د. أحمد أويصال

تعد ليبيا دولة غنية بالموارد الطبيعية حيث تمتلك موارد أكثر من ضعف موارد تركيا، إلا أن عدد سكانها قليل جدا. ورغم انخفاض عدد سكانها البالغ 6 ملايين نسمة، فإن الموارد الطبيعية المختلفة مثل النفط والغاز والذهب واليورانيوم تجذب شهية القوى العظمى، وهذا يؤدي إلى عدم كفاية موارد ليبيا لضمان أمنها.

وبعد الربيع العربي الذي أطاح بنظام الدكتاتور القذافي المستمر منذ أكثر من 40 عاما، لم تسمح نفس القوى العظمى بالتحول الديمقراطي في ليبيا، ما أسفر عن عدم وصول البلاد إلى حالة استقرار.

وتوقفت مرحلة التحول الديمقراطي نتيجة الحرب الأهلية والانقلاب والإرهاب والاضطرابات السياسية. ولكن بالمقارنة مع سوريا واليمن، فلا يتم السماح لليبيا بالانغماس في فوضى كاملة، لا سيما مع حاجة الأسواق العالمية إلى نفطها وغازها الطبيعي.

تركيا والأزمة في ليبيا

تركيا كانت ترتبط بعلاقات قوية مع المنطقة المغاربية خلال الفترة العثمانية، لا سيما مع ليبيا، التي تعتبر آخر مكان غادرته تركيا في إفريقيا، واستمرت هذه العلاقات الحميمة حتى حرب الاستقلال في تركيا.

والمدن الليبية لا سيما مصراتة، مليئة بالاتراك القادمين من الأناضول، كما أن اللاجئين الذين قدموا إلى ليبيا بعد خسارة الدولة العثمانية للبلقان والقوقاز والجزر المحاذية لليونان هم أيضا بعدد ليس بالقليل.

وكانت إدارة المملكة الليبية التي تم تأسيسها بعد الاستقلال، تتلقى الدعم من تركيا فيما يتعلق بإضفاء الطابع المؤسسي على الدولة، وكانت العلاقات جيدة جدا في ذلك الوقت. وعملت مجموعة الضباط الأحراربقيادة القذافي على نقل المشروع الإنقلابي القومي العربي الذي نجح في مصر في عام 1952، إلى ليبيا.

وعلى الرغم من ضعف العلاقات خلال تلك الفترة، إلا أن الشركات التركية قامت بتنفيذ مشاريع مهمة للغاية في قطاع البناء الليبي بفضل الديناميكيات التي نتجت عن قضية قبرص والعلاقات الجيدة التي أقامها تورغوت أوزال في الثمانينيات.

يعتبر القذافي هو الحاكم الوحيد الذي أطاح به التدخل الأجنبي الناجم عن تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مرحلة الربيع العربي.

ويمكن ربط هذا الوضع بالشرعية الجزئية والقوة التي استمدها النظام من إمكانيات البترول مع قلة عدد السكان في البلاد. وأراد بعض الفاعلين العالميين لا سيما من الدول الغربية الذين انزعجوا من احتمالية تغير الوضع الاقليمي الراهن جراء الربيع العربي، الاستفادة من الانقلاب الذي وقع في مصر، وتكراره في ليبيا.

كما أن الولايات المتحدة الامريكية بذلت جهودا من أجل إيصال الانقلابي الجنرال المتقاعد خليفة حفتر الذي يحمل الجنسية الأمريكية إلى السلطة في ليبيا، من خلال استخدام داعش والإرهاب ذريعة في هذا الصدد.

ولكن الشعب الليبي قاوم ذلك ولم يتمكن حفتر من السيطرة على الجزء الغربي من ليبيا. حيث نجح الأهالي والميليشيات في طرابلس في منع حفتر من تنفيذ مخططه بالدخول إلى طرابلس والذي بدأه بالانقلاب العسكري في العام 2014.

واضطر حفتر إلى قبول حكومة الوفاق الوطني التي جاءت مع الاتفاقية الموقعة في مدينة الصخيرات المغربية في عام 2015، تحت رعاية الأمم المتحدة.

