فاغنر ولوكربي على رأس القائمة

إبراهيم درويش

شهدت ليبيا في نهاية العام الماضي نوعا من الحراك، وهو حراك مدفوع بالقوى المتنافسة على التأثير في الساحة الليبية، ولكن التحرك الأهم جاء من البوابة الأمنية، حيث اعترفت حكومة عبد الحميد الدبيبة بأنها لعبت دورا في تسليم مطلوب في قضية تفجير لوكربي، المفترض أنها مغلقة بعدما سجن المتهم الوحيد بها وهو عبد الباسط المقراحي، الذي أفرج عنه وتوفي بعد انهيار نظام معمر القذافي.

ودفعت ليبيا التعويضات لعائلات الـ 270 راكبا كانوا على متن الطائرة الأمريكية بانام التي تحطمت فوق لوكربي الإسكتلندية عام 1988.

إلا أن الاهتمام الأمريكي بالملف لم ينته، ففي السياق الأمريكي لا ينهي دفع التعويضات وتسوية المطالب المالية ولا تغني عن تحقيق العدالة ووقوف من يشبته بتورطهم في العملية أمام المحاكم الأمريكية.

ومن هنا تطالب واشنطن بتسليم حوالي 17 ضابطا ليبيا سابقا ترى أنهم متورطون بطريقة أو بأخرى بملف لوكربي. وبدأ التعاون الأمني على ما يبدو بتسليم بوعجيلة محمد مسعود خير المريمي أحد المسؤولين الأمنيين في النظام السابق والذي اختطف من بيته بعد الإفراج عنه ونقل إلى مصراتة حيث سلم إلى فريق أمريكي نقله للولايات المتحدة قبل أن يظهر أمام محكمة هناك بتهمة تصنيع القنبلة المستخدمة بالتفجير.

وفي سياق آخر، كشفت صحيفة «الغارديان»)23/12/2023) أن ليبيا أوقفت عملية تسليم المسؤول الأمني الأبرز والمقرب من الزعيم الليبي السابق، عبد الله السنوسي لأمريكا وفي اللحظة الأخيرة وخوفا من حدوث انقسامات وجدل أكبر من الجدل الذي حدث بعد تسليم المريمي.

وبالتأكيد فملف لوكربي لم ينته بالنسبة للولايات المتحدة. ومن هنا جاءت زيارة أكبر مسؤول أمني في الولايات المتحدة، ويليام بيرنز، مدير «سي آي إيه» لطرابلس وطبرق في الأسبوع الماضي وهي أرفع زيارة لمسؤول أمريكي منذ انهيار نظام القذافي قبل أحد عشر عاما. وكان بيرنز قد زار ليبيا عام 2014 بصفته مساعدا لوزير الخارجية الأمريكي.

وانشغل المحللون في ليبيا والمنطقة بتفسير دوافع زيارة بيرنز حيث ربطوها بالملفات التي تشغل أمريكا حاليا كالحرب في أوكرانيا ومواجهة النفوذ الصيني في بحر الصين الجنوبي وتهديدات بيجين لتايوان.

لكن روسيا هي في بال الإدارة الأمريكية نظرا لتوسع نشاطات شركة المرتزقة «فاغنر» في ليبيا والأسلحة الروسية هناك، إضافة للوجود التركي، واللافت للنظر إلى أن مدير الاستخبارات التركية حقان فيدان حل في طرابلس بعد أسبوع من زيارة بيرنز، بعدما زار السودان ووسط تقارير عن إلغاء محكمة ليبية اتفاقية تركيةليبية للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط.

اهتمام مفاجئ

وتظل زيارة مدير الاستخبارات الأمريكي مهمة فقد تم الترتيب لها قبل ذلك بفترة وقامت القائمة بالأعمال الأمريكية ليزلي أوردمان بلقاء مع الدبيبة في طرابلس واللواء المتقاعد خليفة حفتر في بنعازي حيث طلب منهما التعاون في ضبط الوضع الأمني ونقل إليهما المخاوف الأمريكية من نقل بعض مرتزقة فاغنر في ليييا للقتال في أوكرانيا وكون البلد بات مركزا للعمليات اللوجيستية للشركة في القارة الأفريقية وخاصة جمهورية أفريقيا الوسطى.

