جمعة محمود الزريقي

شارکت منذ يومين في حوارية حول قانون التسجيل العقاري الصادر سنة 2010 بشان تفعيله جزئيا بناء على قرار صادر عن السيد رئيس مجلس الوزراء في حكومة الوحدة الوطنية بتاريخ 2020/12/11م.

وعند مناقشة هذا الموضوع قدم أحد الحضور سؤالاً حول القانون الصادر عن مجلس النواب رقم 1 لسنة 2020 بإلغاء كافة القوانين والقرارات الصادرة عن المؤتمر الوطني العام بعد انتهاء ولايته، وذكر أن بعض المحاكم قامت بتطبيقه.

وقد تبين لي أن هذا القانون نشر بتاريخ 15 يناير 2020 بالجريدة الرسمية لسنة 2020 العدد الأول السنة التاسعة، وهذه الجريدة لا تصدر من طرابلس بل من بنغازي ولم أقف عليها، واطلعت عليه في صفحة المجتمع القانوني الليبي، ضمن وسائل الإعلام .

تنص المادة (1) من القانون على أن ( تعتبر ملغاة كافة القوانين والقرارات الصادرة عن المؤتمر الوطني العام بعد انتهاء ولايته بتاريخ 08/03/ 2014م

كما تنص المادة (2) على أن ( يستمر العمل بالقوانين والقرارات الصادرة قبل تاريخ 2014/08/03م، إلى حين تعديلها أو إلغائها من الجهة التشريعية المختصة )

كما تنص المادة (3) من القانون على أن ( يعمل بهذا القانون من تاريخ صدوره ويلغى كل حكم يخالف وينشر بالجريدة الرسمية ) مجلس النواب ، صدر في بنغازي بتاريخ 20 جمادى الأولى 1441هـ .

شمل هذا القانون الذي أصدره مجلس النواب عدة تشريعات وقرارات صدرت عن المؤتمر الوطني العام بعد التاريخ الذي حدده وهو (2014/08/03م ) واعتبرها ملغاة وهذا الإلغاء شمل العديد من التشريعات والقرارات، ومن أهمها :

  • القانون رقم 9 لسنة 2015م بشأن اعتماد الميزانية العامة للدولة للعام 2015م

  • والقانون رقم 12 لسنة 2015م بإلغاء بعض أحكام القانون رقم 7 لسنة 1423 ميلادية بشأن إحكام الوصايا

  • والقانون رقم 13 لسنة 2015م بشأن بعض الأحكام الخاصة بشركة الاستثمار الوطني

  • والقانون رقم 16 لسنة 2015 بإلغاء بعض القوانين.

وبصورة عامة قوانين وقرارات عديدة شملتها الفترة المحددة لسريان القانون رقم 1 لسنة 2020 م

إن أي تشريع يصدر عن الجهات الرسمية في الدولة، في أي شكل كان : قانون أو لائحة أو قرار أو تصرف، ينتج عنه مراكز قانونية تتعلق بالأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين، وتلك المراكز تختص بحقوق يتم اكتسابها أو التزامات يتم تنفيذها من قبلهم، وفي جميع الأحوال يجب على المشرع أن يحترم تلك الحقوق والالتزامات، ولا يتم إهدارها أو القضاء عليها أو سلبها إلا وفق الدستور ولا يتم أي إجراء حيالها إلا وفقا للأوضاع القانونية وخاصة القواعد الدستورية التي تنظم الحقوق والحريات في البلاد.

ولم يبين مجلس النواب في قانونه المشار إليه كيفية معالجة تلك الأوضاع التي ستنتج عن تطبيق الإلغاء للتشريعات والقرارات التي سوف تلغي بموجبه, وكذلك الأوضاع التي تتعلق بالحقوق والالتزامات التي تم اكتسابها خلال الفترة من 3 أغسطس 2014 إلى 15 يناير 2020 تاریخ نشر القانون في الجريدة الرسمية التي تصدر في بنغازي وليست الجريدة الرسمية التي تصدرها وزارة العدل في طرابلس

ولا يمكنني في هذه العجالة تناول كل التشريعات والقرارات التي شملها الإلغاء ؛ وإنما أكتفي بأهمها:

  • القانون رقم 16 لسنة 2015م بإلغاء بعض القوانين الذي صدر عن المؤتمر الوطني العام بتاريخ أول محرم 1437 هـ الموافق 14 أكتوبر 2015م، هذا القانون يتعلق بإلغاء مجموعة تشريعات صدرت في العهد السابق لتطبيق مقولات الكتاب الأخضر، خاصة:

  • القانون رقم 38 لسنة 1977م الخاص بإلغاء الحيازة كسبب للملكية،

  • والقانون رقم 4 لسنة 1978م الخاص بتطبيق مقولة البيت لساكنه،

  • والقانون رقم 21 لسنة 1984م،

  • والقانون رقم 7 لسنة 1989 بشأن عدم قبول دعاوى التعويض بسبب تطبيق المقولات الثورية

  • والقانون رقم 7 لسنة 1986م بشأن إلغاء ملكية الأرض ،

  • والقانون رقم 10 لسنة 1427 بشأن دعاوى الملكية والطرد والإخلاء المتعلقة بالعقارات التي آلت إلى المجتمع إلخ .

