على أثر المواجهات المسلحة التي وقعت في 27 أغسطس/آب 2022 بالعاصمة الليبية طرابلس، بادرت تركيا بدعوة رؤوس النزاع الليبي في محاولة لاحتواء الأزمة والتمهيد لاتفاق يمنع الانزلاق إلى الحرب ويؤسس للانتخابات التي تمثل محور الاتفاق في الداخل والخارج.

ومنذ أشهر تتصارع في ليبيا حكومتان: إحداهما يقودها عبد الحميد الدبيبة الذي يرفض تسليم السلطة إلا لحكومة يكلفها برلمان جديد منتخب، والثانية برئاسة فتحي باشاغا التي كلّفها مجلس النواب في طبرقوتتخذ حكومة باشاغا من مدينة سرت مقرا مؤقتا لها، فيما تسيطر حكومة الدبيبة على العاصمة والمؤسسات السيادية فيها.

وفي ظل هذا الصراع، الذي أثار مخاوف من اندلاع حرب داخلية جديدة في ظل تحشيد مسلح مستمر في طرابلس من جانب قوات مؤيدة للحكومتين، عادت أنقرة لواجهة المشهد الليبي من خلال دعوة فرقاء الأزمة وتحديدا رئيسي الحكومتين المتصارعتين لزيارة تركيا.

وفي الثاني من سبتمبر/أيلول 2022، استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إسطنبول، عبد الحميد الدبيبة، في لقاء مغلق تناول ملفات سياسية واقتصادية وعسكرية. وحسب المكتب الإعلامي لرئيس حكومة الوحدة الوطنية، ركز الاجتماع على متابعة الملف السياسي، وتوحيد الجهود الدولية والمحلية لدعم الانتخابات.

رئيس حكومة الوحدة الوطنية أكد، وفق المصدر ذاته، على أهمية دور تركيا في دعم الجهود الدولية للدفع بملف الانتخابات ليكون أولوية. وبين أن ما جرى في العاصمة طرابلس محاولة للاستيلاء على السلطة بواسطة السلاح والمؤامرات، ولا بديل لبلادنا عن الانتخابات“.

دبلوماسية مكوكية

من جهته أكد الرئيس التركي على ضرورة الحفاظ على أمن وسلامة طرابلس من أي محاولات عسكرية، مبينا أن التغيير لا يجرى إلا عبر الانتخابات. وشدد أردوغان على دعمه وتعاونه مع ليبيا في المجالات الاقتصادية والأمنية والعسكرية كافة، مترحّما على أرواح الذين سقطوا في الاعتداء الأخير

وفي نهاية الاجتماع، اتفق الجانبان على برنامج عمل بين البلدين يشمل التعاون العسكري ومجال الطاقة، وعودة الشركات التركية لاستكمال المشروعات المتوقفة. كما جرى توجيه دعوة للرئيس التركي لحضور أعمال المنتدى التركي الليبي الأول المزمع انعقاده في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 بحضور شركات تركية متخصصة، وهو ما رحب به.

وفي 3 سبتمبر/أيلول 2022 عقد رئيس الحكومة الليبية المدعومة من برلمان طبرق فتحي باشاغا، اجتماعا مع نوابه، وعدد من وزراء المنطقة الغربية، لاطلاعهم على نتائج الاجتماعات التي عقدها هو الآخر في زيارته لتركيا. وأكد المسؤول الليبي، الذي تزامنت زيارته لتركيا مع قدوم الدبيبة، وجود نتائج إيجابية لهذه اللقاءات التي لا تزال مستمرة وحثهم على التواصل وبذل المزيد من الجهود للتهدئة وتفويت الفرصة على محاولات جر البلاد لعودة الصراع المسلح والفوضى“.

وشدد باشاغا على ضرورة الاستمرار في العمل السياسي والعمل مباشرة مع كل الأجسام والقوى السياسية الداخلية ومع المبعوث الأممي الجديد والأطراف الدولية لاستكمال تمكين الحكومة الليبية من مباشرة مهامها لتهيئة الأوضاع الملائمة للوصول إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أقرب الآجال“.