لم يتخلّ حفتر وأنصاره عن شغفهم بالانقلابات مع مرور الوقت، وقاموا بالتحرك مرة أخرى في عام 2020، وحاولوا الاستيلاء على العاصمة بقوة السلاح وعندما طلبت حكومة الوفاق الوطني المساعدة من تركيا، تم دحر الانقلابيين من غرب البلاد.

وعلى الرغم من هزيمة حفتر والانقلابيين، إلا أن الرعاة الدوليين لهذه المجموعات استمروا في دعمه باعتباره جهة فاعلة شرعية. وشارك حفتر في مرحلة جينيف الرامية لإيجاد حل للأزمة الليبية إلا أنه واصل سيطرته على المحافظات الشرقية والوسطى والجنوبية.

وعمل حفتر في تلك الفترة على وضع غطاء قانوني لما يقوم به، من خلال القرارات الكيفية لبرلمان طبرق الذي تم تمديد ولايته باتفاقية الصخيرات رغم انتهائها في العام 2014. وشكل رئيس مجلس النواب في طبرق عقيلة صالح الجناح المدني للانقلابي القديم ضد الحكومة المركزية، وذلك بدعم وتوجيه من مصر.

وبحسب اتفاق جينيف، فإن الانتخابات التي كان يجب إجراؤها في ديسمبر 2021 تنهي مهمة حكومة الوحدة الوطنية التي شكلها عبدالحميد الدبيبة، ولكن لم يتم إجراء الانتخابات والتغييرات اللازمة، بسبب مقاومة برلمان طبرق وجناح حفتر.

لأن القانون الخاص بشروط الترشّح وكيفية إجراء الانتخابات، لم يتم تفعليه بسبب عدم توصل برلماني طبرق وطرابلس إلى اتفاق في هذا الشأن.

كما أن لحكومة الدبيبة أيضا دور في بطء مسار المرحلة وعدم إجراء الانتخابات في وقتها المحدد. واستغل جناح حفتر هذا الوضع وفرصة عدم إجراء الانتخابات، وحاول تشكيل حكومة موازية في طبرق برئاسة وزير الداخلة السابق فتحي باشاغا، بدعم من مصر وفرنسا والغرب.

ورغم عدم حصول هذه الحكومة على اعتراف من أي دولة، إلا أنها حاولت دخول العاصمة مرتين بقوة السلاح، وبذلك شكلت تهديدا على الوحدة والاستقرار في الغرب الليبي.

وبالإضافة إلى ذلك، كانت حكومة الدبيبة بعيدة عن العمل بشكل صحيح لإنقاذ البلاد، وبدات تنتشر الأحاديث حول المشاكل الاقتصادية، لا سيما انقطاع التيار الكهربائي ونقص الخدمات والفساد.

وعندما ظهرت حكومة باشاغا الموازية، سعى الدبيبة للعمل على ضمان مقعده عبر الموافقة على بعض التنازلات لحفتر، مثل الانسحاب من المحافظات الجنوبية، كما سلم رئاسة المؤسسة الوطنية للنفط إلى فرحات بن قدارة المقرّب من الإمارات.

وللحصول على دعم خارجي، قام بتسليم مفجّر لوكربي أبوعجيلة مسعود إلى أمريكا، إلا أن هذا القرار لاقى ردود أفعال كبيرة في الرأي العام، وأصبح النقاش متداولا حول وطنية الدبيبة. لأن النظام السابق كان قد أغلق هذه القضية بدفع تعويضات كبيرة لأسر ضحايا لوكربي.

الوضع الراهن للأزمة ومناورات الفاعلين المؤثرين

لوحظ في الفترة الأخيرة، أن ليبيا دخلت في حالة عدم استقرار جديدة، وبدأت مساعي بحث جديدة مختلفة. لأن الحكومة الموازية في الشرق رغم عدم حصولها على اعتراف من أحد ورغم أنها دمية في يد حفتر، إلا أنها مستمرة ولو بالاسم، إضافة إلى ذلك فشل البرلمانان في الوصول إلى اتفاق بشأن الانتخابات.

من جانب آخر، فإن مبعوث الامم المتحدة الذي تم تعيينه في سبتمبر الماضي الدبلوماسي السنغالي عبدالله باتيلي، توجه إلى ليبيا وبدأ مساعيه لإيجاد حلول للأزمة الجارية والتقى بالعديد من الأطراف.

