تعليق قانوني

الحق في التنظيم وتكوين الجمعيات حق أساسي ضمن الحقوق المدنية والسياسية التي تكفلها كافة المواثيق والمعاهدات الدولية، كما يُعد ضمانة أساسية لتمتع الأشخاص بحرياتهم الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية الأخرى.

إذ يمثل أحد أركان النظام الديمقراطي الذي يضمن للأفراد «التعبير عن آرائهم السياسية والمشاركة في الأعمال الأدبية والفنية وغيرها من الأنشطة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، والمشاركة في ممارسة الشعائر الدينية وغيرها من المعتقدات»؛

لذا أقره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الـ 20، وكفله العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في مادته 22، ونصت عليه الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل (المادة 15)، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (المادة 7).

كما أكدت عليه المادتان 26 و40 من الاتفاقية الدولية لحماية حقوق العمال المهاجرين وأسرهم، والمادة 15 من الاتفاقية الخاصة باللاجئين. والمادة 24 (7) من الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، والمادة 29 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.

ولما كانت الدولة الليبية قد صادقت على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1970، وصادقت أيضًا على الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب عام 1986، والذي تضمن المادة 10 (1) منه حرية تكوين الجمعيات؛ أصبح لزامًا عليها إعلاء هذه الالتزامات الدولية على أي قوانين وطنية.

وذلك على النحو المشار له في الطعن الدستوري رقم 57/01 (ديسمبر 2013)، والذي أوضح أن «الاتفاقية الدولية التي صادقت عليها السلطات التشريعية الليبية تعلو على القانون الوطني. وفي حالة التناقض بين القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية، يجب تطبيق أحدث (اتفاقية دولية) مباشرةً أمام المحاكم الوطنية».

في 21 مارس 2023، أصدرت حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة منشورًا (رقم7/2023) الذي يسمح للجمعيات المحلية والدولية في ليبيا بمواصلة عملها مؤقتًا، ويقر بشرعيتها (المؤقتة) لحين (تصحيح) أوضاعها وفق قانون 19/2001 لتنظيم الجمعيات (أحد قوانين نظام القذافي التي يُفترض سقوطها بموجب الإعلان الدستوري 2011)، وذلك دحضًا لما ورد في التعميم العام رقم 5803 الصادر في 13 مارس، عن إدارة التعاون الخارجي بحكومة طرابلس، والذي أقر بعدم شرعية جميع الجمعيات الوطنية والدولية العاملة في ليبيا؛ المسجلة بعد عام 2011.

في الوقت نفسه أقترح من بعض أعضاء مجلس النواب بعض التعديلات على قانون 19/ 2001، والذي جاء قرار العودة لأحكامه كإطار منظم لعمل الجمعيات في ليبيا تحايلًا على حالة الفراغ التشريعي وغياب الإطار القانوني المنظم لعمل الجمعيات بعد 2011؛ الأمر الذي أفسح المجال أمام السلطات التنفيذية على مدى السنوات الماضية للتعدي على اختصاص السلطة التشريعية في تنظيم العمل الأهلي.

فأصدرت منذ 2016 وحتى مارس 2023، أربعة قرارات ولوائح إدارية تعكس إصرار السلطات الحاكمة في الشرق والغرب على خنق حرية تكوين الجمعيات الوطنية والدولية، وخاصة الحقوقية التي تفضح انتهاكاتها، والسيطرة عليها.

فهل يصلح قانون 19 لسنة 2001 كإطار منظم للعمل الأهلي في ليبيا؟

وهل تفي تعديلاته الأخيرة بالمعايير الدولية لحرية التنظيم والمبادئ الأساسية للقوانين الوطنية المنظمة لعمل الجمعيات؟

وماذا عن اللوائح والقرارات السابقة الصادرة عن السلطات التنفيذية في الشرق والغرب، هل تحظى بأي مشروعية؟

في هذا التعليق القانوني نبحث تطور الإطار القانوني المنظم للعمل الأهلي في ليبيا، ومدى دستورية ومشروعية قوانينه التشريعية وقراراته ولوائحه التنفيذية، ومدى توافقها مع التزامات ليبيا الدولية فيما يتعلق بحرية التنظيم.

كما نسلط الضوء على خطورة غياب تشريع وطني يتوافق مع المعايير الدولية والدستورية لتنظيم ممارسة هذا الحق، ونُعيد طرح المشروع المقترح من منظمات حقوقية ليبية والمقدم لمجلس النواب في يونيو 2021 كبديل عن القانون الحالي 19 لسنة 2001.