وتظل المقاربات حول الزيارة والاهتمام الأمريكي المفاجئ بليبيا مرتبطة بما هو معلن ومعروف من ناحية الخطر الإرهابي ودور القوى الخارجية، مثل الإمارات العربية المتحدة ومصر وتركيا وفرنسا وإيطاليا وتأمين تصدير النفط في ظل الأزمة التي تعاني منها أوروبا بسبب توقف استيراد الغاز والنفط الروسي. وباتت دول شمال أفريقيا، ليبيا والجزائر مصدرا مهمة للهيدروكربون.

ونظرا لوقوع ليبيا في نطاق عمليات القيادة المركزية لأفريقيا، فإن التركيز عليها مهم لتحقيق هذه الأهداف، وهناك تقارير عن زيارة قائد القوات الجوية الأمريكية في أفريقيا جون دي لا مونتاني لليبيا، حيث تم الحديث عن الوضع الأمني والعمل على توحيد الجيش وتسليم قيادته لمدني في حكومة منتخبة ديمقراطيا.

ورأى معلقون أن استبعاد مجلس نواب طبرق والمجلس الرئاسي الأعلى والاكتفاء باجتماع مع رئيس الحكومة المنتهية ولايته الدبيبة وقائد ما يعرف بالجيش الوطني الليبي في الشرق حفتر هي محاولة أمريكية للتعاون أمنيا مع الملف الليبي، وأن العودة بالطريقة هذه تجنب الإدارة مشاكل الاعتراف بجهة في الصراع السياسي.

ولم يتغير الموقف الأمريكيباستثناء محاولة دونالد ترامب تغيير الواقع بمكالمة لحفتر أثناء هجومه على طرابلسمن الوضع حيث تعترف واشنطن بالحكومة التي رعت الأمم المتحدة ولادتها في عام 2021 كي تكون حكومة مؤقتة تحضر البلاد للانتخابات وتعد دستورا بحلول 24 كانون الأول/ديسمبر من ذلك العام، إلا أن الخلافات حول من يحق له الترشح للرئاسة ومن لا يحق له أدى لتأجيل الانتخابات.

وكان القرار ومحاولة الدبيبة وغيره من المسؤولين البقاء في السلطة بمثابة خيبة أمل للناخبين الليبيين الذي سجلوا أنفسهم في بطاقات الاقتراع وكانوا راغبين بكسر الوضع القائم الذي تعيشه ليبيا منذ الإطاحة بنظام الديكتاتور القذافي.

وعليه فالدور الأمريكي الجديد يرغب بتأمين تدفق النفط وتسليم المطلوبين كالسنوسي حيث تعهدت ليبيا أمام مجلس الأمن بالتعاون في ملف لوكربي والحد من نشاط روسيا، وهو أمر تدعو إليه القيادة المركزية لأفريقيا منذ عام 2019 حيث قالت إن روسيا تستخدم علاقاتها مع القذافي وديونه لتأمين صفقات نفطية وبيع السلاح من جديد.

واللافت للأمر أن إدارة بايدن لم تهتم بملفات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ وصولها البيت الأبيض عام 2021 وركزت على أولويات إحياء الملف النووي الإيراني ومواجهة الصين واحتواء روسيا، قبل الغزو.

وفي موضوع الشرق الأوسط وخاصة القضية الفلسطينية ركزت على ضرورة الاحتواء والترويج للتعاون الإقليمي، كما ورد في مقال نشرته مجلة «فورين بوليسي» ( 13/1/2023). وفي ظل التوتر الحالي بالأراضي الفلسطينية المحتلة وصعود اليمين فوق المتطرف في إسرائيل وحرب أوكرانيا وأزمة النفط، فقد باتت الإدارة على ما يبدو تصيخ السمع لمطالب المسؤولين السابقين في الملف الليبي هنا، مثل توماس هيل، الخبير بمعهد السلام الأمريكي الذي دعا واشنطن للانخراط بشكل قوي وواضح في الجهود الدبلوماسية لحل النزاع في البلد.

