العرْبي العرْبي

فرض الوضع بعد الثورة الحديث عن مشروع بناء المؤسسة العسكرية الغائبة وإصلاحها ضمن إطار أي تحول إو إصلاح سياسي جديد، حيث تفكك الجيش إلى ميليشيات تتجاذبها التركيبات القبلية، وعجزت السلطة السياسية ممثلة في المجلس الوطني الانتقالي عن السيطرة عليها، فلم تقبل التخلّي عن السلاح، ورأت فيه الضامن الوحيد للحصول على السلطة.

وتقوم هذه الميليشيات المسلحة بدوريات في الشوارع بحجة حماية البلاد وضمان الأمن، منتهكة حقوق الإنسان، غبر آبهة بقرارات الحكومة المؤقتة، بل تمتعت بسلطات أكبر من سلطة حكام ليبيا الرسميين. وشجعتها حصانتها من العقاب على المزيد من الانتهاكات، وأدّت إلى استمرار إنعدام الأمن والاستقرار في ليبيا.

يكمن الإشكال العويص في كيفية توحيد الجهود بين الكتائب المتعددة في الساحة الليبية، وبناء مؤسسة عسكرية موحدة وضبط علاقاتها المدنية في إطار الدولة الديمقراطية.

جنّدت ليبيا عددا من الذين ساهموا في إسقاط القذافي، وطلبت من المحيط الإقليمي والدولي تقديم يد العون والمساعدة، فأعلنت الجزائر قبولها المساعدة في تشكيل الجيش وتدريب الشرطة الليبية. كما ساهمت مصر في تدريب القوات الجوية والعتاد الجوي، ووقعت عقود تدريب للقوات الجوية الليبية في بريطانيا وفرنسا.

كما حاولت تركيا، كونها أول دولة أقامت علاقات دبلوماسية مع المجلس الانتقالي، تقديم الدعم العسكري والفني قصد إنجاح المرحلة الانتقالية. لكن هذا التهافت لتكوين الجيش الليبي، يرى بعض المتخصصين في الشأن الأمني أنه يوجد مؤسسة عسكرية يغيب فيها الولاء القبلي، لكنها تؤسس لعلاقات يحكمها الولاء الأجنبي.

يعد تشكيل مؤسسة عسكرية لا تتدخل في الحياة السياسية وتعمل على حماية الحدود والدفاع عنها، تحديا يعترض قيام دولة قيام دولة ليبية ديمقراطية فيها اختلاف في التيارات السياسية وتنوّع في توجهاتها، وتهديدات أمنية تقليدية، وأخرى لا تماثلية جديدة، فرضها الإنفلات الأمني على دول الجوار، الساحل الأفريقي والمنطقة المتوسطية.

أدّى تدهور الوضع الأمني وتأخر بناء مؤسسات أمنية بهذه الميليشيات إلى السيطرة على أرض الواقع، والتحدي الصارخ للحكومة والمؤتمر الوطني الذي تعرض للإقتحام وتعطيل أعماله بصورة متواصلة، على نحو دفع بعض أعضائه إلى تقديم استقالته خوفا على حياته.

أما مؤسسات الحكومة، فكانت مسرحا للإقفال والاقتحام، ومُنع الموظفون من الدخول إليها، كما تعرّض وزراؤها للإعتداء، وممتلكاتها للنهب والتدمير، إلى جانب الارتباط الوثيق بينها وبين الإرهاب والأعمال الإجرامية.

منذ سقوط نظام القذافي انتفى الإجماع حول أي شيء، وتضاعفت النزعة القبلية، الجهوية والإثنية، وبرز الاقتتال، واتخذ الصراع طابعا إثنيا، خصوصا ما جرى في أواخر عام 2012 ، 2013. وأصبح بناء الجيش مجالا للتنافس والصراع وتبادل الاتهامات بالعمالة للخارج، بينما يزداد عدد التشكيلات والكتائب المسلحة.

