عقب اندلاع الثورة الليبية في عام 2011 والتي نجحت في إزاحة حكم القذافي الذي اعتبر دكتاتور زمانه بعد أن حكم ليبيا لأكثر من 40 سنة متواصلة، بدأت ليبيا مرحلة جديدة لم تكن بأفضل من سابقتها، إلا أن مواطنيها تمكنوا على الأقل من الوصول جزئيا إلى الحرية المنشودة في جانب الفكر والرأي والتعبير، وإنشاء الصحف ومنظمات المجتمع المدني.

وبشكل عام تعتبر منظمات المجتمع المدني مقياسا مهما للحرية والتحضر لأي دولة في العالم، فهي تمثل صوت الشعب ويده المعينة، وشكلا متحضرا لمؤسسات تقع خارج سيطرة الدولة وقد تكون أداة مراقبة لتصرفاتها، وقد تقف جنبا إلى جنب مع ضحايا الأنظمة القمعية أيضا.

في ليبيا واجهت هذه المنظمات صعوبات متعددة تمثلت بداية في غياب الأرضية المناسبة لانطلاقتها، حيث أنها كانت شبه منعدمة قبل ثورة السابع عشر من شباط/فبراير ولم يكن لها قوانين مناسبة لتنظيمها، ما جعلها تنطلق بعشوائية كبيرة وبأعداد مهولة جدا، وجعل بنيتها ضعيفة ومعرضة للاستغلال والتسييس أيضا من قبل عدد من الجهات.

الانقسام والأمن

من نواحٍ عديدة، تنقسم ليبيا الحالية بين حكومة الوحدة الوطنية في الغرب التي تدعمها الأمم المتحدة ومقرها طرابلس، وحكومة شكلها مجلس النواب يدعمها خليفة حفتر في الشرق ومقرها بنغازي، وتحت إمرة كل حكومة وجهة هناك عدد كبير من الميليشيات المتنافسة والمسلحة تجوب البلاد، وتقاتل نيابة عن طرف أو آخر.

وحاولت مؤسسات المجتمع المدني أن تقاوم وتعمل وسط هذا الصراع المسلح والفوضى على الرغم من المخاطر المستمرة والمضايقات والعنف التي تعرض لها مسؤولو هذه المنظمات خاصة في المنطقة الشرقية من ليبيا.

ورغم أن الإعلان الدستوري الليبي لعام 2011 يضمن حرية تكوين الأحزاب والجمعيات السياسية، إلا أن منظمات المجتمع المدني تواجه عقبات هائلة لأن قانون عام 2001 لا يزال ساريًا والذي يمنح السلطات الحكومية والأجهزة الأمنية الحق في السيطرة عليها.

وخلال الفترة الماضية واجهت مؤسسات المجتمع المدني عوائق عديدة فيما يتعلق بتعامل الدولة معها حيث عاشت الأوساط المحلية الليبية جدلا كبيرا على مدار أسبوع كامل على إثر صدور فتوى من إدارة القانون في المجلس الأعلى للقضاء تؤكد أن كل منظمة مجتمع مدني شُكلت عقب عام 2011 أي بعد الثورة الليبية التي أطاحت بنظام العقيد معمر القذافي، تعتبر ملغاة وفي حكم العدم.

وأصدرت إدارة القانون خطاباً أوضحت فيه وبشكل صريح رأيها حول منظمات المجتمع المدني، الذي أكدت من خلاله «عدم شرعية كافة الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني التي لم يتم تأسيسها استناداً إلى أحكام القانون رقم 19 لسنة 2001 بشأن الجمعيات الأهلية».

دواع قانونية

الإدارة قالت حسب الخطاب الصادر عنها، إنه «لا يجوز البتة تشكيل الجمعيات الأهلية وسائر منظمات المجتمع المدني الأخرى إلا إذا كان هناك قانون ينظم تكوينها تكويناً محكماً من حيث تحديد عدد أعضائها والشروط الواجب توافرها فيهم».

وتابعت الإدارة أنه «بناء على ما سبق فإن كافة المنظمات والجمعيات التي تم تشكيلها استناداً إلى لوائح تنظيمية صادرة عن السلطة دون الاستناد لأي قانون، فإنها والعدم سواء، ويجب على الجهات العليا في الدولة أن تتخذ الإجراءات اللازمة لحلها، وتستثنى من ذلك الجمعيات الأهلية التي أسست استناداً إلى القانون رقم 19 لسنة 2001 بشأن الجمعيات الأهلية الذي لا يزال سارياً ونافذاً».