كما يتطرق التعليق إلى المعايير الدولية المبررة لتقيد الحق في التنظيم والسوابق القضائية في النظام القانوني الليبي الضامنة لحمايته، حتى في أوقات الاستثناء.

أولا: قانون 19 لسنة 2001: القانون القمعي

في 1969 أصدر القذافي الإعلان الدستوري الذي تجاهل الإشارة إلى الحق في تكوين الجمعيات، عاصفًا بدستور 1951، الذي كان يقر هذا الحق (المادة 26).

وفي 1970 أصدر مؤتمر الشعب العام للقذافي القانون رقم 111، الذي ألغى بدوره مواد القانون المدني الليبي الصادر في 1953، والتي كانت تنظم بدورها عمل الجمعيات (المواد من 64-68).

ولم يعترف القانون الجديد (رقم 111) إلا بالجمعيات التي أسسها مجلس قيادة الثورة أو وزير الشئون الاجتماعية والتأمينات الاجتماعية. وبذلك نجح نظام القذافي في محو الحق الدستوري والإطار القانوني لتنظيم الحق في تكوين الجمعيات.

وفي عام 2001، أصدر مؤتمر الشعب العام القانون رقم 19، وهو قانون لا يعترف سوى بالجمعيات التي تُقدم خدمات اجتماعية أو ثقافية أو رياضية أو خيرية أو إنسانية.

ويضع هذه الجمعيات تحت إشراف صارم من مؤتمر الشعب العام. وبموجب هذا القانون لا تسمح السلطات التنفيذية بتأسيس الجمعيات إلا بعد اقتناعها بنوع النشاط وموافقتها على نظامها الأساسي وأسماء أعضاءها.

ويحق لها إبطال القرارات والإجراءات الخاصة بالجمعية. كما يحق لها، دون إذن قضائي، تعيين إدارة مؤقتة للجمعية أو إغلاقها أو حلها أو دمجها بأخرى. ويرهن القانون حق الجمعيات في الحصول على تمويل أو مزاولة نشاط ما أو عقد اجتماع للجمعية العمومية، بإشراف وحضور ومباركة مؤتمر الشعب العام.

هذه الصلاحيات الواسعة والقمعية، لم تكن تعصف فقط بحرية واستقلال العمل الأهلي. وإنما تخالف مبادئ حرية التنظيم التي أقرها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وضمانات حرية تكوين الجمعيات حسب المادة (10/1) من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب.

ومن ثم، ينطبق عليه ما ورد لاحقًا في الطعن الدستوري 57/01 في ديسمبر 2013 والذي أقر بتفوق الاتفاقية الدولية على القانون الوطني، وأنه «في حالة التناقض بين القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية، يجب تطبيق أحدث (اتفاقية دولية) مباشرة أمام المحاكم الوطنية اللبيبة»، بالإضافة لمخالفته الصريحة للمعايير الأساسية الواجبة في أي قانون وطني منظم للعمل الأهلي، والواردة في تقرير المقرر الخاص الأممي المعني بحرية التنظيم الصادر في مايو 2012.

وبالإضافة للقانون رقم 19، استخدم نظام القذافي في قمع حرية التنظيم؛ القانون رقم (80) لسنة 1975 بشأن تعديل وإلغاء بعض أحكام قانون العقوبات، والذي يتضمن تعريفات غامضة للسلوك المحظور قانونًا، والذي تصل عقوبة الاشتراك فيه حد الإعدام (المادة 206)، فيجرم على سبيل المثال، الأفعال التي تسعى إلى «تغيير القواعد الأساسية للبنية الاجتماعية بوسائل غير مشروعة»، دون تعريف محدد لتلك القواعد ولا هذه الوسائل.

هذا بالإضافة لتعارض مواد هذا القانون (رقم 80)،[4] مع الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها ليبيا، لا سيما المواد 6 و7 و15 و18 و19 و21 و22 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

ثانيا: حرية تكوين الجمعيات بعد الإعلان الدستوري 2011

في 2011، ومع صدور الإعلان الدستوري الجديد، كفلت المادة 15 منه حق الأفراد في حرية تكوين الجمعيات، والتي يجب أن ينظمها قانون عن السلطة التشريعية الوطنية.

وبذلك سقط الإعلان الدستوري 1969، وسقطت معه كل تشريعات وقرارات وقوانين نظام القذافي وأجهزته التنفيذية.

وفي 2013، صدر القانون رقم 29 المتعلق بالعدالة الانتقالية الذي نص صراحة في المادة 6[5] على بطلان وعدم شرعية جميع التشريعات الجائرة الصادرة قبل 2011.

