محمد عبد الحفيظ الشيخ

الجزء الثاني

رابعًا: تبعات تأجيل الانتخابات الليبية وردود الأفعال المتباينة

بعد الإعلان رسميًا عن تأجيل الانتخابات في ليبيا، أشار عماد السايح رئيس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات إلى أن أمر التأجيل يعود بالأساس إلى قصور التشريعات الانتخابية في ما يتعلق بدور القضاء في الطعون والنزعات الانتخابية، الأمر الذي انعكس سلبًا على قرارات المفوضية في الدفاع عن قراراتها وأوجدت حالة من عدم اليقين، وخصوصًا في ما يتعلق باستبعاد بعض المرشحين الذين لا تنطبق عليهم شروط الترشح للانتخابات .

وفي السياق نفسه، لفت رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، إلى أن غياب قاعدة دستورية وقوانين توافقية «سبب فشل هذا الاستحقاق الآن». الذي أوضح أن العملية الانتخابية تتطلب أولًا، دستورًا دائمًا أو قاعدة دستورية، وثانيًا قوانين توافقية تضمن عملية نزيهة. وثالثًا ضمان القبول بالنتائج.

وكردّ فعل على تأجيلها طالب 19 مرشحًا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية بإجرائها في أسرع وقت، بوصفها استحقاقًا وطنيًا لجميع الليبيين، وطالبوا المفوضية الوطنية العليا للانتخابات بالإعلان عن القائمة النهائية للمرشحين للرئاسة والكشف عن أسباب عدم إجراء الانتخابات في موعدها المحدد.

عقب ذلك، أصدر مجلس النواب الليبي في 22 كانون الأول/ديسمبر قرارًا يفضي بتأليف لجنة من 10 أعضاء تتولى إعداد مقترح لخارطة طريق ما بعد 24 كانون الأول/ديسمبر، هذا وطالبت هيئة رئاسة مجلس النواب اللجنة في قرارها الرقم (13) لسنة 2021، بتقديم تقريرها إلى مكتب هيئة الرئاسة خلال أسبوع لعرضه على المجلس لاحقًا. يأتي هذا القرار بعد اقتراح المفوضية الوطنية العليا للانتخابات على مجلس النواب تأجيل الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لشهر واحد، وذلك بعد أن تعذر تنظيمها في موعدها المحدد في 24 كانون الأول/ ديسمبر 2021 .

استقبلت الولايات المتحدة، من جانبها، قرار تأجيل موعد الانتخابات الليبية «بخيبة أمل»، وقال السفير الأمريكي في ليبيا ريتشارد نورلاند، «يجب أن يكتسي العمل باتجاه الانتخابات أولوية، بما يتماشى مع رغبات عموم الليبيين القوية»، مشددًا على أهمية «معالجة جميع العقبات القانونية والسياسية أمام إجراء الانتخابات، بما في ذلك وضع اللمسات الأخيرة على قوائم المرشحين للانتخابات الرئاسية».

وأشار إلى أن الحكومة الأمريكية تدعم العملية الانتخابية بكل ما تستطيع لتسير ليبيا نحو الاستقرار. وحول موقف بلاده من تأجيل الانتخابات، ذكر نورلاند أن السيناريو الأفضل هو الذي تتوافق عليه جميع الجهات ذات العلاقة في ليبيا. وطالبت السفارة الأمريكية لدى ليبيا، الأطراف الفاعلة بالإسراع في معالجة العقبات التي تواجه العملية الانتخابية.

وقالت في بيان إنه «يتعين على القادة الليبيين، ونيابة عن الشعب، معالجة العقبات القانونية والسياسية لإجراء الانتخابات. ولوّح نورلاند «بعقوبات أمريكية ودولية ضد كل جهة تهدد باستخدام العنف أو حرضت بشكل مباشر على تعطيل الاستحقاق الانتخابي وبث الفوضى في ليبيا»، قائلًا إنهم سيكونون «عرضة للعقوبات ليس من الولايات المتحدة فحسب، بل من المجتمع الدولي أيضًا».

رد الفعل الأمريكي لم يكن وحده عقب إعلان المفوضية الوطنية العليا للانتخابات تأجيل الاستحقاق الانتخابي الليبي، بل تبعه رد فعل آخر من دول الاتحاد الأوروبي، وفي إطار موقف غربي مشترك وقعته حكومات كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا التي تنسق مجتمعة المواقف من الملف الليبي.

