نسيم قبها

في نهاية الأسبوع الماضي، شهدت العاصمة الليبية طرابلس ،  تأهبًا أمنيًّا بعد تكليف مجلس النواب بطبرق فتحي باشاغا برئاسة الحكومة، ورفض عبد الحميد الدبيبة التخلي عن المنصب. وفيما أصدرت الأمم المتحدة موقفًا متواطئًا لصالح باشاغا، اكتفت الولايات المتحدة بالقول إنها تراقب الوضع ودعت كافة الأطراف إلى التهدئة.

وكون المسار السياسي الليبي قد جرى تصميمه من قبل الولايات المتحدة بتدرج منذ اتفاق الصخيرات سنة 2015 وبإشراف المبعوث الأممي مارتن كوبلر لتصفية ذيول “ثورة فبراير” وتحجيم دور “الإسلاميين” في المشهد، وصولًا إلى تشكيل حكومة انتقالية برئاسة الدبيبة للقيام بانتخابات (لم تُعقد) في شهر كانون أول/ديسمبر 2021، فإنه لا بد من فهم المستجدات المتعلقة بتكليف باشاغا بتشكيل الحكومة في ضوء ما صرحت به المستشارة الأممية ستيفاني وليامز في 13 شباط/ فبراير بعد لقائها كلًا من الدبيبة وباشاغا.

حيث أكدت بعد لقائها مع الدبيبة، “على أهمية أن تعمل جميع الأطراف الفاعلة والمؤسسات ضمن الإطار السياسي، وأن تحافظ، قبل كل شيء، على الهدوء على الأرض”. بينما شددت في لقائها مع باشاغا على ضرورة “المضي قُدمًا بطريقة شفافة وتوافقية من دون أي إقصاء، والحفاظ على الاستقرار في طرابلس وفي جميع أنحاء البلاد. وأنه يتوجب مواصلة التركيز على إجراء انتخابات وطنية حرة ونزيهة وشاملة في أقرب وقت ممكن”.

مما يدل على تأييد مُضمر لباشاغا في تشكيل حكومة جديدة تتولى عملية نقل السلطة وإقرار الدستور بعد فشل الدبيبة في مهمته، وهو الأمر الذي بدا واضحًا في تصريح وليامز أثناء لقائها مع عقيلة صالح، حيث قالت “أحاطني رئيس مجلس النواب علمًا بالآلية التي سيتبعها المجلس لمنح الثقة للحكومة الجديدة، تماشيًا مع الإجراءات التي تم تطبيقها في تصويت منح الثقة في مارس/آذار 2021”.

وإذا كانت أميركا قد سكتت عن تكليف باشاغا كما هو ظاهر في موقفها وموقف المستشارة الأممية، فإن ذلك يعني أن آلية الانتخابات لصياغة الوضع قد فشلت أو أُفشلت، وجرى توليد أزمة بتكليف حكومة جديدة لتحقيق جملة من الأهداف عن طريق العملاء في المجلس الرئاسي، وعن طريق البرلمان الذي يتحصن به فلول النظام البائد، والذين يعبرون عن الموقف الأميركي ويتولون مهمة العمل على تجريد الفصائل المسلحة من عتادهم وتأثيرهم، ويسعون إلى إعادة الشعب إلى حظيرة الطاعة، وهذا بالإضافة إلى سعي الولايات المتحدة إلى إعادة ضبط أدوار القوى الخارجية المتمثلة بروسيا وفرنسا، واحتواء حضورهما في ليبيا وتحجيم تطلعاتهما ومكاسبهما، إلى جانب مواصلة احتواء أردوغان وضبط أدائه الخارجي على مقاس المصالح الأميركية.