وأشار في دراسة أخيرة له أن الإدارات الأمريكية السابقة لم تبد اهتماما بحل الأزمة الليبية.

جدول ومطالب

وبالتأكيد لم تكن زيارة بيرنز لمجرد التأكيد على وحدة ليبيا وعقد الانتخابات، فمسؤول أمني بهذه الدرجة لا يزور بلدا بدون «جدول ومطالب» وأهمها لوكربي وفاغنر التي صنفتها الولايات المتحدة كـ «مجموعة إجرامية دولية» يوم الجمعة ما سيضع المزيد من الضغوط على الدول الأفريقية مثل جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي للحد من نشاطاتها.

وما لم يعلن عنه في الزيارة هي شكر بيرنز من ساعد في تسليم المريمي، وهذه قضية ليست مهمة في سياق ما تسعى إليه أمريكا، وما خلقته الزيارة من تأكيد للانقسام الليبي، حيث اعترفت أمنيا بكل من الدبيبة وحفتر، والأخير مطلوب بتهم ارتكاب جرائم حرب في الولايات المتحدة.

وفي النهاية فلن تمنع الزيارة الأمنية الطابع كلا من الدبيبة وحفتر من استخدامها للتأكيد على شرعية كل منهما ودوره في القرار السياسي.

نخب سياسية متمكنة

وفي هذا السياق، تظل النخب السياسة التي نشأت بعد ثورة فبراير 2011 العقبة أمام أي تسوية تخرج البلاد من النفق المظلم الذي دخلت فيه. وتساوقا مع زيارة بيرنز،عقد المبعوثون الغربيون اجتماعا في واشنطن للتداول حول كيفية الضغط على الساسة في البلاد وحاجتها لتنظيم انتخابات.

وقال باتريك وينتور المحرر الدبلوماسي في صحيفة «الغارديان» (12/1/2023) إن الغرب فقد الصبر بالنخب الليبية التي أحبطت الانتخابات. وأشار فيه للقاء مبعوثي الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا لمناقشة الخطوة المقبلة بعدما فشلت النخبة الليبية مرة أخرى للتوصل إلى اتفاقية نهائية تحدد القواعد الدستورية لعقد انتخابات وطنية وذلك في اجتماع عقد في العاصمة المصرية، القاهرة.

مضيفا أن فرنسا قادت جهودا في عام 2018 لحل المأزق السياسي ولكنها فشلت أيضا. ودعا لاجتماع السفراء الغربيين في واشنطن يوم 13 كانون الثاني/يناير المبعوث الأمريكي ريتشارد نورلاند للتباحث في كيفية عقد الانتخابات وإن كانت هناك حاجة لحث المبعوث الأممي عبد الله باتلي، وضع موعد نهائي لإنشاء مجلس وطني يتوافق على الانتخابات.

وقال دبلوماسي غربي يائسا: «هناك من يريد القيام بجهود صادقة للتوسط، إلا أن الموقف الذي التزم به كل المسؤولين على جانبي الانقسام هو الحديث عن ضرورة عقد الانتخابات ثم عمل ما بوسعهم لخنق الجهود كي يواصلوا حشو جيوبهم بالمال. وربما توقفنا عن الأمل بإقناع هؤلاء الناس التوافق على انتخابات بدلا من العثور على طريق يتجاوزهم».

وأشارت الصحيفة لسبب يدفع النخب الحالية عرقلة أي محاولة لعقد انتخابات، فالأرقام الجديدة التي نشرها حول نفقات الدولة الاجمالية والتي زادت إلى 127.9 مليار دينار ليبي، أي بنسبة 42 مليار دينار أو حوالي 9 مليار دولار في عام 2021.

والأرقام المقدمة تظهر حجم الرواتب وتوزيع المال، بشكل يجعل النخبة البعيدة عن المحاسبة تجنب الحكم عليها عبر صناديق الاقتراع. وقال تيم إيتون، الخبير في ليبيا بتشاتام هاوس إن «أرقام المصرف المركزي لا تزال غامضة ومن الواضح أن النفقات والرواتب مذهلة، إن أخذنا بعين الاعتبار أن الناس العاديين في ليبيا لا يحصلون على الخدمات المناسبة».