إن تلك التشريعات التي قام المؤتمر الوطني بإلغائها كانت جائرة لأنها سلبت الكثير من الحقوق الخاصة بالثروة المتعلقة ببعض المواطين، وقد تم امتلاكها سابقا في ظل التشريعات التي كانت نافذة آنذاك ودستور نافذ، و تحت السلطة القضائية التي كانت قائمة، والقضاء المستقل الذي يجوز اللجوء إليه في كل وقت وحين.

وقد نص الإعلان الدستوري الصادر في 2011/8/3م في ديباجته التي جاء فيها : ( إيمانا بثورة السابع عشر من فبراير 2011 التي قادها الشعب الليبي في شتى ربوع بلاده، ووفاء لأرواح شهداء هذه الثورة المباركة الذين ضحوا بحياتهم من أجل الحرية ، والعيش بكرامة، على أرض الوطن ، واستعادة كافة الحقوق التي سلبها القذافي ونظامه المنهار.

وتطلعا إلى مجتمع ينعم بالاستقرار والطمأنينة والعدالة ) وما قام بها المؤتمر الوطني من تلك التشريعات التي أصدرها إنما هو تحقيق أهداف الثورة حسبما جاء في الإعلان الدستوري الذي لا يزال قائما يهيمن على التشريعات التي صدرت بعده ، وفقا لمبدأ تدرج التشريعات .

كما تنص المادة الأولى من الإعلان الدستوري على أن، ليبيا دولة مسلمة مستقلة، دينها الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر كل تشريع، وبعد باطلا كل تشريع أو عمل أو تصرف يصدر بالمخالفة لأحكامها ومقاصدها.

ومجلس النواب باعتباره مشرعاً يجب أن يستعمل سلطته التشريعية لتحقيق المصلحة العامة، فلا يتوخى غيرها، ولا ينحرف عنها إلى غاية أخرى.

يقول الفقيه السنهوري رحمه الله – : ” وهذا المعيار يتكون من شقين، شقاً ذاتياً وشقا موضوعيا ؛ فالشق الذاتي يتعلق بتعريف الأغراض والنوايا والغايات التي أضمرتها السلطة التشريعية، أو قصدت إلى تحقيقها بإصدارها تشريعا معينا، والشق الموضوعي في المصلحة العامة التي يجب أن يتوخاها المشرع دائما في تشريعاته ، وكذلك الغاية المخصصة التي رسمت لتشريع معين ” 

ومجلس النواب لم يبين الغاية المقصودة في القانون رقم 1 لسنة 2020م ، أو الهدف الذي يسعى إليه، سوى عبارة واحدة أن التشريعات والقرارات التي صدرت عن المؤتمر الوطني العام بعد انتهاء ولايته بتاريخ 2014/8/3م، وهذا لا يعد مبررا؛ لأن هذا القانون صدر بعد سكوت المجلس عن ممارسة المؤتمر الوطني لسلطته لأكثر من ثماني سنوات، وأن إلغاء التشريعات إنما يتم عن طريق الرقابة الدستورية، أو تعديل في الدستور،

كما أن الإلغاء شمل قرارات فردية على سبيل المثال : قرار المؤتمر الوطني العام رقم 1 لسنة 2015 بشأن الإذن بفتح اعتمادات شهرية مؤقتة وتقرير بعض الأحكام، وقرار رقم 2 لسنة 2015م بشأن منح الثقة لوزير الدولة لشؤون المؤتمر الوطني العام، وغير ذلك العديد من القرارات التي تم بموجبها إنشاء مراكز قانونية لأشخاص معنوية وأفراد .

لم يرد في قانون الإلغاء، ولم يبين أي أهداف من إصدار هذا القانون، فهو خال الأسباب، ولا توجد معه مذكرة تفسيرية تبين المبررات التي أدت إلى إصداره بعد سنوات من ممارسة المؤتمر الوطني لعمله في ظل نظام قائم معترف به وله حكومة قائمة، وتعامل مع الدول الأخرى،

كذلك لم يبين قانون الإلغاء المقاصد الوطنية أو الفوائد التي يريد مجلس النواب أن يحققها من جراء هذا الإجراء الذي يقلب الأمور رأسا على عقب، خاصة وأنني سمعت بأن بعض المحاكم اعتنقت هذا القانون وقامت تطبيقه، وهو ما يؤدي إلى اختلاف في تطبيق القانون بين منطقة وأخرى.