التقى الممثل الأممي بشكل خاص بمرشحي الرئاسة في الانتخابات، لكنه لم يول اهتماما كبيرا إلى مؤيدي الثورة في الغرب والمؤمنين بالمسار الديمقراطي والجهات الفاعلة المقربة من تركيا، مع أن هذه المجموعات هي التي دافعت عن طرابلس ومحيطها ضد الانقلاب.

وحتى الآن، لم يتمكن الممثل الأممي من تقديم اقتراح حل ملموس، ولكن إذا لم يتفق معسكرا الشرق والغرب، فإن المجتمع الدولي والجهات الفاعلة العالمية ستعود مرة أخرى وتصبح أكثر فاعلية في هذا الصدد.

جدير بالذكر أن الولايات المتحدة تولي أهمية خاصة لليبيا في الفترة الأخيرة. والدليل على ذلك، الزيارة التي أجراها مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام جوزيف بيرنز لأول مرة إلى ليبيا، حيث التقى مع كل من الدبيبة وحفتر، لكنه لم يلتق رئيسي البرلمانين عقيلة صالح وخالد المشري، ورئيس الحكومة الموازية باشاغا.

وتم تفسير هذا الأمر على أنه رسالة موجهة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى شرائح مختلفة. ويعرف الدبلوماسي السابق بيرنز أهمية ليبيا لا سيما في الحسابات الإقليمية مثل الطاقة، والأهم من ذلك أن يسعى لإضعاف نفوذ روسيا في إفريقيا بسبب حرب أوكرانيا.

واتضح بعد الزيارة، أن بيرنز طلب من حفتر إخراج قوات فاغنر الروسية من البلاد. وعلى الرغم من أن انخفاض الدعم العسكري الروسي أضعف قبضة حفتر ومصر، إلا أنه من غير المعروف ماهية التنازلات التي ستقدمها الولايات المتحدة مقابل ذلك. لكن بشكل عام، يمكن القول إن الولايات المتحدة بعيدة عن الجناح الانقلابي التي تقوده فرنسا ومصر.

وبعد زيارة المسؤول الامريكي مباشرة، قام رئيس جهاز المخابرات الوطنية التركية هاكان فيدان أيضا بزيارة ليبيا. وهنا يمكن الفهم أن زيارة السودان في البداية ومسألة إعادة ميليشيات الجنجويد القادمين من هناك، تتعلق أيضا بليبيا.

كان لقاء فيدان مع رئيس الوزراء الدبيبة خلال زيارته لليبيا، متعلقة بالوضع العام هناك، إضافة إلى التطورات الأمنية والسياسية الجديدية، كما التقى فيدان مع خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة وقادة آخرين تجاهلهم بيرنز، وتداولت الأنباء أن الاجتماع ساهم في خفض حدة الخلافات التي ظهرت مؤخرا بين المشري والدبيبة.

لقد كانت زيارة فيدان تشير إلى أن المخاوف الأمنية فيما يتعلق بمصير البحر الأبيض المتوسط وأوكرانيا والميليشيات تبرز إلى الواجهة في الملف الليبي بالنسبة لتركيا.

إن من التطورات المهمة في الفترة الماضية أن بعض الدول العربية بقيادة مصر، بدأت تتعامل ببرود تجاه حكومة باشاغا الموازية. وكانت مصر قد أبدت ردود فعل خلال الاجتماعات السابقة لجامعة الدول العربية، تشير إلى أنها لا ترى حكومة الدبيبة حكومة شرعية. كما أن ممثلي مصر والسعودية والامارات لم يحضروا اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عقد في ليبيا في 22 يناير.

وعلى الرغم من أن الاجتماع كان ذا طبيعة استشارية، إلا أن المستوى المنخفض لتمثيل البلدان الأخرى يضعف شرعية حكومة الدبيبة. من جانب آخر، تعمل مصر على زيادة نفوذها على مستقبل ليبيا عبر السيطرة على خليفة حفتر وعقيلة صالح، من خلال القبائل في الشرق والتوسط في الحوار بين الشرق والغرب.