قالت إنها تدعم بقوة الاستحقاق الانتخابي الليبي وتدعم عمل المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز. وحذرت من الخطوة المقبلة نتيجة تأجيل الانتخابات. كما أعربت عن أملها في استئناف عملية التشاور السياسي بين ما أطلق عليها مراكز القوى المختلفة في ليبيا وتحديد موعد جديد للانتخابات، وأكدت أنها فعلت كل ما في وسعها لمرافقة هذه العملية نحو الديمقراطية في ليبيا، وستواصل فعل كل ما يلزم حيال ذلك، مؤكدة أن الإخفاق في إجراء الانتخابات في موعدها يعود إلى تعقيدات مؤسسية ليبية، لعل من بينها المادة (12) التي وصفها الكثير من المرشحين بــ «المثيرة للجدل».

في 10/2/2022، اختار مجلس النواب الليبي، وزير الداخلية الأسبق فتحي باشاغا كرئيس للحكومة الليبية الجديدة في عملية تصويت أثارت الكثير من علامات الاستفهام وهي من شأنها تأجيج الصراع على السلطة في ليبيا. بدأ باشاغا مشاوراته وقال إنه يعتزم تأليف حكومة كفاءات جامعة بمشاركة كل الأطراف السياسية والمناطق في البلاد، تكون مهمتها الأولية الترتيب لإجراء انتخابات ضمن مواعيد محددة.

بيد أن صعوبات كثيرة تواجه باشاغا لتسلم السلطة من رئيس الحكومة «الدبيبة»، الذي يرفض تسليم السلطة، وشدّد على أنه باقٍ في منصبه إلى حين إجراء انتخابات في البلاد، وهو ما قد يؤدي إلى إعادة المشهد السياسي إلى مربعه الأول من الاحتراب ومزيد من الاختلاف وحتى الانقسام.

خامسًا: تحديات التعطيل داخليًا وخارجيًا

حتى كتابة هذه السطور، لم يظهر ما يشير إلى نجاح الحكومة الليبية في تحقيق أي إنجاز يذكر في شأن المهمات المنوطة بها خلال الأشهر التسعة الممنوحة لها، إذ تواجه حكومة الدبيبة، مجموعة تحديات داخلية وخارجية، من أبرزها:

1 – إعادة توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية

تمثل عملية توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية تحت سلطة تنفيذية واحدة، ونزع سلاح الميليشيات خارج سلطة الدولة، وإنهاء الفوضى الأمنية، أبرز التحديات التي تواجه الحكومة الليبية ما بعد انتهاء الصراع. ويعد تفكيك الميليشيات المسلحة في ليبيا التي يناهز عددها الـــ 300 مجموعة مسلحة، تحديًا كبيرًا أمام الحكومة التي تعهدت في وقت سابق بإيلاء هذا الملف أولوية قصوى، وخصوصًا أنها تعد العامل الأبرز وراء تعطيل العملية السياسية وما تمثّله من خطر يهدد أمن ليبيا واستقرارها؛ إذ يعزز نجاح هذه العملية من فرص تحقيق الاستقرار والسلم الأهلي في ليبيا، وتوفير السبل الكفيلة بمنع تجدد العنف وعودة الصراع. وهو ما يتطلب لتجاوزه إرادة سياسية صلبة، واستعدادًا للتنازل عن المغانم السياسية والمادية التي تم تحصيلها بفعل الاستثمار في الانقسام.

2 – تحديات تعيق المصالحة الوطنية

تعدّ الانتخابات مخرجًا لمعالجة الشروخ السياسية والاجتماعية التي تسببت بها حالة الانقسام والتشظي بين أطياف المجتمع الليبي. بيد أن إجراء الانتخابات يفترض أن تجري بعد حل هذه الشروخ من خلال التسويات السياسية والمجتمعية وغيرها. إن من شأن إنجاز المصالحة والخروج من حالة الانقسام أن يسهم في التخفيف من حدة التوترات ويعود بكثير من النتائج الإيجابية على ليبيا وشعبها. وعليه، فإن إجراء الانتخابات من دون حل هذه القضايا، قد يزيد الأزمة تعقيدًا بل ويفاقمها، كما تبيّن في حالات متعددة.

التحدي الأهم الذي سيواجه الحكومات الليبية المتعاقبة، الانقسام السياسي وعدم الاتفاق على عدة قضايا مهمة وخصوصًا في ما يتعلق بالقيادة العامة للجيش الوطني الليبي وموقع المشير خليفة حفتر في الترتيبات الجديدة، وتعد مهمة قيادة الجيش الملف الشائك والمعقد وراء عرقلة مسار التسوية والمصالحة.

