رفيق عبد السلام

إذا صحّ فعلاً أن الثورات العربية لم تنجح في تحقيق أهدافها المنشودة، ولم تترجم تطلعات الناس في الحرية والكرامة التي بشّرت بها، لأسبابٍ كثيرة يطول شرحها على سبيل التفصيل هنا، فإن موجة الانقلابات والثورات المضادّة التي أعقبتها تبدو اليوم أكثر هشاشةً وأشد تأزماً من القوى التي انقلبت عليها.

يبدو ذلك جلياً، سواء بقراءة المعطيات الراهنة، أو باستقراء المؤشّرات المستقبلية، وهذا ما يضعف سرديتها الخاصة في القيام بدور المنقذ أو المخلص، ويجعلها لا تعبّر بالضرورة عن اتجاهات المستقبل وخط التاريخ العام.

ليس سرّاً أن الثورات العربية قد قوبلت، منذ البداية، بقدرٍ غير قليل من التشكيك والتجريح من جهة أركان النظام العربي الرسمي وأجهزته الأيديولوجيةومثقفيه غير العضويين، بحكم ما استبدّ به من هواجس ووساوس من سريان عدوى هذه الثورات، وتمدّد مطالب الإصلاح والتغيير.

منذ الأسابيع الأولى لثورتَي تونس ومصر، بدأت المرثيات تصدُر تباعاً بشأن تحوّل هذا الربيع المشرق والباسم إلى خريف كالح، ثم إلى شتاء عربي قاسٍ وعابس.

صدرت مثل هذه المرثيات بداية عن أقلام خليجية وإسرائيلية كثيرة رافضة من أصلها هذه الثورات، ومبعث هذا التشاؤم يتلخّص في أن هذه الثورات العربية، على ما يقول هؤلاء، لم تجلب غير الفوضى والتنغيص على الناس في حياتهم ومعاشهم، بعد فقدان حالة الاستقرار والرخاء المزعومين اللذين كانت تتمتع بهما الشعوب العربية في عهد الدكتاتوريات الجميلةوالغاربة مع بن علي ومبارك والقذافي، وربما الثورة الوحيدة التي امتُدِحَت بداية هي السورية، لاعتباراتٍ تخصّ أجندة المحور الخليجي في التعامل مع إيران وحلفائها في المنطقة.

وأما من كان أحسن ظناً بهذه الثورات، في ظاهر الأمر، وأقل جرأة في الدفاع عن الأنظمة الآفلة، فيقول إن هذه الثورات كانت واعدةً ونقيةً في بدايتها، نقاء القوى الشبابية التي فجّرتها، ولكنها سقطت في حبائل حركات الإسلام السياسي التي استولت عليها وحرفتها عن مسارها الصحيح فيما بعد.

قوبلت الثورات العربية، منذ البداية، بقدرٍ غير قليل من التشكيك والتجريح من جهة أركان النظام العربي الرسمي وأجهزته الأيديولوجيةومثقفيه

ودع عنك ما يقال إن ما جرى في البلدان العربية مجرّد انتفاضات عابرة وسطحية، أو هي من صنيع الأميركيين. فقد كانت ثورات حقيقية وعميقة وأصيلة، صنعتها شعوب المنطقة المتطلعة إلى الحرية والكرامة، وستبقى حتماً تفعل فعلها في الواقع العربي عقوداً.

وليست موجة الارتداد القوية التي أعقبتها في أكثر من موقع إلا دليلاً قاطعاً على عمق التحوّل الذي تشهده المنطقة، بكل تناقضاته ومفارقاته وديناميكيته المعقدة.

الواضح أن القوى المضادّة للتغيير، والمدعومة من المحور العربي الخليجي أساساً، قد تمكّنت بدرجات متفاوتة من كسر موجات التغيير وتحريفها عن مسارها العام، وقد استخدم في ذلك المال والإعلام وكل أشكال التضليل وتشويه الوعيين، الفردي والجمعي.

جرى ذلك عبر سلسلة من الانقلابات العسكرية المباشرة وغير المباشرة في بعض بلدان الثورات العربية (مصر والسودان وإلى حد ما تونس) أو عبر دفع الأمور نحو الفوضى والحروب الأهلية، كما هو الشأن في ليبيا واليمن وسورية.

إلا أن الوجه الآخر من المشهد، الذي لا يمكن حجبُه، أن هذه الثورات المضادّة لم تنجح في تثبيت أقدامها على الأرض باتجاه صنع أوضاع جديدة تتوافر على الحد الأدنى من الاستقرار السياسي أو الرخاء الاقتصادي، بما يجعل المقارنة بالأوضاع التي سبقتها بعد ثورات الربيع العربي لغير صالحها حتماً.

