عندما بدأت أسعار النفط العالمية في الانخفاض انخفاضاً طفيفاً الأسبوع الماضي، تبيَّن أن الفضل في ذلك يرجع إلى دولة لم يكن كثير من المراقبين يرشحونها للقيام بهذا الدور. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قد حثَّت السعودية على ضخ كميات أكبر من النفط لتخفيف ضغوط السوق، فإن المملكة لم تستجب حقاً لتلك الطلبات على نحو يُعتد به. ثم اتضح لمحلِّلي السوق أن النفط الليبي هو الذي أسهم في تراجع أسعار النفط العالمية إلى ما دون 100 دولار للبرميل في أوائل أغسطس/آب. كيف ذلك، وهل تكون ليبيا هي مفتاح الحل؟

لماذا النفط الليبي؟

يقول تقرير لوكالة Deutsche Welle الألمانية، بعد أن شهد إنتاج النفط الليبي انخفاضاً مثيراً للاضطراب طيلة عدة أشهر، فإنه عاد إلى الارتفاع إلى أكثر من مليون برميل يومياً منذ منتصف يوليو/تموز. وقد كانت ليبيا تنتج في السابق نحو نصف هذه الكمية، ويرجع ذلك في غالب الأحيان إلى النزاعات السياسية التي تشهدها البلاد باستمرار.

أما الآن فيقول بعض الخبراء إن النفط الليبي قد لا يقتصر دوره على إعادة التوازن إلى أسواق النفط الدولية ودفع الأسعار للانخفاض، وإنما قد يكون أيضاً وسيلة لتمكين حالة من الاستقرار السياسي الدائم في البلاد.

وفي مقال نُشر في يوليو/تموز تحت عنوان ليبيا قادرة على إنجاح دبلوماسية بايدن النفطية في الشرق الأوسط أو إفشالها، أوصى بن فيشمان، الخبير في الشأن الليبي والزميل الأول في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، الحكومةَ الأمريكية بأن تبذل المزيد من الجهد لتحقيق الاستقرار في السياسة الليبية لكي يكون ذلك سبيلاً إلى ضخ المزيد من النفط الليبي في الأسواق الدولية.

وأشار فيشمان إلى أن ليبيا معفاة من قيود الإنتاج المفروضة على الدول الأعضاء في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك).

استجابةً لطلبات الرئيس الأمريكي جو بايدن بزيادة إنتاج النفط، وافقت دول أوبك على زيادة الإنتاج بمقدار 100 ألف برميل يومياً منذ سبتمبر/أيلول، وهي زيادة طفيفة إلى حد كبير. على الجانب الآخر، فإن استقرار إنتاج النفط الليبي، المُعفى حالياً من سقف إنتاج أوبك، يمكن أن يضيف نصف مليون إلى مليون برميل نفط إلى السوق يومياً.

منذ أن أزاحت الثورة الشعبية في ليبيا ديكتاتور البلاد السابق، معمّر القذافي، في عام 2011، يكابد الليبيون وطأة إرثه الطويل بالاضطراب السياسي والحرب الأهلية والصراعات العنيفة في عموم البلاد.

ومع ذلك، فإن إنتاج النفط الليبي لم يتوقف توقفاً تاماً قط، وذلك لأن ليبيا تعتمد اعتماداً كبيراً على الدخل النفطي، فالمنتجات المرتبطة بالبنزين تمثل نحو 94% من صادرات البلاد، ونحو 60% من دخلها القومي.

ما الذي يعيق ليبيا من أن تكون لاعباً رئيسياً؟

على مدى السنوات الماضية، شهد دخل البلاد من النفط محطات هبوط وصعود كثيرة، فقبل ثورة 2011، كانت ليبيا تنتج في المتوسط 1.3 مليون برميل من النفط يومياً، لكن بيانات البنك الدولي تشير إلى أن الإنتاج انخفض إلى 400 ألف برميل يومياً في عام 2020 بسبب الصراع القائم بين الحكومتين المتنافستين في شرق البلاد وغربها. وبعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في منتصف عام 2020، عاد الإنتاج إلى الزيادة، ليبلغ نحو 1.2 مليون برميل يومياً في عام 2021.

لكن الإنتاج انخفض مرةً أخرى بعد ذلك، فقد أشارت بيانات لوكالة Bloomberg إلى انخفاض إنتاج ليبيا من النفط إلى نحو 589 ألف برميل يومياً في يوليو/تموز من هذا العام. وأبرز أسباب ذلك الانخفاض هو الحصار العسكري الذي فرضته بعض الجماعات القبلية على منشآت النفط المحلية ومحطات التصدير، بسبب النزاع حول من يجب أن يرأس شركة النفط الوطنية في البلاد، المؤسسة الوطنية الليبية للنفط، لكونها المؤسسة الوحيدة المسموح لها بتصدير النفط إلى الخارج.

النفط الليبي.. حلفاء وأعداء

رُفع الحصار عن آخر المنشآت النفطية التي كانت محاصرة في منتصف يوليو/تموز، بعدما وافقت الحكومة في غرب ليبيا على تعيين فرحات بن قدارة رئيساً جديداً للمؤسسة الوطنية للنفط.