ورغم عدم وجود تأكيد رسمي من السلطات التركية، أكد المكتب الإعلامي لحكومة باشاغا، أن الأخير توجه إلى تركيا لبحث المسار السياسي وسبل التعاون بين البلدينبدعوة من الحكومة.

الزيارتان المتزامنتان لكل من الدبيبة وباشاغا إلى تركيا للقاء المسؤولين الأتراك، عدها مراقبون دليلا على أن أنقرة صارت تمسك بملف الحل السياسي في ليبيا، وأن الملعب مفتوح أمامها لإيجاد حل تنهي خلافات الحكومتين المتنازعتين.

صحيفة دنياالتركية، قالت إن حركة دبلوماسية تجرى في إسطنبول، حيث وصل الدبيبة وباشاغا بنفس اليوم بدعوة من الحكومة التركية. وأضافت الصحيفة في تقرير للكاتبة زينب قورجنلي، أن أنقرة تحاول التوفيق بين الجانبين اللذين تحول الصراع بينهما من سياسي إلى مسلح.

وكشفت أن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو يجري حركة دبلوماسية مكوكية بين الدبيبة وباشاغا، بمشاركة رئيس الاستخبارات هاكان فيدان ووزير الدفاع خلوصي أكار. ورأت أنه إذا أمكن التوصل إلى حل وسطعبر الرئيس أردوغان فمن المؤكد أن يجرى قبوله من الدبيبة وباشاغا، وتسجيل انتصار دبلوماسيللحكومة التركية.

وأمام هذه المبادرة الدبلوماسية التي تقودها تركيا، يُطرح تساؤل عن آفاق نجاح الوساطة لرأب الصدع بين الجانبين وبالتالي تجنيب ليبيا خطر اندلاع حرب شاملة، أم أن الواقع في الميدان أصعب من أن تفك رموزه السياسة؟

لاعب أساسي

مدير المركز المغاربي للدراسات بإسطنبول زهير عطوف، رأى أن تركيا تعد لاعبا أساسيا في الملف الليبي وكان لها دور أساسي في رد الهجوم على طرابلس من قبل قوات شرق ليبيا بقيادة اللواء الانقلابي خليفة حفتر.

وفي 4 أبريل/ نيسان سنة 2019 شنّ جيش حفتر الذي يمثل حكومة طبرق هجوما عسكريا للاستيلاء على المنطقة الغربية من ليبيا، وفي نهاية المطاف العاصمة طرابلس التي كانت تحت سيطرة حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دوليا.

وقال عطوف، في حديث لـالاستقلال، إن المقاربة التركية تنبني على أن الحل لا بد أن يكون سياسيا وليس عسكريا، حيث إن استقرار ليبيا يخدم الشعب الليبي والمنطقة ككل. وأضاف أن تركيا تسعى لاستثمار العلاقة الجيدة بالحكومتين الليبيتين لتكون وسيطا مهما لنزع فتيل المواجهة العسكرية وتعبيد الطريق أمام الانتخابات.

وتابع أنه في هذا الإطار تأتي دعوة تركيا لكل من الدبيبة وباشاغا وأيضا اللقاءات الأخيرة التي كانت بين الرئيس التركي ورئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح. وفي سياق آخر، قلل مدير المركز المغاربي للدراسات بإسطنبول، من أهمية تعيين مبعوث أممي في ليبيا، مبينا أنه لن يكون له دور أساسي في غياب تفاهم بين أطراف النزاع الحقيقية“.

وفي 3 سبتمبر 2022، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عن اختيار السنغالي عبد الله باتيلي ممثلا خاصا له في ليبيا ورئيسا لبعثة الأمم المتحدة للدعم فيها (أونسميل). وذكر بيان نشر على الموقع الإلكتروني للأمم المتحدة، أن باتيلي سيخلف السلوفاكي يان كوبيش في منصب المبعوث الخاص ورئيس بعثة أونسميل.

