تبره مراجع

عند الثالثة فجراً من تاريخ السابع عشر من أيار/ مايو الجاري، استيقظ سكّان العاصمة الليبية طرابلس على دوي الانفجارات التي هزّت العاصمة وأركانها معلنةً عن وجود رئيس حكومة الاستقرار المكلفة من البرلمان الليبي، فتحي باشاغا، في العاصمة طرابلس، بشكل مفاجئ، ليغادرها على أوج السرعة بزيارة لم تتجاوز مدتها الست ساعات.

الدخول الذي أتى بشكل سرّي ومتكتَّم عنه إلى حين خروج الفيديو المصوّر الذي تحدّث فيه رئيس الحكومة، فتحي باشاغا، واصفاً وصولهم إلى طرابلس بأنه تمّ بسلام وشاكراً حفاوة الاستقبال الذي لم تُرَ ملامحه فعلاً.

بالعودة إلى موقع وجود رئيس الحكومة والوفد المرافق له خلال زيارته المفاجئة، فقد استقر الحضور داخل مقر كتيبة القوّة الثامنة الشهيرة بالنواصي والمتمركزة في قلب العاصمة طرابلس، وكتيبة النواصي تسيطر على الرقعة الشمالية الشرقية من العاصمة طرابلس التي تضم منافذ عدّةً مثل الميناء ومطار معيتيقة الدولي وتمثل ثقلاً ديموغرافياً وتاريخياً في ما يخص الهيكلية المسلحة داخل العاصمة، وكانت النواصي إحدى القوّات البارزة في الحروب السابقة التي جرت فيها، كما أنّها تحمل أيديولوجيا إسلاميةً نتيجة انتماء أفرادها إلى التيار السلفي الوسطي. ولكن السؤال هو ما الذي يجعل تشكيلاً مسلّحاً بهذا الثقل يقرر على وجه المفاجأة دعم حكومة الاستقرار ويشارك عبر صفحاته دعمه دخولها إلى طرابلس؟ ولماذا اختير مقرها كنقطة تواجد؟

مغادرة باشاغا طرابلس لم تكن متوقعةً خصوصاً أنّ حكومته كانت تحاول جاهدةً منذ حصولها على الثقة من قبل البرلمان الدخول إلى العاصمة، إذ كان هنالك ظهور مفاجئ للتشكيل المسلّح المعروف باسم اللواء 444 قتّال، الذي يرأسه محمود حمزة والذي تولّى عمليّة تأمين ممر آمن لمغادرة فتحي باشاغا

الكتيبة التي يترأسها القيادي مصطفى قدور، الذي يشغل في الوقت عينه منصب نائب رئيس جهاز المخابرات الليبية، هو ابن عم وزير الخارجية المكلّف بحكومة الاستقرار، حافظ قدور، وهو أحد الأسماء البارزة في حقبة الرئيس معمّر القذافي على المستوى الخارجي، وقد قام بتنفيذ عملية التنسيق في ما يخص زيارة الرئيس فتحي باشاغا والوفد المرافق له بالتنسيق مع ابن عمّه مصطفى الذي حاول كسب نقطة في سباق الوصول إلى دكّة صنع التاريخ وفق نظرتهم.

ولكن مع الأسف لم تكن القراءات موفّقةً هذه المرّة، فبعد مغادرة رئيس الحكومة ووفده المكوّن من وزير الخارجية ووزير الصحة الذي يشغل منصب الناطق الإعلامي في حكومة الاستقرار، انطلق عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية القابعة في العاصمة طرابلس، في خلق خطوط دفاع جديدة. فبصفته وزير الدفاع في حكومته نظراً لشغور هذا المنصب خلال فترة وجود حكومته نتيجة الخلافات الحادّة على أحقيّة هذا المنصب قرّر شغله بنفسه لإنهاء الجدلأعفى رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الليبية أسامة الجويلي، بقرار وزاري، ليعيّن مكانه النائب الخاص به لمتابعة سير مهام الجهاز، في إشارة إلى إقصاء الجويلي أحد الداعمين لفتحي باشاغا.

في السياق عينه، قام حسين العائب بإقالة مصطفى قدور من منصب نائب جهاز المخابرات وسحب التكليف منه. ويُذكر أنّ حسين العائب أحد ضبّاط جهاز المخابرات الخارجية السابقين وعُرف حينها بأنّه أحد الضباط البارزين في مهام التصفية الجسديّة للمعارضة الليبية في الخارج، والتي من أبرزها حادثة تفجير ملهى برلين عام 1986، الذي لاقى فيه مدنيون وعسكريون معارضون لنظام معمّر القذافي مصرعهم. العائب بدأ بقيادة جهاز المخابرات بعد تكليفه من قبل المجلس الرئاسي في عام 2021، خلفاً لعماد الطرابلسي القائد العسكري المعروف لكتائب مدينة الزنتان.

