عائد عميرة

عودة الحياة لقطاع النفط والغاز

من شأن الاكتشافات الجديدة التي تشمل النفط والغاز والاتفاقية الموقعة مع شركتي إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية، أن تعيد الحياة لقطاع النفط والغاز في ليبيا، خاصة أن هذه الاستثمارات لم يشهدها قطاع النفط الليبي منذ ما يزيد على ربع قرن.

وتقدر الحكومة الليبية، العائد المحقق للدولة من الاستثمار مع شركة إينيالإيطالية بما يتراوح بين 13 و18 مليار دولار، بعد استرجاع المصاريف الرأسمالية والتشغيلية، وذلك من إنتاج حقول الغاز الطبيعي في المنطقتين البحريتين ألف وهاء“.

وتأمل السلطات الليبية في أن تفتح الاتفاقيات الأخيرة، الباب أمام الاستثمارات الأجنبية، خاصة أن العديد من الشركات العالمية أبدت رغبتها في العودة إلى ليبيا والاستثمار في قطاع النفط، بعد أن تهدأ الأوضاع السياسية أكثر.

واضطرت العديد من الشركات العالمية إلى الخروج من ليبيا عقب ثورة فبراير/شباط 2011 والإطاحة بنظام معمر القذافي، نتيجة اشتداد الانقسام السياسي في البلاد وتواصل الصراع على السلطة بين العديد من القوى المدعومة من الخارج.

تعتبر تركيا واحدة من الدول القلائل في العالم التي تمتلك سفن أبحاث زلزالية

نتيجة هذا الصراع، عرف إنتاج النفط في ليبيا في العقد الأخير تذبذبًا، فمرة نجده بلغ مستويات قياسية وفاق 1.22 مليون برميل يوميًا، وفق بيانات متطابقة لمؤسسة النفط الليبية ومنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، ومرة نجده لا يتجاوز 70 ألف برميل يوميًا، وأخرى لا ينتج أي برميل.

وغالبًا ما تستهدف، المجموعات المسلحة حقول النفط وموانئ التصدير لفرض شروطها والحصول على امتيازات جديدة، وهو ما يدفع السلطات إلى إعلان القوة القاهرة في هذه الأماكن، الأمر الذي ينعكس على اقتصاد البلاد القائم على مداخيل النفط.

وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، رفعت حكومة عبد الحميد الدبيبة حالة القوة القاهرة عن عمليات استكشاف النفط والغاز في ليبيا، وقالت للشركات العالمية العاملة في مجال النفط والغاز في ليبيا، التي وقّعت مؤسسة النفط معها اتفاقيات لممارسة عمليات البحث والتنقيب والاستكشاف، بأنه أصبح بإمكانها العودة لاستئناف أعمالها في البلاد.

ما حجم المنافسة التركية؟

بينا في البداية أبرز الشركات النفطية العاملة في البلاد، وأشرنا إلى بدء ظهور لاعبين جدد على الساحة من بينهم شركة تات نفط الروسية وشركة سي إن بي سي الصينية وسوناطراك الجزائرية التي قد تعود إلى ليبيا للفوز بعقود امتياز جديدة.

هناك لاعب مهم يتوقع ظهوره في الفترة المقبلة، ونعني هنا الشركات النفطية التركية، إذ تأمل أنقرة في الحصول على امتيازات للتنقيب والحفر في ليبيا، في ظلّ الدور الكبير الذي أصبحت تتمتع به تركيا في هذا البلد العربي.

وسبق أن قال وزير النفط والغاز الطبيعي الليبي محمد عون إن أولوية المسوحات السيزمية هي للشركات التركية، وبرّر الوزير ذلك بما تمتلكه الشركات التركية من خبرة كافية في هذا المجال، كما أنها تمتلك سفن المسح الزلزالي والحفر.

كما قال محمد عون إن الشركات التركية لها الأسبقية في عمليات المسح الزلزالي، نظرًا لقربها من ليبيا، إذ سيكون وصول السفن إلى المنطقة أقل تكلفة وأسهل، وهو ما سيعود بالفائدة على البلدين، ذلك أن المؤشرات إيجابية.

تعتبر تركيا واحدة من الدول القلائل في العالم التي تمتلك سفن أبحاث زلزالية، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية والنرويج وإيطاليا، كما أنها تمتلك البنى التحتية والمعدات الفنية اللازمة، لإجراء المسوحات البرية والبحرية، للتنقيب عن مصادر الطاقة التقليدية.

فضلًا عن سفن الأبحاث الزلزالية، تمتلك مؤسسة البترول الوطنية التركية، وياووز أيضًا 4 سفن حفر من الجيلين السادس والسابع (سفن الفاتح والقانوني ووياووز عبد الحميد خان أحدث سفن التنقيب في العالم).

وأدركت أنقرة منذ عقدين، أهمية تطوير بنيتها التحتية في مجال الطاقة، وسارعت لبناء أسطول ضخم من سفن المسح والتنقيب تقوده طواقم محلية خبيرة ومؤهلة للبحث عن موارد الطاقة الطبيعية تحت مياه الوطن الأزرق الذي يحيط بتركيا من ثلاث جهات.