 وشدد عطوف على أن المطلوب لحل الأزمة الليبية، هو تحقيق توافق بين أطراف النزاع الليبي بغية الوصول إلى حل سياسي متوافق عليه. وأشار إلى أن موازين القوى في الميدان الليبي يكون لها دور أساسي في الاختيارات السياسية

وهو نفس ما ذهب إليه الخبير في العلاقات الدولية أحمد نور الدين، الذي أكد أن أول خطوة لحل الأزمة الليبية التي أصبحت تدور في حلقة مفرغة، تتمثل في تحقيق توافق بين الأطراف الإقليمية والدولية التي تدعم الفصائل الليبية المتنازعة“.

وتابع: “أقصد بها على وجه التحديد دول الخليج، مصر، تركيا، روسيا، فرنسا، إيطاليا، الولايات المتحدة الخ، مبينا أن توافق هذه القوى هو الطريق نحو إسكات السلاح في ليبيا ونحو إيجاد أرضية للوفاق الوطني الليبي“.

مهمة صعبة

ومقابل تفاؤل مراقبين بخصوص إمكانية تقريب تركيا لوجهات نظر الأطراف المتنازعة بليبيا والوصول لتوافق حول خارطة طريق للملف الليبي، يرى الخبير في العلاقات الدولية أحمد نور الدين أن وساطة أنقرة في ليبيا مهمة شبه مستحيلة“. وبين الخبير في العلاقات الدولية لـالاستقلال، أن مطلب تحقيق توافق بين الأطراف الإقليمية والدولية التي تدعم الفصائل الليبية المتنازعة، قد يبدو وبكل صراحة ودون مجاملة صعب المنال بالنسبة للوساطة التركية“.

وأردف أن السبب يعود إلى أن جزءا من الفصائل الليبية والقوى الإقليمية والدولية تعد تركيا طرفا في النزاع خاصة بعد الدعم الذي قدمته لحكومة طرابلس المعترف بها دوليا والذي حال دون سيطرة حفتر على العاصمة“. وبالتالي فهذه الجهات ستعمل على تقويض الوساطة التركية مهما كانت نوايا أنقرة حسنة، بحسب تقديره.

وقال نور الدين، صحيح أن التقارب التركي الروسي بعد الأزمة الأوكرانية قد يغير بعض الحيثيات، وقد يدفع موسكو إلى تقديم تنازلات أو على الأقل تسهيلات لإنجاح وساطة أنقرة في إطار تفاهمات جيوسياسية معينة“. 

ولكن، يستدرك الخبير في العلاقات الدولية، الخلافات الحادة لتركيا مع فرنسا تحديدا وبدرجة أقل مع إيطاليا ومصر وحتى اليونان، وربما مع دولة أو دولتين في الخليج رغم التقارب الملاحظ أخيرا، قد يجعل من وساطة أنقرة في ليبيا مهمة شبه مستحيلة“.

وأمام هذه المهمة شبه المستحيلة لتركيا للعب دور الوساطة، يبقى من الخيارات، حسب الكاتب والباحث الليبي السنوسي بسيكري، البحث عن طريق ثالث، أي حكومة جديدة لا تخضع لأي من طرفي النزاع الراهن“.

 وأضاف بسيكري، في ورقة تحليلية تحت عنوان ليبيا: أسباب ومآلات النزاع الحكومي الراهن، أن هذا الخيار سيكون ملحًّا في حال ظل الجفاء بين الدبيبة، من جهة، وطبرق والرجمة، من جهة أخرى، هو سيد الموقف.

وتابع في الورقة التحليلية التي نشرها مركز الجزيرة للدراسات في الثاني من سبتمبر 2022، أن هذا الخيار الثالث سبق أن قبل به الدبيبة قبل العملية العسكرية الأخيرة، وقد تدفع تطورات ما بعد فشل العملية العسكرية الدبيبة لتغيير موقفه“. إلا أنه إن فعل سيواجه ضغطا كبيرا من الداخل والخارج قد لا يستطيع تفاديه، بحسب تقدير الورقة.

_____________

مواد ذات علاقة