مغادرة باشاغا طرابلس لم تكن متوقعةً خصوصاً أنّ حكومته كانت تحاول جاهدةً منذ حصولها على الثقة من قبل البرلمان الدخول إلى العاصمة، إذ كان هنالك ظهور مفاجئ للتشكيل المسلّح المعروف باسم اللواء 444 قتّال، الذي يرأسه محمود حمزة القيادي البارز والذي تولّى عمليّة تأمين ممر آمن لمغادرة فتحي باشاغا ووفده من العاصمة بعد تفعيل هدنة كانت بنودها واضحةً بأن يتوقّف الهجوم فقط إذا ما غادر فتحي باشاغا طرابلس، وهو ما يجعل جزءاً من النص مفقوداً، فكيف لجهاز تابع لرئاسة أركان حكومة الوحدة الوطنيّة أن يؤمّن رئيس حكومة مضادّة ويضمن سلامته وسلامة رفاقه؟

رفض رئيس حكومة الوحدة الوطنيّة عبد الحميد الدبيبة، التسليم بشكل سلمي خلال المرّات العديدة التي طُلب منه فيها ذلك، حتى وفق وساطات دوليّة ما جعل المهمّة أصعب على باشاغا وأفراد حكومة الاستقرار في ما يخص دخول العاصمة، خصوصاً أنّ عبد الحميد لم يخفِ رفضه مغادرة كرسي الحكومة منذ بدء أعمال تشكيل حكومة الاستقرار، فخلال فترة اعتماد الحكومة تم اختطاف جزء من الوزراء المكلفين بحكومة الاستقرار من قبل قوات تابعة لعبد الحميد الدبيبة، وبأوامر مباشرة منه لغرض عرقلة عملية أداء اليمين واعتماد الحكومة، لتمتد الأعمال إلى قطع خطوط الطيران وإغلاق الطريق الساحلي الرابط بين شرق ليبيا وغربها.

في مكالمة حصريّة لموقع رصيف22، مع إحدى الشخصيّات المقربة من فتحي باشاغا، والذي كان مرافقاً له في أثناء عمليّة دخوله إلى طرابلس، أبلغنا فيها أنّ عملية الدخول كانت وفق ترتيبات أمنيّة وبطريقة سلميّة: “لقد دخلنا طرابلس بشكل سلمي ومن دون حمل قطعة سلاح واحدة، وذلك بعد إجراء العديد من الاجتماعات واللقاءات والترتيبات اللوجستية لضمان عدم التعرّض لأي مظاهر مسلحة وتجنيب العاصمة وأهلها أي نزاعات، وهو ما وعد به رئيس الحكومة منذ اليوم الأول.

تفاجأنا اليوم ومع ساعات الصباح الأولى بسماع أصوات إطلاق النيران وتعرّض مقر الكتيبة الثامنة للهجوم من قبل المليشيات التابعة لحكومة الوحدة الوطنيّة المنتهية ولايتها، والحكومة دخلت براً ولم تتعرّض لأي عملية اعتراض من أي تشكيل أو فرد بل على العكس كان الترحيب هو عنوان الليلة“.

كشفت إحدى الشخصيّات المقربة من فتحي باشاغا لرصيف22، أنّ عملية الدخول كانت وفق ترتيبات أمنيّة وبطريقة سلميّة ومن دون حمل قطعة سلاح واحدة، وذلك بعد إجراء العديد من الاجتماعات واللقاءات والترتيبات اللوجستية لضمان عدم التعرّض لأي مظاهر مسلحة وتجنيب العاصمة وأهلها أي نزاعات

وفي وصف الخطوات القادمة أضاف: “ستباشر الحكومة عملها من داخل مدينة سرت، مثلما كان مقرراً لها، وسنعمل على تنفيذ أجندة الحكومة المناطة بها. لقد غادرنا طرابلس حقناً للدماء ولن نندم يوماً على وضع مصلحة الوطن والمواطنين فوق كل اعتبار. حكومة الاستقرار لها مهام محددّة على رأسها الانتخابات وهو ما سنعمل جاهدين على تنفيذه، أمّا في ما يخص حكومة الوحدة الوطنية فهي حكومة منتهية الولاية وفاقدة لكل أسس الشرعية وما حدث ليلة أمس خير دليل على أنّ الحكومة ستحتكم إلى أي شيء في سبيل البقاء في السلطة“.

ردود الفعل الدولية لم تختلف عن سابقاتها، فبين التنديد ورفض استعمال القوة، تبادلت البعثات الدبلوماسيّة الأدوار في نشر بياناتها الصحافية التي تقف بها في المنطقة الرماديّة، فلا نجد دعماً لطرف على حساب آخر، أو حسماً لفوضى التكليفات التي تتصارع الحكومتان منذ أكثر من ثلاثة أشهر على أحقيّة إحداهما على الأخرى أو شرعيّة أيّ منهما. أمّا الأمم المتحدة فهي الأخرى لم تصل إلى أي مخرجات حقيقيّة خلال مشاورات القاهرة التي جمعت المجلسين، الأعلى والنواب، سوى مزيد من التأكيد على أهميّة إجراء الانتخابات كحل للأزمة السياسية الليبية.

في ختام اليوم، أتت تصريحات رئيسي الحكومتين مليئةً بالاتهامات والتحذيرات والتأكيدات على الأحقيّة المذكورة في التصريح بقيادة الدول الليبية إلى بر الأمان. وبين هذا وذاك وجد المواطنون أنفسهم عالقين كعادتهم وعاجزين عن تغيير واقعهم المرهون برصاص من يحمونهم أو يقتلونهم، حسب الحاجة والزمان وما تحتكم إليه الظروف.

______________________

مواد ذات علاقة