وحدوث فوارق بينهم، وهذا ما يخالف الإعلان الدستوري الذي ينص في المادة السادسة على ( الليبيون سواء أمام القانون، ومتساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفي تكافؤ الفرص وفيما عليهم من الواجبات والمسؤوليات ولا تمييز بينهم … )

إن الإعلان الدستوري الليبي نص في المادة 32 على استقلال القضاء، وذلك يعني الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات، ولذلك فإن ما قام به مجلس النواب بإصداره للقانون الذي ألغى بموجبه تشريعات قائمة صادرة عن سلطة تشريعية دستورية، يعتبر تدخلا في السلطة القضائية، ذلك أن الرقابة الدستورية على القوانين موكولة للسلطة القضائية، وهي نتيجة لمبدأ سمو الدستور، وهي تعني وجود هيئة سياسية أو قضائية مهمتها النظر في دستورية القوانين، فإذا وجدتها غير دستورية أعلنت بطلانها.

وقيام مجلس النواب بإلغاء مجموعة من القوانين والعديد من القرارات الصادرة عن المؤتمر العام، مخالف للإعلان الدستوري خاصة وأن القانون لم يبين الأسباب الموجبة لهذا الإلغاء ولم يضع من الأحكام لمعالجة الأوضاع التي ستنجم فيما لو طبق هذا القانون، وذلك من شأنه خلق فوضی قانونية يصعب تدارك الأوضاع الناتجة عنها.

لكل ذلك فإني أعتبر هذا القانون غير دستوري، ونظرا لعدم وجود قضاء دستوري، وأن المحكمة العليا من خلال دائرتها الدستورية التي قررت بتاريخ 2016/10/5م من خلال دوائرها المجتمعة ( تأجيل البت في الطعون الدستورية إلى أجل يحدد فيما بعد بقرار من الجمعية العمومية ) ولهذا توقفت عن الفصل في الطعون المقدمة لها خلال ست سنوات خلت، ولديها أكثر من سبعين طعنا مقدما لها لم يتم النظر فيها.

وأخيرا باشرت لأن مجلس النواب بعبثه التشريعي أصدر قانونا بإنشاء محكمة دستورية يكون مقرها بنغازي، فشعرت المحكمة العليا بأنها المستهدفة بالإزالة لغرض التطوير كما كان يكتب على المباني المراد هدمها فقررت الجمعية العمومية استئناف النظر في الطعون حتى تمكنت من القضاء بعدم دستورية القانون المذكور، لتحصن نفسها من جراء تنفيذه، ولهذا أصبحت السلطة القضائية وكذلك السلطة التشريعية في خدمة مصالح أعضائهم والحفاظ على وجودهم والتمتع بامتيازاتهم .

ومن ثم على القضاء الليبي أن يمارس رقابة الامتناع عن تطبيق هذا القانون لسبب واضح هو عدم دستوريته.

ورغم هذا الحكم بعدم دستورية القانون الخاص بإنشاء المحكمة الدستورية الصادر بتاريخ 2022/12/6م عن مجلس النواب، الصادر بتاريخ 2023/3/5م فإن مجلس النواب قام بنشر القانون من جديد في الجريدة الرسمية بأمر من رئيس مجلس النواب بتاريخ 15 رمضان 1444هـ الموافق 2023/4/6م ، العدد الخامس السنة الأولى ، تحت رقم 5 لسنة 2023م ، ص 170، متحديا حكم المحكمة العليا بعدم دستوريته.

وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن مجلس النواب في شخص من يقوده لا يعترف بأي سلطة قضائية أو أي سلطة أخرى، بل قد جعلها ضمن اختصاصاته؛ فهو يمثل السلطة التشريعية والسلطة القضائية في آن واحد.

ولهذا، والحق أن المحكمة العليا بقرارها وقف النظر في الطعون الدستورية بتاريخ 2016/10/5، مكنت رئاسة مجلس النواب ومن يدور في فلكها من بسط السيطرة على مقاليد البلاد، فلا توجد رقابة دستورية تحد من القوانين العبثية التي يصدرها البرلمان، ولا مجلس رئاسي ينبه أو يتخذ من الخطوات التي تنقذ البلاد الضائعة في ظل القوانين والقرارات المعيبة.