كلما واجهت حكومة الدبيبة بعض المشكلات في الداخل والخارج، فإنها تقدم التنازلات لبعض الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية والمحلية مثل حفتر. ومن بين هذه التنازلات، منح الإمارات رئاسة مؤسسة النفط الليبية، وتسليم مفجر لوكربي لأمريكا، وأخيرا صفقة النفط بقيمة 8 مليارات دولار مع إيطاليا.

وتم إبرام هذه الاتفاقية خلال زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية الجديدة جورجيا ميلوني إلى ليبيا. من جانبه، انتقد باشاغا رئيس الحكومة الموازية في الشرق هذه الاتفاقية قائلا إنه تم التفريط بالنفط إلى ايطاليا. كما انتقد وزير النفط في حكومة الدبيبة محمد عون هذه الاتفاقية قائلا كان يجب إبرام الصفقة من خلال الوزارة.

كما أن ايطاليا التي تعارض النهج الانقلابي لفرنسا شددت على التعاون بشأن المهاجرين غير الشرعيين من ليبيا، خلال هذه الزيارة التي تدل على دعمها لحكومة الدبيبة الضعيفة.

وفي النتيجة، هناك اليوم أزمة سياسية خطيرة في ليبيا، كما أن هناك تحركات في كل من الشرق والغرب، وليس من الواضح ما إذا كانت الانتخابات ستجرى مع نفس الحكومة أو مع حكومة جديدة.

في الواقع، تحاول مصر وفرنسا والإمارات تجنب الانتخابات بفرض تشكيل حكومة جديدة. وحتى لو كانت هناك انتخابات، تحاول هذه الدول إجبار انتخاب حلفائهم الدكتاتوريين. بينما تريد تركيا وإيطاليا والولايات المتحدة إجراء انتخابات مع حكومة الدبيبة. ولو كانت هناك حكومة جديدة، فهي تريد تشكيلها بتوافق بين جميع الأطراف، إن أمكن.

وفي هذا السياق يتولى رئيسا البرلمان خالد المشري وعقيلة صالح إجراءات تشكيل الحكومة الجديدة، لكن هناك مسألة لم يتم حلها بين الطرفين، وهي ما إذا كان لحفتر وأبنائه الحق في الترشح أم لا، ويمكننا القول بأنه من الصعب حل هذه المسألة، وفي حال عدم إيجاد حل للأزمة السياسية الجارية في ليبيا إو رفض حكومة الدبيبة الحل المقترح، فهذا سيزيد من عمل الأزمة وستغرق البلاد في الفوضى مرة أخرى.

وفي هذه المرحلة، يمكن لممثل الأمم المتحدة في ليبيا عبد الله باتيلي الذي فشل في تحقيق نتائج من جولات إيجاد الحل، أو يتولى هذه المهمة. ويمكن لباتيلي اتخاذ قرارات من شأنها أن تحدد مجلس الحكم الحالي والحكومة ومستقبل البرلمانين.

وربما يرغب في إلغائهم جميعا أو إلغاء بعضهم، وتشكيل حكومة جديدة بفرض حل خارجي من خلال لجنة الـ 75 مثل ما حدث في عام 2020.

وفي هذه المرحلة، سنرى أهمية كبيرة لردود فعل الشعب الليبي الذي لا يتم إيلاء الاهمام لرأيه كثيرا، على هذه القرارات.

لذلك، وصلت ليبيا إلى مفترق طرق مرة أخرى، وكل الخيارات مفتوحة، من الانقلاب إلى الفوضى والانتخابات.

وفي هذه المرحلة، يجب على تركيا الصديق الحقيقي لليبيا، المشاركة بفاعلية وحساسية كبيرة في هذه التطورات.

***

د. أحمد أويصال ـ أكاديمي تركي، واستاذ جامعي في علم الاجتماع السياسي بجامعة اسطانبول، مهتم بدراسة الشؤون العربية والعلاقات العربية التركية، قام بتأسيس والاشراف على مركز دراسات الشرق الأوسط.

_____________

المصدر: مجلة شؤون الشرق الأوسط، المجلد 3 ـ العدد 10 ـ يناير فبراير 2023

مواد ذات علاقة