لم تكن أوضاع تونس على صورة مثالية قبل انقلاب قيس سعيّد، لكنها اليوم انتقلت من السيّئ إلى الكارثي

فعلاً استفادت هذه الموجات المضادّة، إلى حد كبير، من أجواء التذمّر التي أعقبت الثورات العربية وارتفاع منسوب التطلّع لدى الشارع العربي الذي اعتصره الفقر والجوع وطحنه القمع، واستثمرت أيضاً في أزمات التحوّل (وهو قانون عام يحكم كل الثورات تقريباً)، التي ساهمت هي نفسها في تغذيتها تمهيداً للانقضاض على السلطة.

إلا أنها عجزت، في نهاية المطاف، عن تشكيل وضعٍ أفضل من النواحي السياسية والاقتصادية والتنموية، عن الأوضاع التي اتّخذتها مبرّراً للانقضاض على السلطة.

فمَن يستطيع أن يجزم بأن أحوال المصريين المعيشية والسياسية مع عبد الفتاح السيسي هي اليوم أفضل من مرحلة محمد مرسي (تكفي مقارنة معدلات الدخل الفردي ومستوى الجنيه المصري حتى نعرف الأمر)؟

ومَن يستطيع القول اليوم إن أوضاع التونسيين بعد انقلاب قيس سعيّد أحسن مما كانت عليه في ما يسمونها زوراً وبهتانا العشرية السوداء، حيث باتت الطوابير الطويلة بحثاً عن السكر والماء والحليب تمتدّ بشكل غير مسبوق في تاريخ تونس منذ استقلالها سنة 1956؟

ولذلك، ستظل هذه الموجات الارتدادية مجرّد قوس عابرة في مسار المنطقة، ولن يذكرها التاريخ إلا في كونها ثوراتٍ مضادّة وردّة إلى الخلف، مثلما تتحدّث كتب التاريخ عن مركزية الثورة الفرنسية، وما أعقبها من مقاومات رجعية قادتها الملكيات الأوروبية على امتداد القرن التاسع عشر، قبل أن تخور قواها أمام تيار التغيير المتمدّد.

تتبخر في مصر موعودات السيسي في جلب الرفاه للمصريين مقابل ما جلبته ثورة 25 يناير من إخفاق ودمار بحسب السردية الرسمية، فرغم بعض فقّاعات التنمية المزيفة والاستعراضية، من قبيل العاصمة الجديدة وما شابهها.

إلا أن الأوضاع العامة للمصريين تزداد سوءاً يوماً بعد آخر، حيث ينهار مستوى الجنيه مقابل الدولار (يقترب الدولار اليوم إلى معدّل 20 جنيهاً) والعملات الأجنبية، وتنهار معه القدرة الشرائية للمصريين، المنهارة من أصلها، وتنضب الموارد المالية للدولة مع ارتفاع حجم التداين الخارجي والداخلي، هذا من دون أن نتحدّث عن إهدار حريات الناس وكرامتهم تحت حذاء حكم عسكري فاشل.

في ليبيا المجاورة، تمكّنت الثورة المضادّة من دحرجة الوضع نحو التقاتل الداخلي بقوة السلاح وجلب الفوضى والدمار، من دون أن تقدر على السيطرة على مساحة ليبيا الواسعة أو إلغاء القوى الجديدة الحاملة للسلاح بدورها.

وفي السودان، تمكّن الجيش من اختطاف السلطة، ولكنه لم يعرف ماذا يفعل بها في مشهد سوداني ممزّق.

أما الحالة اليمنية، فقصتها معروفة في التقلب بين الأزمات والحروب الأهلية التي تغذّيها التدخلات الإقليمية المتقلبة بدورها.

مقايضة الحريات التي أتت بها ثورات الربيع العربي بمطلب التنمية انتهت إلى إهدار مكسب الحرية مع انعدام التنمية أصلاً

أما تونس، فقد صمدت ديمقراطيتها الوليدة لما يزيد على عشرية في مواجهة أعاصير سياسية

داخلية وخارجية عاتية، إلى أن أتت عليها معاول الهدم من الداخل مع قيس سعيّد الذي تسلل عبر شعارات الثورة والشعب يريد، فقد صعد إلى قصر قرطاج عبر سلم ديمقراطي تنافسي، أتاحه له دستور الثورة. ولكنه عمل على كسر هذا السلم بمجرّد جلوسه على كرسي الحكم، فألغى تبعاً لذلك الدستور وكل المكتسبات التي سمحت له بدخول عالم السياسة والمنافسة السياسية.

وبمقارنة بسيطة بين أوضاع التونسيين ما قبل انقلاب 25 يوليو وما بعده، يتأكّد الجميع أن الأمور تدحرجت نحو الأسوأ على جميع الأصعدة، حيث تكاد المواد الأساسية تنعدم من الأسواق، مع الارتفاع الجنوني في الأسعار وصعود نسب التضخم واتساع دائرة الفقر والحرمان.

