين البلدين محصورة على مستوى وزراء الخارجية وشخصيات رسمية أخرى أقل تمثيلاً، أما على صعيد الاتفاقيات الثنائية الموقعة بين روسيا والدول المغاربية، فتحتل الجزائر دائما الصدارة من حيث الكم والنوع بــ 120 اتفاقية شراكة في مختلف المجالات بما في ذلك اتفاقية للشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وتأتي المغرب في المرتبة الثانية من حيث عدد ونوعية الاتفاقيات الثنائية التي تربطها بروسيا.

من ناحية أخرى، اعترفت كل الدول المغاربية باستقلال أوكرانيا مع بداية تسعينيات القرن الماضي، ورغم أن هذه الدولة الوليدة الخارجة من الاتحاد السوفياتي قد بقيت تحت النفوذ الروسي إلى غاية سنة 2014، إلا أن تغيير المحاور لم يؤثر كثيراً على وتيرة العلاقات الأوكرانية المغاربية، التي تقوم أساساً على إمداد المغرب وتونس وموريتانيا بنسب كبيرة من احتياجاتها من القمح، وعلى التعاون الفني والتقني مع الجزائر.

وفي الــ 24 من فبراير 2022 اجتاحت القوات الروسية الأراضي الأوكرانية، ما أحدث أزمة عالمية بالغة الخطورة، واضطراباً كبيراً في المشهد الأمني والسياسي والاقتصادي في الساحة الدولية، بخاصة الأسواق العالمية للطاقة والمواد الغذائية، ولم تكن المنطقة المغاربية بمنأى من التأثر بالحرب الدائرة في أوكرانيا، وهي المنطقة التي تتشابك مع طرفي النزاع بعلاقات سياسية واقتصادية متشعبة، لاسيما على المستويات: الأمن، الطاقة، التبادل التجاري.

التداعيات الأمنية للحرب على المنطقة المغاربية

حسب تقرير التسلح الذي يعده سنوياً معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، فإن واردات الجزائر بالنسبة للسلاح لعامي 2019 و2020  اعتمدت بنسبة 79% على السلاح الروسي، بينما توزعت بقية المشتريات على السلاح الألماني والفرنسي والإيطالي والإماراتي والصيني، وتعتبر الجزائر ثالث مستورد للسلاح الروسي بعد الهند والصين، وتتجاوز الاعتمادات المخصصة للتسلح في الجزائر 11 مليار دولار سنوياً، وهي بحسب إحصائيات مجموعة البنك الدولي تمثل 6.7% من الناتج المحلي وتحتل الجزائر بذلك المرتبة الرابعة عالمياً ضمن الدول التي يشكل الانفاق العسكري جزءاً كبيراً من ناتجها المحلي.

ويشير نفس التقرير إلى اعتماد المغرب وتونس بشكل كامل على السلاح الأمريكي خلال مشترياتهما لعامي 2019 و2020، بينما غلب على مشتريات موريتانيا السلاح الصيني، ولم يتمكن معهد ستوكهولم من الحصول على بيانات فيما يخص ليبيا نظراً لتعقيد الأوضاع هناك.

ويبدو أن الجزائر ستكون المتضرر الأكبر من هذه الحرب، حيث يُتوقع أن تضطرب إمدادات السلاح الروسي لهذا البلد، لاسيما وأن الجزائر ومنذ عقود لم تعتمد سياسات لتنويع مصادر التسلح أو حتى لتقوية وتعزيز التصنيع العسكري المحلي،  وهذا سيؤثر حتما عليها وهي مطوقة بوضع هش في تونس ونزاع مسلح في ليبيا ومنطقة الساحل وعلاقات دبلوماسية مقطوعة وحدود مغلقة مع المغرب. وفي مسألة السلاح يصعب إيجاد بدائل وإدخالها إلى الخدمة سريعاً، لأن الأمر لا يتعلق بالبحث عن مصادر توريد بديلة وإتمام صفقات للشراء فحسب، بل يرتبط بعامل الزمن الذي تحتاجه أي منظومة تسلح قديمة للتكيف مع السلاح الجديد وبناء القدرات البشرية الضرورية لاستخدامه بكفاءة، وعلى اعتبار أن المصدر الثاني للسلاح الجزائري هي ألمانيا بنسبة 12 % والثالث هي الصين بنسبة 9.9 % فإنه لتعويض السلاح الروسي قد تتجه الجزائر إلى هذين البلدين.