اتهامات كبيرة طالت شخص رئيس حكومة الوحدة الوطنية الذي دعم هذا القرار، وشككت في نواياه، خاصة مع وجود أكثر من 6000 منظمة مجتمع مدني في ليبيا ظلت تحت طائلة الخطر مع صدور هذه المخاطبة.

ضغوط كبيرة تعرض لها الدبيبة حتى اضطر إلى التراجع عن رأيه جزئياً، حيث أمر رئيس حكومة الوحدة الوطنية باستمرار عمل المنظمات الأهلية المحلية والأجنبية غير الحكومية، شريطة أن تصحح أوضاعها القانونية وفق قرار حكومي.

خطر أمني

العوائق التي تواجهها منظمات المجتمع المدني لا تتعلق فقط بالسلطة الحكومية حيث تعرض الجماعات المسلحة النشطاء وأعضاء المجتمع المدني لأشكال مختلفة من القمع فقد يؤدي الكشف عن الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان إلى الاعتقال التعسفي أو التعذيب أو القتل خارج نطاق القضاء.

وفقًا لتقرير نُشر في حزيران/يونيو 2022 وشمل الفترة من كانون الأول/ديسمبر 2021 احتجزت الأجهزة الأمنية بشكل تعسفي 12 شابًا من المدافعين عن حقوق الإنسان تم إطلاق سراح أحدهم في النهاية، لكنه لا يزال قيد التحقيق ومُنع من السفر.

وكان بعض هؤلاء النشطاء الشباب قد وصلوا لتوهم إلى المطار للسفر لحضور تدريب عندما تم اعتقالهم، بينما تم القبض على آخرين لإجراء محادثة حول حقوق الإنسان على تطبيق Clubhouse للتواصل الاجتماعي.

ونشرت الأجهزة الأمنية الليبية «اعترافات» أحد النشطاء على صفحاتها على فيسبوك وتويتر ووصف التقرير مناخ الخوف والذعر بين المدافعين عن حقوق الإنسان في جميع أنحاء البلاد، وقامت بعض المنظمات بتعليق أو تقليص أنشطتها خوفا من المضايقات من قبل قوات الأمن والملاحقة القانونية.
وخلال النصف الثاني من اذار/مارس 2022 اعتقلت الجماعات المسلحة لجهاز الأمن الداخلي في شرق ليبيا، ما لا يقل عن 11 متظاهرًا سلميًّا وصحافيًّا في سرت.

وكان المعتقلون قد شاركوا في مظاهرة نُظّمت في 19 اذار/مارس للتنديد بالانتهاكات المرتكبة خلال تدخل حلف الناتو عام 2011 والمطالبة بتعويض الضحايا. كانت هذه هي الموجة الثالثة من الاعتقالات بحق سكان سرت منذ استيلاء الجيش الوطني الليبي على السلطة في عام 2020.

فضلًا عن ذلك، فقد نُفذت سلسلة من الاعتقالات التعسفية في شرق ليبيا وغربها في أعقاب مظاهرات خرجت في الأول من تموز/يوليو ضد المؤسسات السياسية؛ بسبب تدهور الأوضاع المعيشية والمطالبة بإجراء انتخابات. وتعرض عدد من المتظاهرين – بينهم أطفالللاختطاف والاعتقال من سلطات الدولة والجهات المسلحة.

وفي أيار/مايو 2022 دعت مجموعة من الجمعيات الحقوقية السلطاتِ الليبيةَ الشرقية والغربية، إلى التوقف الفوري عن «هجماتها على ما تبقى من الفضاء المدني في ليبيا» وإلى ضمان قدرة منظمات المجتمع المدني والنشطاء والصحافيين على أداء مهامها بحرّية، دون قيود ومخاوف غير مبررة وذلك حفاظًا على سلامتهم.