كما واجهت عملية إدماج المسلحين في الجيش والسلطة، الكثير من التساؤلات: هل تتم بطريقة منفردة؟ أم بجماعات متكاملة؟ وما يحمل ذلك من تهديدات لتماسك بنية المؤسسة العسكرية والأمنية وتمثيلها للوطن وخضوعها للعرف العسكري، إلى جانب التخوف من تسرب عناصر متطرفة، وتأثيرها في مؤسسات الجيش والأمن لمصلحة قوى سياسية أو مناطقية معينة.

ربما كان نموذج السيسي مغريا لبعض الأطراف في ليبيا، فالأوضاع ازدادت سوءاً في منطقة سرت، مثلا، حاولت الكتيبة 166، وهي قوات عسكرية وموظفون موالون لحكومة طرابلس، السيطرة على وسط مدينة سرت والجامعة وغيرها من المناطق الموالية، مستعملة نحو 300 مدرعة عسكرية، كان الهدف منها القضاء على القوات المعادية للثورة، ما يعزز الحرب الأهلية في ليبيا، ويزيدها تأجيجا. فليبيا اليوم تواجه مؤسستها العسكرية عراقيل وتحديات يمكن إجمالها في التحدين التاليين:

التحدي الأول: وجود عدد كبير ممن يرغبون في الانضمام إلى الجيش والمؤسسة الأمنية، ولهم ولاءات قبلية ومناطقية ضيقة، ولم يبدوا رغبة في التنازل عن أسلحتهم، بل أعلن بعضهم تشكيل أحزاب سياسية مسلحة، معلنين عدم تسليم أسلحتهم حتى إقرار الدستور الجديد.

ولم تنجح المؤسسات الرسمية المؤقتة في إنهاء فوضى السلاح وسحبه من الكتائب والمدن، بل أرادت فرض توجهاتها على صانعي القرار، ضاربة عرض الحائط رفض الرأي العام هذه المظاهر كلها، ودعوته إلى حلّ جميع التشكيلات المسلحة وحصر السلاح في يد الجيش والأمن.

التحدي الثاني: إشكالية ضم المحترفين في النظام السابق، حتى إن كانت أياديهم نظيفة، وبروز الاختلافات السياسية والمناطقية حول هذه المسألة وكيفية حلها، خصوصا بعد لجوء بعض القادة السياسيين إلى تشكيل مجموعات مسلحة تحت قيادتهم، أو تأييدهم قوى عسكرية قائمة.

فنجح بعض منها في فرض إرادته على المؤتمر الوطني، قصد إصدار تشريعات تحت تهديد السلاح. إلا أن قرارات المؤتمر الوطني للمصالحة المنعقد في بنغازي، في 28 يوليو 2011، رفضت أي حوار أو مشاركة لم عمل في النظام السابق، حتى إن شارك في الثورة ضده، وتجسيد نظام العزل السياسي.

لم تكتف المؤسسة العسكرية في ليبيا، عكس نظيراتها في دول عدة من الربيع العربي، بإسقاط النظام ورئيسه، بل أحدثت تغييرا جذريا في النظام السياسي، حيث نجحت القوات الموالية للثورة في الفترة أغسطس 2011 – مايو 2014 في أحداث تغييرات كبيرة في الوضع الراهن، ومنها إعلان خليفة حفتر في مايو 2014 إنقلابه عبر وسائل الاعلام، فزادت حدة الصراعات المتعددة الأبعاد، وجعلت الخيار المسلح في المقام الأول لبدائلها، فكان الانقسام، وظهور حكومة في طبرق تتكون من تحالف غير متجانس لفصائل مسلحة وقوات جهوية، وعناصر مؤيدة للثورة مع قوات بقيادة خليفة حفتر.

