عبدالله الكبير

كلما تأزمت الأمور المالية للسلطة العسكرية الحاكمة في الشرق الليبي، لجأت إلى التلويح بقفل قطاع النفط، ولابد من التذكير هنا أن بعض الإقفالات السابقة تمت بأوامر خارجية، وهو ما دفع أطراف دولية أخرى إلى التدخل في شؤون النفط الليبي، حسب مصالحها السياسية ومصالح شركاتها، ليصبح الخارج شريكا غير مباشر في إدارة قطاع النفط، حتى التكليف الأخير لرئيس المؤسسة الوطنية للنفط تم برعاية إماراتية.

الحجج التي تُسوق لتبرير الإقفال هي نفسها لم تتغير.. مناطق مهمشة لا تستفيد من العائدات، سلطة مركزية غير عادلة في تقسيم المورد الوحيد للدخل، تفشي الفساد في وزارات وإدارات الحكومة، وبعد أسابيع أو شهور من تعطيل الإنتاج، وتكبد القطاع خسائر تقدر بالمليارات، وتأثر البنية التحتية بالحقول والموانئ، ينتهي الإقفال ويعود الإنتاج، إما بتسوية سياسية يحصل بموجبها الطرف الذي تسبب في هذه الخسائر على كل مطالبه أو بعضها، من دون أن نعرف هل تحققت مطالب الذين تم القفل باسمهم، وانتهى التهميش، وفككت المركزية، ووضعت الآليات المناسبة للحد من الفساد؟ أم فقط تم استخدامهم كورقة ضغط في مشروع الابتزاز مقابل بعض الفتات؟.

هذه المرة يعود التلويح بإقفال النفط، ولكن بواجهة جديدة هي الحكومة الموازية، التي لا تملك إلا سلطة تنفيذ إرادة العائلة القوية الحاكمة في الشرق، بمساندة الجناح المهيمن على مجلس النواب، في الإقفالات السابقة استخدمت قطاعات شعبية أطلقت على نفسها اسم القبائل الشريفة.

التهديد بورقة النفط لم يرق للسفير والمبعوث الأمريكي الخاص ريتشارد نورلاند، بالإضافة إلى مدحه “للتقدم الذي حققته المؤسسات المتعلقة بتوزيع الإيرادات، مشجعا على التوصل إلى اتفاق بشأن هذه المسألة باعتبارها أحد الملفات الكامنة وراء الصراع”، وهو ما يعني أنه لا مبرر لأي تصعيد أو تهديد بقفل النفط، ما دامت مسألة توزيع العائدات بشكل عادل ماضية نحو إبرام الاتفاق.

الاتفاق عن طريق المؤسسات، لن يُلبي طلبات حفتر في الحصول على ما يريد من مال، للاستمرار في تمويل مشروعه، لذلك بادر بالخروج في حفل ليلقي خطابا يوجه من خلاله عدة رسائل، أهمها دعوته لتشكيل لجنة مالية تُشرف على الأمور المالية، منتقدا أداء المصرف المركزي، وكالعادة قدم نفسه كمتحدث باسم الشعب، يعي معاناته، ويهدف إلى إنقاذه من تردي أحواله المعيشية، ولأول مرة يتوجه بالنقد المباشر للسفير الأمريكي، وحمَّله، إلى جانب بقية السفراء، المسؤولية عن تفاقم الأزمة، وطالب بخروج كافة القوات الأجنبية والمرتزقة.

في مطلبه بتشكيل اللجنة المالية، يكشف حفتر عن ضائقته المالية، وسعيه للحصول على نصيبه من عائدات النفط لفك هذه الضائقة، بالضغط على سلطات طرابلس، من خلال انتقاد محافظ المصرف المركزي وحكومة الوحدة الوطنية، ويبدو أن الموقف الأمريكي الرافض لإغلاق النفط كان شديد الوضوح، لذلك توجه بالنقد المباشر للسفير نورلاند، باعتباره المسؤول الأمريكي المباشر عن إدارة الملف الليبي.

وإذا كان خيار تغيير الواقع على الأرض بالقوة لم يعد متاحا، لأسباب عدة، وورقة النفط باتت من دون جدوى، يجد حفتر نفسه في حالة ضعف لم يعهدها من قبل، في هذا الخطاب لم يُهدد بالحرب، ولم يأت على ذكر المليشيات، والعاصمة المحتلة من الجماعات الإرهابية، وغيرها من المصطلحات التي تصدرت خطابه خلال السنوات الماضية.

كان جل الخطاب حول الجوانب المالية ويتجاهل دوره الرئيسي في جلب المرتزقة، وفتح البلاد لمزيد من التدخل العسكري المباشر، ليكتشف أنه سيف ذو حدين، يقدم لك الخدمات العسكرية المهمة، ولكن الثمن يكون باهظا، حين تصبح مجموعات المرتزقة عبئا ومشكلة، ومع المتاعب التي تعانيها مجموعات فاغنر بعد إجراءات السلطات الروسية تجاه قياداتها، والقصف المجهول الذي تعرضت له قاعدة عسكرية جنوب المرج، تديرها مجموعات فاغنر، والإصرار الأمريكي على إخراجها من ليبيا، يظهر حفتر نفسه كمساند لهذه الجهود، وعدم ممانعته خروج حلفائه، وكذلك خروج حلفاء خصومه.

لا أحد يعرف من سيشكل اللجنة المالية لتقاسم العائدات ومن سيشرف على أعمالها ويراقبها، وما دور حفتر فيها، لكنه منح اللجنة حتى نهاية أغسطس لتنجز مهامها، مهددا بالتصعيد إن أخفقت.