3 – عقبات تعترض طريق إجراء الاستحقاق الانتخابي

تمثل الخلافات حول القاعدة الدستورية والقانونية التي سوف تجري الانتخابات وفقها، عقبة في طريق الاستحقاق الانتخابي. فقد أثيرت حولها الكثير من القضايا والمسائل الجدلية التي قد تؤثر في تحقيق أهداف ومقاصد الاستحقاق الانتخابي من بينها التوقيت الأفضل لإجراء الانتخابات.

فقد طرحت فكرة تأجيلها، مع وجود محاولات أخرى لعرقلتها، وتبقى الإشارة هنا إلى مسألة ذات علاقة بمسألة توقيت الانتخابات وهي الخاصة بأسبقية إجراء الانتخابات البرلمانية وإن كانت الخلافات في شأنها أقل حدة. إلا أن أبرزها تركزت حول موعد إجراء الانتخابات الرئاسية.

يبدو أن الهدف من إثارة مثل هذه المسائل الخلافية والدفع بها إلى واجهة السجال السياسي لا تخرج عن المناورات السياسية التي تستهدف وضع المزيد من العراقيل للحؤول دون تهيئة الأجواء الملائمة لتنظيم الانتخابات التي كان من المفترض إجراؤها في 24 كانون الأول/ ديسمبر 2021.

إضافة إلى أن هناك أطرافًا خارجية لا تريد للانتخابات والمصالحة الوطنية الليبية النجاح. لذلك، تبقى المخاوف من أن تتحول هذه الانتخابات من وسيلة لتجاوز هذه الأزمة إلى أداة لتكريسها وربما تعميقها.

كما أن المآلات المتوقعة للمسار السياسي الليبي في ظل هذه الظروف وتحديد موعد جديد للانتخابات من دون وجود مرجعية دستورية، ربما يفتح الباب مجددًا أمام انسداد سياسي جديد قد تكون طرق الخروج منه أكثر تعقيدًا، وعبر سيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات الداخلية والإقليمية وحتى الدولية منها.

4 – التحديات الخارجية

لا شك في أن العامل الخارجي كان له الدور الرئيسي في صوغ المشهد الليبي ببيئته الاقتصادية والسياسية والأمنية المنكشفة والتابعة، وأتاح له اللعب على تناقضات الأطراف المنقسمة والمتصارعة للمضي في تنفيذ مشاريعه السياسية وفي خلق وقائع جديدة على الأرض، حيث لم تعد أطراف المعادلة السياسية الليبية، في ظل انقسامها قادرة على إدارة علاقاتها وتجاوز خلافاتها بصورة مباشرة، الأمر الذي عرّض البلاد لضغوط وتأثيرات الأطراف الخارجية الساعية لتحقيق مصالحها، حتى لو كان ذلك على حساب الشعب الليبي ومصالحه الوطنية العليا.

وتأتي مسألة إجلاء القوات الأجنبية من الأراضي الليبي البالغ عددها 20 ألف عنصر مسلح، قضية مهمة أخرى للحكومة الليبية الجديدة، ومن أهم التحديات التي سوف تواجهها، وخصوصًا أن المهلة المحددة انتهت من دون أن تتمكن اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5)، الناتجة من اتفاق 25 تشرين الأول/أكتوبر 2020، من إجبار تلك القوات على مغادرة الأراضي الليبية، وهو ما ينبئ بإمكان عودة الصراع المسلح.

خاتمة

رغم إصرار وتأكيد المجتمع الدولي أهمية وضرورة تهيئة الأجواء المناسبة لإجراء الانتخابات الليبية في موعدها الذي كان مقررًا في 24 كانون الأول/ديسمبر 2021، كون الانتخابات نقطة انطلاق نحو تحقيق التوافق الوطني، والحؤول دون أن تتحول إلى سبب جديد من أسباب المواجهة والصراع، فإن عدم قدرة حكومة الوحدة الوطنية على التصدي للتحديات السياسية والأمنية والاجتماعية بحيث وقفت عاجزة عن تحقيق أي إنجاز حقيقي يذكر في مسار حل الأزمة الليبية القائمة ضمن الحيز الزمني الممنوح لها وفق خارطة الطريق، فضلًا عن حدّة التدخلات الخارجية، وعدم توافر إرادة دولية حقيقية، كلها عوامل أسهمت في تعطيل سير العملية الانتخابية بل وتأجيلها.