التشريعات المنظمة

في ليبيا يتواجد جسم يسمى مفوضية المجتمع المدني وهي هيئة تنظيمية أسستها حكومة الوفاق الوطني السابقة في طرابلس عام 2018 وهي مُكَلّفة بتسجيل المنظمات غير الحكومية واعتمادها في ليبيا، وتخضع مفوضية المجتمع المدني للإشراف المباشر من مجلس الوزراء، ولها سلطات واسعة للتحكم في تمويل ورفض وإلغاء تسجيل وتصاريح العمل للمنظمات المحلية والأجنبية بالإضافة إلى ذلك، يُطلب من المنظمات الدولية الحصول على إذن المفوضية قبل ممارسة أي عمل.

وتثير هذه الصلاحيات مخاوف بشأن تدخل المفوضية في عمل الجمعيات، وقدرة المجتمع المدني على العمل مستقلًّا نتيجة لهذه الصلاحيات.

وبالنسبة للتشريعات المنظمة فتعتمد كل من السلطات الشرقية والغربية في ليبيا على قوانين مقيِدة للغاية بعضها موروث منذ عهد القذافي في تنظيم عمل مؤسسات المجتمع المدني ما أثر على انسياب عملها.

وفي تشرين الأول/أكتوبر الماضي قام مجلس النواب الليبي باعتماد قانون الجرائم الإلكترونية الذي يحد بشكل كبير من حرية الصحافة وحرية التعبير على الإنترنت، ويسمح للسلطات الليبية باستهداف نشطاء حقوق الإنسان والمدافعين عن حقوق الإنسان ومعاقبتهم. كما يمنح القانونُ السلطاتِ الليبية سلطة واسعة لمراقبة ما يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي.

كما أن العديد من المواد والقرارات الموجودة فعليا في القوانين الليبية تقيد حرية الكلام والتعبير وتكوين الجمعيات بشكل جسيم، وتشمل هذه القيود فرض عقوبات على عدم احترام الأمة والعلَم الليبييْن، وازدراء الدين، والأعمال التي تهدف إلى قلب النظام السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي للدولة. كما يجري تجريم الحريات الأساسية من خلال مواد قانونية غامضة الصياغة في قانون العقوبات الليبي مثل المادتين 206 و207.

ورغم وجود هذه الأحكام فعليا إلا أنها تبدو متناقضة جدا عند النظر للإعلان الدستوري الليبي لعام 2011 (المادتان 14 و15) والمعايير الدولية لحرية تكوين الجمعيات وفقًا لالتزامات ليبيا بموجب «العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية».

كما يتواجد قرار آخر أصدره المجلس الرئاسي ويحمل رقم 286 ويتمحور حول تنظيم عمل المنظمات غير الحكومية، وقدّمته حكومة الوفاق الوطني في عام 2019 ويتضمن هذا القرار متطلبات تسجيل صعبة ولوائح تمويل صارمة، ويتطلب إخطارًا مسبقًا للجماعات التي ترغب في تنظيم أو حضور فعاليات المجتمع المدني وأنشطته؛ إذ ينهي بشكل أساسي حق المجتمع المدني في الوجود والعمل بحرية من خلال منح مفوضية المجتمع المدني صلاحيات أحادية الجانب لتسجيل الجمعيات وتشغيلها.

وفي محاولة لتوفير وضع قانوني للمنظمات غير الحكومية العاملة في ليبيا، دعت المنظمات الحقوقية الوطنية مجلس النواب لتمرير مشروع قانون ينظم عمل المنظمات غير الحكومية؛ من شأنه أن يضمن استقلال المجتمع المدني وحريته. وقدمت جماعات حقوقية وشخصيات عامة ليبية مشروع القانون إلى البرلمان في تشرين الأول/أكتوبر 2021. وحتى الآن، لم يعتمد مشروع القانون المقترح.

وبالنظر لكل هذه المعطيات يعتبر عمل منظمات المجتمع المدني في ليبيا مقيدا بالنظر لظروف الأمن والانقسام، كما يعد مقيدا بالتشريعات والتنظيمات، ولم تعمل الدولة حتى الآن على استحداث أي قوانين تنصف هذه المنظمات وتضمن حقها في العمل بحرية، وتضمن حق الدولة في الرقابة الجزئية، بل أن العشوائية ظلت سيدة الموقف في التعامل مع هذا الجسم المهم رغم المطالبات بإيجاد الحلول.

__________________

مواد ذات علاقة