وبالتالي فإن تناول ستيفاني وليامز مسألة الحفاظ على استقرار الوضع الأمني الذي شكل اضطرابه عائقًا أمام الانتخابات، وتشديدها عقب لقائها مع باشاغا على “المضي قدمًا في إجراء انتخابات نزيهة في أقرب وقت ممكن”، مع بقاء اعترافها بحكومة الدبيبة يدل على استمرار أميركا في سياسة بقاء التوازن بين الشرق والغرب ومسار احتواء كافة الأطراف وبخاصة المناطق الغربية في طرابلس ومصراتة، عبر شق صفوف القوى السياسية والعسكرية في المنطقة الغربية المؤيدة لطرفي النزاع الحكومي، وهما عبد الحميد الدبيبة الذي أزعج أميركا بإقالته ربيبتها وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش، وفتحي باشاغا بيدق الغرب المتحالف مع خليفة حفتر.

وفي هذا السياق تسعى الولايات المتحدة إلى تيئيس الشعب في ليبيا وتطويعه لقيادة من الوسط السياسي المتعامل معهل ،  حتى لو اضطرت لحرق الأدوات الفاعلة على المشهد تمهيدًا لإقرار الوضع وإعادته إلى ما كان عليه قبل الثورة.

ومن ذلك تأزيمها للمشهد السياسي وتلويحها بتقسيم ليبيا عبر تعدد الحكومات واختلاف القيادات، ودفع الشعب لتقبل انتخابات محسومة النتائج مسبقًا كما حصل في الجزائر. فقد سبق وأن حذرت أميركا على لسان مبعوثها إلى ليبيا وسفيرها، ريتشارد نورلاند، نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، من “تشتيت الانتباه عن العملية الانتخابية” جراء محاولة تشكيل حكومة جديدة؛ لأن الأمر قد ينتهي إلى خلق “حكومة موازية” وتؤيدها في ذلك بريطانيا، التي صرحت سفارتها في ليبيا بأنها ستواصل الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية كسلطة مكلفة بقيادة ليبيا إلى الانتخابات، وأنها لا تؤيد “إنشاء حكومات أو مؤسسات موازية”.

ولا شك أن أميركا تستغل ولع الدبيبة برئاسة الحكومة لتأزيم الموقف وإعادة إنتاجه وإدارته، كما تستغل تعبئته الأمنية لمواجهة خصومه في تعميق البيئة الأمنية المضطربة التي أعاقت إجراء الانتخابات من أجل تبرير نزع سلاح الفصائل في طرابلس والمنطقة الغربية، وتمكين عملائها من الحكم وتعطيل رهان القوى الخارجية على القوى السياسية الليبية المتصارعة.

ولذلك أكدت الخارجية الأميركية “مواصلتها دعم العملية السياسية التي يقودها الليبيون وتلبي مطالب الشعب بإجراء انتخابات”، فيما حاولت روسيا إضعاف مركز المستشارة الأممية ستيفاني وليامز من خلال المطالبة بتعيين مندوب أممي كانت وما زالت تعرقل الولايات المتحدة ملء مقعده الشاغر في ليبيا.

وعليه فإن خطوة تكليف باشاغا بتشكيل حكومة مع بقاء الاعتراف الدولي بحكومة الدبيبة قد جمدت دور لجنة الحوار بمقتضى الواقع الذي حال دون إجراء الانتخابات، وأعادت لبرلمان طبرق دوره في ميزان القوى الداخلية وبخاصة بعد لقاء المستشارة الأممية بعقيلة صالح، كما نقلت الصراع إلى داخل المنطقة الغربية سيما مدينة مصراتة التي ينحدر منها كلا المتنافسين على الحكومة.

وهو الأمر الذي من شأنه أن يخلق بلبلة إدارية ويشل عمل مؤسسات الدولة أو يعيقها، وأن يفاقم الوضع المعيشي المتردي ويضغط على جماهير المنطقة الغربية، ويلح بضرورة لجم سلاح الفصائل وطموح الشخصيات الطامعة، ويدفع نحو الخضوع والتوافق وإجراء الانتخابات تحت الوصاية الأممية التي تمثل الإرادة الأميركية، ويجعل ما تريده أميركا هو ما يريده الشعب الليبي نفسه.

***

نسيم قبها ـ مدير مركز ذرا للدراسات والأبحاث فلسطين

____________________

مواد ذات علاقة