أعود لقانون الغاء القوانين والقرارات التي أصدرها المؤتمر الوطني العام فأقول:

إن صدور هذا القانون بهذا الشكل المعيب المخالف لأبسط قواعد العدالة والحق والمنطق إن تم تطبيقه فذلك يعني إعادة التشريعات التي أصدرت في العهد السابق، والتي تمثل وجهة النظر الذي كان يعتنقها، وعودة مقولات الكتاب الأخضر بحذافيرها وما فرح الشعب الليبي به من الغاء التشريعات التي صادرت أملاكه واستولت عليها الدولة، أو طبقتها بما لا يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، بعد أن قام المؤتمر الوطني العام بإلغائها.

وتم تطبيق بعضها بإعادة الأملاك إلى أصحابها، ها هو مجلس النواب ( غير الموقر) يصدر قانونا بإلغاء القوانين السابقة، وتبدأ المشاكل من جديد، وطالما أن مجلس النواب لم يفصح عن الهدف أو الأسباب التي دعته إلى إصدار هذا القانون، فمن ثم يكون الدافع إلى إصداره أسباب سياسية وربما شخصية، ورغبة في القضاء على منافسه بصورة غير قانونية وليست شريفة، تلك هي الحقيقة التي استخلصتها من هذا القانون المعيب .

لقد تكالب على البلاد، أو بالأحرى على ثورة 17 فبراير وأهدافها جسمان أقامهما الشعب للآسف الشديد كي يكونا في خدمة الوطن والقيام به والوصول به إلى تحقيق الأهداف التي تحرك من أجلها، ورغم وجود شرفاء من بينهم ومخلصين.

إلا أنهما لم يفلحا في السيطرة على البقية التي ترمي إلى ذلك الهدف ، وهما: مجلس النواب والمحكمة العليا من خلال الدائرة الدستورية فالمحكمة أوقفت البت في الطعون الدستورية لمدة ست سنوات، وأتاحت الفرصة لمجلس النواب ولغيره من الأجسام التي تصدر القرارات، بإصدار التشريعات في ظل غياب الرقابة الدستورية التي نص عليها الإعلان الدستوري.

وعلى هذا النحو تم عن طريق التشريع إعادة مقولات الكتاب الأخضر وعادت الحالة التي من أجلها تحرك الشعب في 17 فبراير 2011 .

إن طبق هذا التشريع الأخير، وكذلك القانون الذي نشره المجلس متحديا حكم الدائرة الدستورية بإلغائه، وهو إنشاء محكمة دستورية أخرى، فإن البلاد قد وصلت إلى الهاوية، فلم تصبح مقسومة فحسب، بل ضاعت كدولة بضياع الركن الثاني من تكوين الدول، وهو النظام.

وهكذا وصل بنا الحال إلى عودة النظام السابق بجميع مكوناته، فإلغاء قوانين المؤتمر الوطني، واصرار مجلس النواب على استحداث محكمة دستورية في مكان يستطيع فيه أن يضمها تحت سلطته، ورقابته.

يعني أن البلاد عادت إلى مقولات الكتاب الأخضر الذي عانى منها الشعب طيلة أربعين عاما ونيف، وقاسى منها في الجرائم التي ارتكبت في حق المواطنين والمذابح الجماعية (أبو سليم مثلا) والاستيلاء على أملاك المواطنين وأرزاقهم بتطبيق المقولات الثورية المخالفة لشريعة الإسلام، والقيام بالجرائم ضد دول أخرى، وتسخير موارد الشعب في مؤامرات ضد الدول الأخرى، وتهريب الأموال وتسخيرها في أمور لا فائدة من ورائها للبلاد ، إلخ ما معلوم للكافة .

لا ينكر أن الفترة التي تمت قبل 17 فبراير 2011 قد تمت فيها بعض الانجازات للبلاد، وتحققت بعض المشاريع، ولكن الفساد الذي تم فيها فاق كل الجهود التي بذلت للصالح العام، وهنيئا للشعب الليبي بعود التشريعات التي صدرت أثناء ذلك العهد، ومقولات الكتاب الأخضر الذي طبقتها ليبيا، وعرفت نتائجها كل ذلك بفضل مجلس النواب الذي انتخبناه، والجمعية العمومية للمحكمة العليا التي سهلت لمجلس النواب، وتنازلت عن رقابتها الدستورية للقوانين بإرادة المسؤولين فيها، فأتاحت صدور التشريعات التي قلبت الدولة رأسا على عقب، إلا أن يشاء الله إصلاح البلاد، بهداية من بيدهم الأمر، بفضله تعالى، فهو المنقذ والمخلص.

اللهم إني قد بلغت.

______________

المصدر: صفحات التواصل الاجتماعي

مواد ذات علاقة