الفيتوري شعيب

تعدّدت الأزمات في ليبيا واختلفت مشاربها، ما بين أزماتٍ سياسية وأمنية واقتصادية، وحتى اجتماعية، بالتوازي مع الاختلاف السياسي الناشئ بين مؤسسات الدولة المختلفة، التشريعية منها والتنفيذية، الأمر الذي يقود، في حقيقته، إلى انفصام سياسي بين هذه المؤسسات، بل في داخل المؤسسات نفسها، ما جعل الأزمة في البلاد تشتد كل مرّة وتنعدم معها الأسس السياسية للحل؛

بل جعل هذا الانفصام أو حتى الانفصال من التفاعلات السياسية التي يمكن أن تنتج شيئا مُغيرا في حكم العدم، ناهيك عن الفشل المصاحب حتى في السياسات الجزئية الجانبية التي يجب أن تسير عليها الدولة.

وبالتالي، كان التجافي والتربص، بل وحتى التفكّك لهذه المؤسسات، سيد الموقف، الأمر الذي ترتب عليه أن تكون العملية السياسية في البلاد بلا راع ولا حسيب ولا رقيب، بل أشبه ما تكون بإقطاعيات تتبع فريقا سياسيا ما، يديرها كيف يشاء! بعيدا عن الدولة وسياساتها، بل وحتى سلطانها.

في ليبيا، ذلك كله واضح لكل متابع، ولا حُجب عليه، ولا مداراة، حيث تتفاعل الأحداث السياسية في البلاد، بحسب ما تقتضيه بعض هذه المؤسسات التي نخر فيها الانفصام السياسي داخليا أشدّه، ليكون أثر ذلك خارجيا على الشعب والدولة ككل، حتى أن العملية السياسية بها أصبحت تسير بنظام مغلق منذ 2014، وتتراكم معها الأزمات والاتفاقيات والحلول الهشّة التي لا تصمد كثيرا، بل تكون نهايتها في أول منعطف سياسي تدخل فيه البلاد، وليكون الحل دواليك، وتكرارا للحلول الماضية التي كانت جزءا من هذا أو ذاك الانسداد السياسي.

تتفاعل الأحداث السياسية في ليبيا، بحسب ما تقتضيه بعض هذه المؤسسات التي نخر فيها الانفصام السياسي داخليا أشدّه

وفي محاولةٍ كانت خارج هذا الصندوق، وإن أعيدت له بعد ذلك إكراها، وربما حتى تخطيطا وعودةً بالمشهد السياسي إلى الخلف، هي محاولة إجراء الانتخابات التشريعية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إلا أن هذه المحاولة سرعان ما جرى وأدها، بعملية سياسية انفصالية تمثلت في قوانين أحادية الجانب، أريد لها أن تكون توافقية!

ترتكز المشكلة السياسية في ليبيا، في منظورها العام، على انفصام سياسي تُغذّيه أطراف داخلية وخارجية، لغرض فرض أمر واقع معيّن لا تتعدّاه، وفق مبدأ المصالح الضيقة من جهة، وتقاسم السلطة بين مكونات سياسية متربعة على المشهد السياسي الليبي منذ فترة من جهة أخرى.

وبالتالي، أي محاولة حقيقية تعود بالدولة إلى قاعدتها الشعبية، وينتج عنها شكل سياسي جديد غير مرغوب فيه وفق هذا المبدأ والتصوّر، الأمر الذي سيوضع أمامه الصعوبات والعراقيل، وحتى الإفساد بطرق متعمّدة، وإن كان في ظاهرها الإصلاح والتوافق بين الأجسام السياسية الموجودة في المشهد اليوم، والتي لم يَعرف الاتفاق لها طريقا عندما كانت أقرب إليه، بل وتحكمها يومئذ مددٌ زمنية محدّدة لإنتاج قاعدة دستورية وتجديد السلطة التشريعية، فكيف يكون التوافق اليوم في غياب الأطر الزمنية وإفساد الاتفاقات السياسية المنظمة لذلك!

فساد العملية السياسية وانفصامها قد وصل إلى درجاته القصوى

وبالتالي، الدعوة إلى التوافق بين المجلسين التشريعيين في البلاد (البرلمان والمجلس الأعلى للدولة) حتمية لمزيد من الاختلال والاعتلال في الأزمة الليبية، وهذه المبادرات التي تسير في هذا الاتجاه لا جدوى منها، خصوصا أن ذلك تَكرّر مرارا، وأن هذا الترميم لا يمكن أن يخرج بالفائدة المرجوة، خصوصا في غياب القوى الضاغطة عن المشهد السياسي اليوم داخليا وخارجيا، كما كان قبل ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، والذي كان موعدا لإجراء الانتخابات في البلاد.

غير أنه يمكن، في المقابل، العمل على قاعدة دستورية، يكون فيها البرلمان والمجلس الأعلى للدولة طرفا، وليس على الانفراد، خصوصا إذا كان ذلك كله محاذيا بزخم شعبي وإرادة سياسية حقيقية، باعتبار أن فساد العملية السياسية وانفصامها قد وصل إلى درجاته القصوى، إذ استشرى المرض وانتشر في جلّ العملية السياسية في البلاد.

وبالتالي، العلاج متعسّر بالأدوات نفسها والدواء نفسه. ولا بد من إجراء عملية سياسية ترتضيها القاعدة الشعبية وتحقق آمالها في التغير وتحقيق إرادتها في اختيار السلطات الحاكمة لها، وفق رؤيةٍ واضحةٍ ومشروع حقيقي تُرى ثماره ونتائجه على الواقع، ولا يكون جزءا من هذه الدوّامات السياسية المغلقة التي تدور على نفسها، ولا تقدّم الحلول والأطر الفاعلة والحقيقية للخروج من الأزمة.

________________

مواد ذات علاقة