تبقى المشكلة الجوهرية في أن نخبًا نافذة تخشى تنظيم الانتخابات وما ستفرزه نتائجها، وهو ما يجعل احتمالية استثمار أي ارتباك أو أزمة فرصة كبيرة لإفشال العملية الانتخابية مستقبلًا. إن من شأن ذلك إعادة مشهد الانقسام وأزمة الشرعية مجددًا، وهو ما قد يندر بانتكاسة لن تضع مصير الاستحقاق الانتخابي الليبي على المحك فحسب، بل سيدخل البلاد في مرحلة انتقالية جديدة، وبما يهدد الدخول في أتون حرب أهلية واقتتال داخلي، ويبعد البلاد من الانتخابات ربما لسنوات.

وهو ما يحتاج إلى ضمانات وازنة من القوى الفاعلة في المنظومة الدولية كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا حتى يمكن كبح التدخلات الخارجية لضمان نزاهة واحترام العملية الانتخابية وما تفرزه من نتائج، مع تشديد العقوبات على المُعرقلين أو كل من يمثّل تهديدًا للعملية الانتخابية برمتها.

فمن المرجح أن تتزايد الضغوط الدولية على الأطراف المحلية والخارجية الفاعلة في المشهد الليبي، على التوافق حول موعد نهائي يحظى بدعم جميع الأطراف ويضمن تجنب الثغر القانونية والتحديات الأمنية التي واجهت عملية التنظيم لأول انتخابات رئاسية في تاريخ ليبيا.

لا يزال المشهد الليبي تسيطر عليه حالة من الضبابية. ولم يتضح بعد ما إذا كانت التطورات الراهنة المتعلقة بتأليف حكومة جديدة يمكن أن يفضي إلى تأجيج الصراعات الداخلية داخل الغرب هذه المرة، أم أنها يمكن أن تعزز الجهود المبذولة لضمان التوحد بين النخب السياسية والمؤسسة العسكرية في شرق البلاد وغربها.

وفي الحصيلة، إن توافر إرادة حقيقية لدى الفرقاء الليبيين لتحقيق المصالحة وحشد الجهود والطاقات لمواجهة الأخطار التي تستهدف الدولة الليبية، كفيل بأن يذلل العقبات، ويفتح آفاقًا رحبة أمام دخول مرحلة جديدة من التعاون وتكامل الأدوار، وإعادة بناء المؤسسات والخروج من حالة الانقسام إلى غير رجعة. إن الرهان بالأساس يظل على عاتق الأطراف الليبية، وهي المستفيد الأول من الاتفاق السياسي، وهي المتضرر الأكبر من حالة التشرذم والصراع والاستنزاف الداخلي.

من هنا، يمكن تقديم بعض المقترحات لتعزيز فرص نجاح الاتفاق السياسي والخروج بليبيا من أزمتها الراهنة، التي تتمثل في الآتي:

1 – اعتماد الحوار والتوافق خيارًا استراتيجيًا من جانب القوى الليبية كافة، لا أن يكون خيارًا تكتيكيًا مرحليًا تفرضه متغيرات ومصالح آنية ضيقة.

2 – اعتماد الانتخابات المقبلة كنقطة انطلاق نحو تحقيق الوحدة الوطنية والتوافق الوطني وإعادة ترتيب البيت الليبي، والحؤول دون أن تتحول من نقطة التقاء إلى نقطة تزيد من مساحة التباعد والخلاف.

3 – الضغط على الأطراف الخارجية لوقف تدخلاتها السلبية في ليبيا ومحاولاتها وضع العراقيل أمام إجراء الاستحقاق الانتخابي المقبل.

4 – مشاركة القوى الدولية الفاعلة في الإشراف على سير واستكمال العملية الانتخابية حتى نهاية حلقاتها، بما يضمن نزاهتها وشفافيتها، ويحول دون أي عملية تزوير لإرادة الناخبين، بحيث ينضوي في إطارها جميع قوى الشعب الليبي.

5 – قبول نتائج الانتخابات واحترام إرادة الشعب الليبي، في اختيار قياداته، وتجنُّب التعامل بازدواجية مع إرادة الناخبين ونتائج العملية الديمقراطية.

***

 د. محمد عبدالحفيظ الشيخ ـ عميد كلية القانون، جامعة الجفرة ـ ليبيا

______________

مركز دراسات الوحدة العربية

مواد ذات علاقة