تداعيات هذه الحرب على قطاع الطاقة وانعكاسها على المنطقة المغاربية:   

تزود روسيا الاتحاد الأوربي بنحو 200 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، بينما وصلت الجزائر في أقصى كمية لها زودت بها السوق الأوربية إلى 51 مليار متر مكعب، وبالتالي فمن المستبعد تعويض الغاز الروسي بالغاز الجزائري من الناحية التقنية، فضلا عن عمق العلاقات الروسية الجزائرية وما يعرف عن الدبلوماسية الجزائرية من وفاء تاريخي للحلفاء، ما يجعل من المستبعد أن تلعب الجزائر هذا الدور، وكمؤشر يدلل على ذلك، الموقف الجزائري بالامتناع عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين العدوان الروسي على أوكرانيا.

وينطبق على ليبيا ما ينطبق على الجزائر، لكن مع حسابات وسياقات أخرى، حيث انحسر النفوذ الفرنسي والإيطالي في هذا البلد لصالح فاعلين إقليميين آخرين كروسيا والامارات وتركيا، وهذا سيصعب من أي ضخ إضافي للطاقة يعوض الغاز الروسي، ناهيك عن استحالة التعويض فنياً أيضاً حسب تصريح وزير النفط والغاز الليبي.

إذا كان الطرفان الجزائري والليبي لن يستفيدا من إمكانية تعويض الغاز الروسي إلى أوروبا، فإنهما حتما سيكسبان من ارتفاع أسعار الطاقة، وقد اقترب سعر برنت من عتبة 140 دولار كنتيجة مباشرة للحرب الروسية على أوكرانيا في أسبوعها الثاني، ولكن يصعب الجزم إذا ما كان الطرفان سيستفيدان من هذا الارتفاع التاريخي في الأسعار في بناء اقتصادات حقيقية، في ظل الانقسام والصراع الليبي من جهة، وفي ظل الأزمة السياسية في جزائر ما بعد الحراك الشعبي من جهة أخرى، يضاف إلى ذلك أن ما ستكسبه كثير من الدول المنتجة للطاقة في العالم بسبب ارتفاع أسعارها، ستخسره بسبب ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية والصناعية.  

ومن المُتوقع أن تتضرر كل من تونس والمغرب وموريتانيا بشكل كبير من ارتفاع أسعار الطاقة باعتبارها دولاً غير منتجة لها، وسوف تكون خسائرها مضاعفة على مستوى الطاقة وعلى مستوى ارتفاع أسعار جميع المواد تقريباً كنتيجة تبعية لارتفاع أسعار الطاقة.

تداعيات الحرب على التبادل التجاري مع المنطقة المغاربية

لا تعتبر روسيا ولا أوكرانيا مصدران رئيسان لواردات وصادرات الدول المغاربية، فيما يخص التبادل التجاري من سلع وخدمات، وحسب مرصد قياس التعقيد الاقتصادي OEC فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الجزائر وروسيا خلال عام 2019، 1.66 مليار دولار، وفيما عدا صفقات السلاح تمثل الواردات الجزائرية من روسيا حوالي 4% فقط من إجمالي الواردات، أما حجم التبادل التجاري مع أوكرانيا فهو أقل من نظيره الروسي، حيث بلغ حوالي 400 مليون دولار، وتستورد الجزائر من أوكرانيا ما قيمته 386 مليون دولار سنويا يشكل الحديد 70 % منها.

يكاد حجم التبادل التجاري بين المغرب وروسيا يتطابق مع نظيره الجزائري، حيث يصل إلى 1.71 مليار دولار سنوياً، ويشكل الفحم الحجري نصف واردات المغرب من روسيا بمبلغ يصل إلى 639 مليون دولار، ويكاد يتطابق حجم التبادل التجاري بين المغرب وأوكرانيا كذلك مع نظيره الجزائري حيث يصل إلى 381 مليون دولار سنويا، تمثل الواردات الأوكرانية منها 310 مليون دولار، يُشكل القمح أكثر من 50 % منها.