وعلى الصعيد السياسي، أتى الانقلاب على مكاسب كثيرة جلبتها ثورة الحرية والكرامة، مع انتشار المحاكمات العسكرية والمدنية وتقليص هامش الحريات العامة والخاصة والتسلط على القضاء وعودة لعبة الانتخابات المزيفة المصنوعة على المقاس وغيرها.

أي إن قيس سعيّد الذي امتطى ظهر أزمة كورونا وما أعقبها وصراعه مع رئيس حكومته هشام المشيشي الذي عيّنه بنفسه، ثم حاول التخلص منه، هو اليوم العنوان المكثف للفشل بكل دلالاته ومعانيه.

وإذا صحّ أن أوضاع تونس لم تكن على صورة مثالية قبل الانقلاب، فإنها اليوم انتقلت من السيّئ إلى الكارثي، حيث جمع قيس سعيّد بين الفشلين الاقتصادي المالي والسياسي، فلم يجد الشباب من حيلة أمام هذا الوضع المأساوي سوى امتطاء قوارب الموت والمغامرة بأرواحهم في عرض البحر باتجاه الضفة الأخرى للمتوسط، بحثاً عن لقمة العيش.

 الخلاصة

مقايضة الحريات التي أتت بها ثورات الربيع العربي بمطلب التنمية انتهت إلى إهدار مكسب الحرية مع انعدام التنمية أصلاً، فالثورات المضادّة التي قدّمت نفسها في صورة المنقذ والمخلص من شبح الفوضى والخراب الذي جاءت به الثورات العربية هي اليوم العنوان المكثف للخراب.

وهي تتدحرج باتجاه اكتساب صفة الدولة الفاشلة بأتمّ معنى الكلمة، وهو فشل على صعيد العمران والاجتماع والاقتصاد وكل شيء، فلا هي جلبت استقراراً وأمناً حقيقياً، ولا أطعمت الناس من جوع أو آمنتهم من خوف، بل هي عند التمحيص قد أضافت إلى وهنها الاقتصادي والتنموي الشامل قدراً كبيراً من العنف السياسي وجلافة الحكم. ولذلك هي التداوي بالتي كانت هي الداء.

موجات الارتداد، مهما كانت شراستها، لن تقدر على الصمود وتثبيت مواقعها على المديين المتوسط والبعيد

الحقيقة التي يجب أن تقال للناس إن ما يعانونه من منغصّات ومآسٍ لم تكن من إنتاج الثورات العربية التي فتحت أمامهم أبواب المستقبل وممكنات التحرّر، بل هي بسبب الثورات المضادّة التي لم تترك الشعوب تبلغ مأمنها في الحرية والاستقرار، فأعملت فيها عوامل الهدم والتخريب باستخدام المال والإعلام والسلاح وكل أشكال التآمر الظاهر والخفي.

فلو أن هذه الثورات لقيت حاضنة عربية مساعدة، بدل العمل على محاصرتها وتجريفها، لكانت ثمارُها أمناً واستقراراً يشمل للجميع، بما في ذلك الأنظمة التي تربّصت بها شرّاً التي تدفع ثمن تآمرها.

ما يجري اليوم من ارتداداتٍ وثوراتٍ مضادّة يدخل ضمن ما يمكن تسميته ضرورات التاريخ غير الواعية إذا استعملنا مصطلحات ماركس، هذا إذا ما علمنا أن الثورات لا تسير ضرورة في خط سلس ومستقيم، ومن دون تعرّجات وهزّات، ومن دون آهاتٍ وعذابات.

بلغة أخرى، هي محطات اختبار ضرورية وصدمات وعي لازمة لقوى التغيير، حتى تمحص صفوفها وتنخل مقولاتها وتعيد ترتيب صفوفها على نحو أفضل استعداداً للمستقبل.

لا شيء يبقى ثابتاً في مكانه في أجواء الحروب والثورات والثورات المضادّة، ولكن المؤكد أن التاريخ يخبرنا أن موجات الارتداد، مهما كانت شراستها، لن تقدر، في نهاية المطاف، على الصمود وتثبيت مواقعها على المديين المتوسط والبعيد.

ما هو مطلوب فقط الاستعداد للمستقبل بإرادة أشد صلابة ووعي أكثر نضجاً مع تهيئة الأجيال الجديدة لحمل مشعل التغيير برؤيةٍ عابرةٍ لحدود الدولة الوطنيةالضيقة، فالثورة المضادّة التي أخذت طابعاً إقليمياً واسعاً لا يمكن مواجهتها إلا بمشروع إقليمي عابر لحدود الدولة الوطنيةالهشّة والضعيفة، فالربيع العربي ما زال قائماً، وقوسه لم تُغلَق بعد، وهو يفعل فعله في أنصاره ومناهضيه على السواء.

ــــــــــــــــ

مواد ذات علاقة