يُوصف بن قدارة بأنه حليف لخليفة حفتر، زعيم الميليشيات القوية في شرق ليبيا. ويضم تحالف حفتر أيضاً الجماعات القبلية التي كانت تحاصر منشآت إنتاج النفط. وقد أشار مراقبون إلى أن حكومة الغرب الليبية وافقت على تعيين بن قدارة إرضاءً لسماسرة السلطة في شرق ليبيا، من عينة حفتر، وسعياً إلى عودة الإنتاج النفطي إلى سابق عهده.

كانت وزارة النفط الليبية أعلنت في وقت سابق أن البلاد ستسعى خلال السنوات الخمس المقبلة إلى زيادة إنتاج النفط ليبلغ ما بين مليونين إلى مليونين ونصف برميل نفط يومياً. وبطبيعة الحال فإن إضافة هذا القدر من إمدادات النفط إلى السوق باطراد من شأنه أن يُحدث فرقاً يعتد به في الأسعار العالمية.

ولا يقتصر الأمر على النفط، فالبلاد لديها كميات معتبرة من الغاز، ويمنحها القرب من أوروبا فرصة لأن تكون مورداً أساسياً للغاز إلى هناك. ويذهب معظم الغاز الليبي حالياً إلى إيطاليا. وقد قال السفير الإيطالي في ليبيا، جوزيبي بوتشينو في أبريل/نيسان، إن صادرات ليبيا من الغاز يمكن أن تزيد بنحو 30% إذا توافرت لها الاستثمارات اللازمة.

التدخل الأجنبي في نفط ليبيا

في تقرير استشاري صدر في يوليو/تموز، ذهب طارق المجريسي، الباحث المتخصص في شؤون السياسة الليبية بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إلى أن المساعدة الأوروبية في حل مشكلات ليبيا جديرة بأن تسهم في إضعاف النفوذ السياسي الروسي في البلاد، وفي تحقيق الاستقرار المرجو في منفذ رئيسي للطاقة بين شمال إفريقيا وأوروبا، وفي تحويل مصدر لعدم الاستقرار إلى شريك نافع“.

ومع ذلك، فإن روسيا ليست إلا إحدى الدول التي يذهب الخبراء إلى أنها تحاول فرض نفوذها في ليبيا، فالقائمة تشمل دولاً أخرى، مثل تركيا والإمارات ومصر، وتوصف هذه الدول كلها بأنها حليفة لروسيا بطريقة أو بأخرى. وقد اتُّهمت الإمارات بأنها المحرك الرئيسي وراء الضغوط التي أدت إلى تغيير قيادة المؤسسة الوطنية للنفط. ويعتمد حفتر على دعم المرتزقة الروس من مجموعة فاجنر سيئة السمعة، وهم يتمركزون بالقرب من منشآت النفط في شرق ليبيا.

ويقول عماد الدين بادي، الباحث في المجلس الأطلسيالمعنيّ بشؤون ليبيا، إن استقرار إنتاج النفط والغاز في ليبيا يجب ألا يقتصر دوره على تأمين المصالح الدولية، وإنما يجب أن يكون خطوة أولى مهمة نحو حل حقيقي للأزمات السياسية في البلاد، والتي تفاقمت منذ إلغاء الانتخابات في ديسمبر/كانون الأول الماضي.

وكتب بادي في تقرير أصدرته مؤسسة فريدريش إيبرت” الألمانية في يونيو/حزيران عن صناعة النفط الليبية، أن معالجة مشكلات قطاع المنتجات البترولية الليبية أمر معقد، ومع ذلك فإن هذه المشكلات أكثر قابلية للحل من بعض المشكلات الرئيسية الأخرى التي تدفع إلى تردي الأوضاع في البلاد“.

لا توجد إجابات سهلة

وقال بادي: “قد يبدو أن هذا الرأي يحمل نوعاً من التفاؤل، لكننا نتحدث عن حوار واسع بشأن تقاسم الموارد والعمل على أن يكون ضمانة أساسية لاستقرار البلاد على المدى الطويل. لقد استُخدم حصار المنشآت النفطية كأداة للحرب الاقتصادية، والسماح بمرور هذه السابقة سيكون له تأثير مذموم لدى أي شخص مهتم باستقرار ليبيا في المستقبل، واستقرار قطاع الغاز والنفط الدولي على المدى الطويل“.

على خلاف ذلك، فإن بعض الخبراء لا يرون أن النفط هو الحل لجميع مشكلات ليبيا. ويقول جليل حرشاوي، أستاذ العلوم السياسة المتخصص في شؤون شمال إفريقيا بمعهد رويال يونايتد لدراسات الأمن، إن الأمر ليس بهذه السهولة، فالنفط الليبي ليس إلا جانباً واحداً من الأمر. ويكفيك دليلاً على ذلك أن تنظر إلى ما حدث في عام 2019، فمع أن الإنتاج النفطي كان مستمراً بكميات كبيرة، والمؤسسة الوطنية للنفط تحلَّت بالمسؤولية في إدارة الأمور، فإن طرابلس كانت تتعرض للقصف في الوقت نفسه وكان حفتر يشن حملة عسكرية خلَّفت آلاف القتلى والجرحى والمشردين“.

وخلُص حرشاوي إلى القول: “المهم هو القوة والنفوذ، وليس عائدات (النفط) أو التوزيع العادل لها. فكلما زادت قوة الجهات الفاعلة المتنازعة، مثل حفتر، في ليبيا، زاد سعيها إلى الحصول على أكثر من نصيبها. وأسوأ ما في الأمر أنهم قد لا يشبعون أبداً“.

________________

مواد ذات علاقة