يبلغ حجم التبادل التجاري بين تونس وروسيا 723 مليون دولار سنوياً، تشكل المشتقات النفطية 57.5 % من واردات تونس من روسيا والتي تقدر إجمالا بــ 587 مليون دولار سنوياً، أما حجم التبادل التجاري بين تونس وأوكرانيا فهو يصل إلى 400 مليون دولار سنوياً، تمثل الواردات الأوكرانية منه 394 مليون دولار، قرابة الـــ 50 % منها عبارة عن واردات من القمح.

يعتبر حجم التبادل التجاري لروسيا وأوكرانيا مع كل من ليبيا وموريتانيا ضعيفاً للغاية ولن يكون محل تأثر بالحرب الدائرة حالياً، أما انعكاسات الحرب على تونس والجزائر والمغرب، فسوف تؤثر بشكل خفيف على الجزائر فيما يخص التبادل التجاري، وبشكل كبير على تونس والمغرب لاسيما فيما يتعلق باستيراد القمح، ولعل موضوع القمح يحتاج تفصيلا أكثر.

فحسب مرصد قياس التعقيد الاقتصادي OEC يمثل القمح الروسي والأوكراني مجتمعا نسبة 35 % من إجمالي واردات الجزائر من القمح، وقد عمدت الجزائر إلى تنويع مصادر وارداتها من القمح في العامين الأخيرين لتنفتح على السوق الكندي والأمريكي، وليتقلص الاعتماد على القمح الفرنسي الذي كان في وضعية احتكار بالسوق الجزائرية، ويبدو أن الجزائر لن تتأثر كثيراً من اضطراب التوريد بالقمح الروسي والأوكراني، ونفس الوضع ينطبق على المغرب الذي يشكل القمح الروسي والأوكراني مجتمعا 30 % من إجمالي وارداته من القمح.

وتأخذ فرنسا حصة الأسد من ذلك بنسبة تصل إلى 40 % بينما يحصل على باقي احتياجاته من كندا، ولعل المستفيد من اضطراب توريد المغرب بالقمح الروسي والأوكراني ستكون فرنسا، وما يقال عن المغرب ينطبق أيضاً على موريتانيا التي تحصل على ما يربو على 33 % من احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا مجتمعتين، بينما تحتكر فرنسا توريدها بنسبة 48.5 % وبالتالي ستكون هي الطرف المستفيد من اضطراب توريد القمح  بسبب الحرب الحالية.

وتعتبر تونس أكبر خاسر مغاربي محتمل من الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث تصل واردات القمح الروسي والأوكراني مجتمعا لتونس إلى حدود 51 %، وتحصل  تونس على باقي احتياجاتها من القمح من كل من فرنسا، اسبانيا، بلغاريا واليونان، ومن المتوقع أن تستفيد فرنسا من تعويض القمح الروسي والأوكراني في تونس أيضا.  

أما ليبيا فهي الدولة المغاربية الوحيدة التي لن يطالها أي أثر فيما يخص التوريد بالقمح، فهي تعتمد كلياً على القمح الكندي بنسبة 52.7 % والأمريكي بنسبة 29.8 % والإسباني بنسبة 12.3 % والفرنسي بنسبة 5.18 %.       

خلاصة التأثيرات المتوقعة
يصعب التهكن بمآلات الحرب الروسية على أوكرانيا، لاسيما وأن العمليات العسكرية لم تزل في بداياتها، ولكن رغم ذلك يمكن التوقع بناء على المعطيات السابقة، بأنه إذا ما طال أمد الحرب ودخلت روسيا في معركة استنزاف طويلة الأمد، فإن التأثيرات على الدول المغاربية ستكون متفاوتة حسب درجات الارتباط السياسي والاقتصادي مع موسكو وكييف، وستمس التأثيرات ثلاث عناصر أساسية هي: السلاح، أسعار الطاقة، القمح.

وإذا كان العثور على بدائل سريعة للتوريد بالقمح سهلاً بالنسبة لكل الدول المغاربية عبر الأسواق الفرنسية، أو الكندية، أو الأمريكية، فإن بدائل التسليح ستكون أكثر صعوبة وسوف تستغرق وقتا أطول وهذا سيشكل تحديا بالنسبة للجزائر، لكن بالمقابل ستكون هي وليبيا الطرفان المستفيدان من ارتفاع أسعار الطاقة، في حين سوف يستنزف هذا الارتفاع الكثير من موارد تونس والمغرب وموريتانيا وهي بلدان تعاني أصلاً من مشاكل اقتصادية متفاقمة.

_______________

مواد ذات علاقة