ولكن في كل الأحوال، وإزاء استمرار حالة التأزم، وتحالف عقيلة صالح رئيس مجلس النواب مع خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة ضد حكومة الدبيبة، وتراجع دور البعثة الأممية عن دورها كوسيط، ستزيد حدة الصراع والاستقطاب خلال الأسابيع والشهور القليلة المقبلة، أما الانتخابات فليس ثمة أي أمل في إجرائها خلال العام الحالي.

.

.

.

***********

ليبيا.. الصراع على عوائد النفط يكشف عن وجهه

السنوسي بسيكري

العنوان الأبرز لتمظهر الأزمة الليبية خلال الأسبوعين الماضيين هو النزاع على تقاسم عوائد النفط، فقد كان جدول أعمال مجلس النواب مؤخرا مركزا على التعاطي مع تحكم حكومة طرابلس في الإيرادات والنفقاتوكيفية كسر هذا الاحتكار. وظهر حفتر في لقاء متلفز وهو يهدد بالتحرك (دون أن يحدد طبيعة التحرك) إذا لم تشكل لجنة عليا لمراقبة عملية إدارة الإيرادات والنفقات العامة والتوزيع العادل لثروة النفط بين المناطق الثلاث، الغرب والشرق والجنوب.

بالمقابل، فقد شهدت العاصمة اجتماعات على أعلى مستوى ضمن المجلس الرئاسي والحكومة والمصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، للتعاطي مع التهم القديمة المتجددة حول الفساد والمحاباة وتركز القرار المالي في العاصمة وحرمان مناطق شاسعة من البلاد من عوائد النفط.

موضوع توزيع الدخل والإدارة الرشيدة لعوائد النفط وإنفاقها بشكل يحقق العدالة الاقتصادية والاجتماعية قديم وحاضر في كل حقبة من حقب التاريخ المعاصر لليبيا، وظل من أهم دوافع التغيير السياسي الذي عرفته البلد خلال الست عقود الماضية، وبقي عصيا على المعالجة إما لأسباب سياسية وأيديولوجية كما في فترة حكم القذافي، أو بسبب الصراع وغياب الرؤية الجامعة بعد ثورة فبراير، بل صار منذ هجوم حفتر على طرابلس العام 2019م المحرك الرئيسي للصراع.

جبهة طبرق ـ الرجمة حازت القرار التشريعي وحيدت السلطة القضائية وامتلكت القوة العسكرية لكنها فشلت في الاستحواذ على السلطة المالية ممثلة في الحكومة والمصرف المركزي، ولأن الخيار العسكري بات شبه مستحيل لاستكمال مقومات القوة والسلطة، صار الضغط السياسي هو الأداة وكذا اللجوء إلى سلاح النفط، وقد نجحت الجبهة الشرقية في لفت انتباه المنتظم الدولي لمطالبها المتعلقة بعوائد النفط.

كنت قد أدرت ندوة علمية سبقت هذا الجدل، خاصة تهديدات حفتر، وكان هناك اتفاق بين المتحدثين الرئيسيين والمعقبين أن هناك محركا سياسيا لملف تقاسم عوائد النفط غير أن الحرمان الاقتصادي والاجتماعي يشكل عاملا أساسيا للخلاف حول موارد الدولة وإيراداتها النفطية، وأن الساسة يوظفون هذا الخلل الاقتصادي والاجتماعي لتمرير أجنداتهم.

التحدي الرئيسي هو أن الضغوط والتهديدات وردود الفعل عليها تقع في مرحلة شديدة التأزيم وفي غياب توافق على كليات رئيسية هي شكل الدولة وطبيعة نظام الحكم وآلية الوصول إلى المرحلة القادمة وتفاصيل أخرى تجعل من الحالة معقدة وبالتالي فإن الحلول المطروحة للتماهي مع الضغوط ستظل قاصرة وتعمق من الأزمة وتطيل من الصراع.

نجحت الجبهة الغربية، بشكل مؤقت، في الالتفاف على الضغوط المتعلقة بالمركزية والتحكم في القرار المالي في العاصمة، من خلال تشكيل لجنة بقرار من المجلس الرئاسي لمتابعة الحكومة والمصرف المركزي في تعاملها مع الإيردادات النفطية وأوجه صرفها، ولا اعتقد أن حفتر قادر الآن على تنفيذ تهديده بالتحرك نهاية الشهر القادم بعد قرار المجلس الرئاسي، وإن فعل فسيورط نفسه أكثر.

بالمقابل، فإن اللجنة لن تكون قادرة على احتواء حالة السيولة في المشهد الليبي والهدر والفساد في إدارة المال العام حتى في المدى القصير، فالحلول الترقيعية لن تغني عن الانتقال والتحول الصحيح والمأسسة وما يصحبها من روافد أساسية أهمها الدستور وتحقيق مبدأ سيادة القانون وإعادة ترتيب المنتظم العسكري والأمني ضمن أطر مؤسسية منضبطة ودور فاعل وواعي للمجتمع المدني بمختلف مكوناته وأدواته.

ستمضي المهلة التي تحدث عنها حفتر على الأغلب دون تكدير في صفو تدفق النفط وإيراداته وإدارتها من قبل حكومة الوحدة الوطنية، لكن المشهد متجه إلى تغيير ليس عبر الانتخابات، فهي ليست راجحة خلال العام الجاري أو حتى الربع الأول من العام القادم، بل ربما عبر توافق على تغيير في شكل السلطة التنفيذية ونفوذها وصلاحياتها.

________________

مواد ذات علاقة