وقالت المبعوثة الأممية السابقة للأمم المتحدة، ذات الخبرة بالشأن الليبي، ستيفاني ويليامز إن «نخبة حاكمة تعاقدية بعض شبكاتها تعود للنظام السابق، تستخدم المؤسسات السيادية لليبيا كبقرة حلوب فيما يمكن وصفه بأنه إعادة توزيع اللصوصية، مما يعطي لدوائرها ما يكفي للحفاظ على النظام» وقالت إن بعض النخب لا ترى أهمية لعقد انتخابات.

وهناك حالة من الغضب والمشاعر الحانقة نظرا لغياب الانتخابات. وكذا حاجة للبدء بعملية سياسية جديدة، تكون مفتاحا للأزمة، فلطالما خسرت المؤسسات السياسية في ليبيا شرعيتها. فمجلس النواب انتخب في حزيران/يونيو 2014 في عملية لم تشارك فيها سوى نسبة 20 في المئة ولم يحصل صالح، رئيس المجلس إلا على 1.000 صوت.

وانتخب المجلس الأعلى للدولة في الغرب عام 2016. وفي شباط/فبراير 2021 انتخب الدبيبة رئيسا لحكومة مؤقتة بمهمة التحضير للانتخابات وكتابة الدستور وتعهد هو وحكومته بعدم الترشح في الانتخابات، ولم يفعل لا هو وغيره من أعضاء الحكومة.

مؤسسات تعرقل

وتحدث المبعوث الدولي السنغالي باتلي في إحاطة أمام مجلس الأمن قدمها في تشرين الثاني/نوفمبر قال فيها: «هناك اعتراف متزايد من أن بعض اللاعبين داخل المؤسسات يعملون بنشاط لعرقلة التقدم نحو الانتخابات».

ووسط المسائل الخلافية حول كيفية عقد الانتخابات وأي قوانين يجب العمل بها، تلك التي مررها مجلس نواب طبرق للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وهي قوانين يرى فيها المعارضون عيوبا أم غير ذلك فالمشاكل تظل قائمة.

فلو افترضنا أن اتفاقا تم حول عقد الانتخابات، فستظهر مشكلة تتعلق بمن يحق له الترشح، ومن المعروف أن قرار السماح لسيف القذافي الترشح في انتخابات 2021 وتراجع الدبيبة عن تعهداته بعدم المشاركة فيها كانت سببا من أسباب فشل عقدها.

والمشكلة هي أن ليبيا لا تزال في حوار مع نفس النخب الذي تسببوا بالمأزق الحالي. وفشلت الحوارات السابقة بردم الخلافات القائمة بين القوى المتنافسة، من الصخيرات عام 2015 التي أنتجت حكومة وفاق وطني اعترفت بها الأمم المتحدة لكي تجد نفسها محاصرة عسكريا من قوات الجنرال حفتر في عام 2019 ثم التدخل التركي الذي أنقذها وأعاد ترسيم الانقسام بين الشرقالجنوب والغرب.

ثم جاء حوار تونس عام 2021 وأنتج حكومة وحدة وطنية، ولو افترضنا أن دولتين مؤثرتين في ليبيا، مصر وتركيا إلى جانب روسيا مارست مع الدول المعنية التأثير لفرض رؤيتها ودفع الأطراف لعقد انتخابات، فهذا لا يعني عملية حرة ونزيهة وسط الانقسامات في البلاد.

وهناك من يرى تجاوز الانتخابات الرئاسية وتجديد شرعية البرلمان من خلال انتخابات، ولن يمنع هذا الانقسام، فالمشكلة في ليبيا اليوم متشابكة بين مصالح قوى محليةميليشيات وجهويات وقبائلوإقليمية تتصارع على النفوذ ودولية عاجزة حتى الآن على فرض نفوذ لها بعدما تخلت عن البلاد عقب عملية الناتو للإطاحة بنظام القذافي.

_____________________

مواد ذات علاقة