كما هاجمت قوات فجر ليبيا وحلفاؤها في 14 ديسمبر 2914 منطقة السرير، وهي أكبر محطة نفطية في ليبيا، وأكبر مصفاة في منطقة راس لانوف، وكانت أكبر معركة بين الحكومتين المتنافستين، حيث استخدمت قوات فجر ليبيا (تحالف يضم كتائب مصراتة وغرفة عمليات ثوار ليبيا وقوات ردع وسط ليبيا وكتائب من الزاوية وفرسان جنزور) ما يقارب 300 مدرعة حربية، وذلك في خضم التجاذبات السياسية التي تتحكم فيها النزعات القبلية، جعل هذا الصراع أمر الجلوس إلى مائدة التفواض والتوافق على خارطة طريق بين الفصائل المختلفة من الأمور التي ليس من الهين تجاوزها في الساحة السياسية الليبية.

حاول، آنذاك، مبعوث الأمم المتحدة ليون أن يجمع للمرة الثانية كلا من ممثلي فجر ليبياو مجلس النوابو المؤتمر الوطنيلمناقشة خارطة الطريق: حكومة وحدة وطنية، وتحقيق الاستقرار في البلاد بوقف أطلاق النار، ووضع دستور جديد. إلا أن المحاولة لم تنجح بسبب الملفات المعقدة (ملف الكتائب المسلحة، وملف قيام مؤسسة عسكرية موحدة).

إن غياب جيش نظامي في مرحلة القذافي، جعل الأمور تزيد تعقيدا، وفسح المجال أمام الكتائب المسلحة لتكون حاجزا أمام تغول العسكر، وغدا بناء جيش وطني حديث ليس أمرا سهلا، فبناء دولة ديمقراطية، يعني بناء مؤسسة عسكرية بمواصفات حديثة، تنأى بنفسها عن التناحر السياسي وتقوم بالحفاظ على مؤسسات الدولة المدنية وتدافع عن الحدود ضد التهديدات الخارجية.

إن التحدي الأكبر بالنسبة إلى الجيش الليبي يكمن في الطريقة المثلى لبناء جيش لا يتدخل في السياسة من خلال توحيد الكتائب المسلحة كلها، والقضاء على التجاذبات السياسية التي تتحكم فيها النزعات القبلية والمناطقية والجهوية.

وبناء عليه يمكن تقديم بعض التوصيات قصد تفادي المزيد من التصادم العسكري السياسي، ومنها:

ـ ضرورة تجنب إنشاء جيش الشخص أو الفئة أو الحزب أو القبيلة أو المدينة أو الإقليم، بل جيش يدافع عن الدولة المدنية ويصون الوطن كله، فيجسد الاستقرار في المؤسسة العسكرية، ويجعل قوتها تراكمية لا تجهضها أي عملية تغيير سياسي.

ـ السهر على تحييد العمل السياسي عن المؤسسة العسكرية، وفصل كل من تحزب أو تمذهب فيها.

ـ .الحرص على استقلالية المؤسسة العسكرية في تسيير شؤونها وضبط علاقتها بالسلطة السياسية.

ـ تفادي استبعاد المكونات الشعبية والشرايح المجتمعية في نسيج المؤسسة العسكرية.

ـ وضع كوتا، حيث لا تتجاوز نسبة أي طائفة أو قبيلة أو مدينة نسبة معينة في المؤسسة العسكرية وفقا لعدد السكان العام، ما يؤدي إلى إيجاد نوع من الحياد نسبيا.

ـ خروج العسكريين من جميع الوظائف المدنية للدولة، قصد تعزيز مدنية الدولة.

ـ تحدي التداخل بين الجيش والمؤسسات الأمنية، وضرورة التنسيق بين مختلف الوحدات.

ـ ترسيم جديد للأدوار الخارجية والداخلية للمؤسسات الأمنية، وتحديد مجالات التقاطع بين الجيش ومختلف الأجهزة الأمنية.

____________________

المصدر: جزء من مقال (المؤسسة العسكرية في ميزان الثورتين التونسية والليبية) ـ مجلة سياسات عربية ـ العدد 37 (2019)

مواد ذات علاقة