وهو ما ينطبق تمامًا على القانون 19 الصادر عام 2001 بشأن حرية تكوين الجمعيات، والقانون رقم (80) لسنة 1975 بشأن تعديل وإلغاء بعض أحكام قانون العقوبات، بما في ذلك المواد التي تجرم حرية التجمع وتعاقب عليها بعقوبات قاسية تصل للإعدام (المادة 206).

وكان من المنتظر أن تُصدر السلطة التشريعية قانون جديد ينظم عمل الجمعيات، امتثالًا للإعلان الدستوري، على أن يتوافق هذا القانون الوطني الجديد مع التزامات ليبيا الدولية بشأن حرية التنظيم، حتى في حالات الاستثناء، ويتوافق مع المبادئ الأساسية الواجب توافرها في أي قانون وطني ينظم عمل الجمعيات، والتي أقرها المقرر الخاص المعني بحرية التنظيم في الأمم المتحدة، في تقريره عام 2012 وهي:

  • أن تكون منظمات المجتمع المدني قادرة على التسجيل لدى الهيئة الإدارية المختصة من خلال عملية الإخطار وليس الترخيص.

  • إذا ارتكبت جمعية ما انتهاك، على السلطات التنفيذية، بما في ذلك المؤسسات الأمنية، الطعن في التسجيل أمام سلطة قضائية محايدة ولا يمكنها رفض التسجيل دون إشراف قضائي.

  • يجب أن يكون لمنظمات المجتمع المدني الحق في فتح حساب مصرفي دون إذن من السلطة التنفيذية، ولا يمكن تجميد هذا الحساب المصرفي إلا بحكم من السلطة القضائية.

  • يجب على السلطات ألا تطلب من منظمات المجتمع المدني التسجيل مرة أخرى إذا كانت قد سجّلت بالفعل؛ يُعد الالتزام بتجديد التسجيل انتهاكًا لحرية تكوين الجمعيات.

  • يجب على السلطات السماح لمنظمات المجتمع المدني بالاجتماع مع المجتمعات المحلية والدولية دون موافقة مسبقة.

  • لا يمكن للسلطات تعليق أو حل جمعية دون حكم من القضاء يحترم مبادئ المحاكمة العادلة.

جدير بالذكر أنه وفقًا للمادة 4 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، لا يعتبر الحق في حرية تكوين الجمعيات حقًا مطلقًا، لكن في حالات استثنائية، يمكن وضع قيود عليه، شريطة أن تكون قانونية وضرورية في المجتمعات الديمقراطية.

ويشير التعليق العام رقم 27 للجنة الأممية المعنية بحقوق الإنسان عام 1999 بشأن حرية التنقل، أنه: «على الدول، عند اعتماد قوانين تنص على قيود أن تسترشد دائمًا بالمبدأ القائل بأن القيود لا تعرقل جوهر الحق. ويجب ألا تغير العلاقة بين الحق والقيد، بين القاعدة والاستثناء».

ومن ثم، فثمة شروط ينبغي التأكد من استيفائها حين ترغب الدول في تقييد هذا الحق، كما يجب تبرير أي قيود بناءً على إحدى المصالح المحدودة المشار إليها أعلاه (قانونية وضرورية).

بمعنى أن الاستثناء لا بد أن يكون له أساس قانوني (يأتي بقانون أو تعديل موقوت على قانون)، تتم صياغته بما يكفي من الدقة، ويقدم مبرراته الضرورية.

فعلى سبيل المثال، وفقًا للفقه القانوني لمنظمة العمل الدولية،[6] فإن قرارات حل المنظمات العمالية «يجب ألا تحدث إلا في القضايا الخطيرة للغاية؛ وأن يتم حل مثل هذه الحالات فقط، بعد قرار قضائي يضمن حقوق الدفاع بشكل كامل».

أما اللجنة الافريقية لحقوق الإنسان والشعوب فقد وجدت أن أي قيود شاملة على من يمكنه تكوين الجمعيات هي في جوهرها غير قانونية.

وأنه لا يوجد نص آخر بشأن من يمكن تقييد هذا الحق عليه أو متى يمكن تقييده، كما هو المنصوص عليه في المادة 10 والمبادئ التوجيهية بشأن حرية تكوين الجمعيات و التجمع السلمي الصادرة من اللجنة الافريقية لحقوق الإنسان والشعوب في الدورة الـ 60 للجنة المنعقدة في نيامي، النيجر، في الفترة من 8 إلى 22 مايو 2017.

يتبع

________________

مواد ذات علاقة