وتمتلك تركيا اليوم القدرة على إجراء المسوحات السيزمية في جميع أنحاء وطنها الأزرق وخارجه أيضًا، ومباشرة الحفر في الحقول التي اكتشفتها، ما شجع الدولة الليبية على الاستعانة بها ومنحها أولوية في الاستثمار بمجال الطاقة.

جدير بالذكر أن عمل الشركات التركية النفطية في ليبيا ليس جديدًا، إذ حصلت شركة النفط التركية على قطع استكشافية سنة 2005، واكتشفت مكامن نفطيةواحدة في حوض غدامس (غربوأخرى في حوض مرزق (جنوبوالثالثة في حوض سرت (شمال وسط)، وكان من المفترض أن تطوّر أعمالها، لكن بسبب الأوضاع التي مرت بها ليبيا منذ 2011 توقف عمل الشركة بعد إعلان القوة القاهرة.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقعت تركيا مذكرة تفاهم مع ليبيا في مجال الموارد الهيدروكربونية (النفط والغاز الطبيعي)، وأكد وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو آنذاك أن الاتفاقيات المبرمة بين تركيا وليبيا تستند إلى مبدأ الربح المتبادل للطرفين.

تأمل الحكومة الليبية في الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية

تهدف الاتفاقية إلى إقامة تعاون بين الشركات التركية والليبية في الاستكشاف والتنقيب في البر والبحر وفي مناطق الصلاحية البحرية، وسبق أن وقعت تركيا وليبيا اتفاقية لتحديد الحدود البحرية بينهما وقامت أنقرة عقب ذلك بتسجيل حدود جرفها القاري لدى الأمم المتحدة، في انتظار أن تقوم الحكومة الليبية بخطوة مماثلة.

وسارعت الحكومة التركية بعقد هذه الاتفاقيات مع نظيرتها الليبية، لضمان امتيازات جديدة في ليبيا، في ظل مسارعة شركات النفط الأوروبية خاصة شركتي إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية ومعهما عدد من الشركات الأخرى للتنقيب عن الغاز والنفط داخل ليبيا.

وسبق أن اقترح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على نظيره الأذري، إلهام علييف، إمكان التعاون التركي الأذربيجاني في مجالات النفط والطاقة في ليبيا، وقال أردوغان إن شركة النفط الأذربيجانية يمكنها مساعدة شركة النفط التركية تابوفي شحن النفط واستخراجه من ليبيا، من أجل الانفتاح على أوروبا والتوسع في البلدان الأخرى.

هذه ليست المرة الأولى التي يتعاون فيها الطرفان في مجال الطاقة، حيث تنفذ أذربيجان وتركيا العديد من مشروعات الطاقة في أوروبا، من بينها مشروع خط أنابيب تانابلنقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا، وكذلك خط باكوتبليسيقارص، وتعوّل أنقرة كثيرًا على باكو في خطّتها لتحوّل تركيا إلى بورصة لموارد الطاقة من النفط والغاز والكهرباء“.

نقطة مهمة ترجح كفة الشركات التركية، هي أن قرابة 40% من المواقع المحتمل ظهور النفط بها في ليبيا توجد في المنطقة التي سيتم تفعيل اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين البلدين بها كما أشار وزير النفط والغاز الليبي محمد عون، في تصريحات صحفية له.

تمتلك تركيا مكانة كبيرة عند الليبيين، إذ فتحت مطاراتها لليبيين خلال الحرب في الوقت الذي أغلقت فيه باقي الدول مطاراتها في وجهم، كما أنها لم تغلق سفارتها في طرابلس، وساعدت حكومات البلاد الشرعية في التصدي للعدوان على طرابلس.

كما تحظى الشركات التركية بتقدير كبير في ليبيا كونها لاعبًا رئيسيًا في البلاد الغنية بالنفط قبل نشوب الحرب، لذلك فالجميع يسعى للعمل معها والاستفادة من خبراتها، ويفوق عدد الشركات التركية العاملة حاليًّا في ليبيا 48 شركة.

ويتوقع أن تجني الشركات التركية الأموال الطائلة، نتيجة الاتفاقات الأخيرة مع الجانب الليبي، وإن كان من المبكر تحديد أرقام معينة في هذا الخصوص، لكن من المؤكد أنه سيكون هناك ربح مشترك من الطرفين، فتركيا تبحث أن تكون مركزًا عالميًا في مجال الطاقة بكل تفاصيله، أما ليبيا فتأمل في تنمية هذا القطاع، للاستفادة منه قدر المستطاع.

مع ذلك، وجب الإشارة أن مهمة الشركات التركية لن تكون سهلة في تركيا، صحيح أن لها الأولوية الكاملة للعمل هناك، خاصة أن أنقرة وقفت بقوة إلى جانب الحكومات الشرعية في ليبيا وأنقذتها من خطر السقوط تحت قبضة المليشيات المسلحة التي يقودها خليفة حفتر، إلا أن المنافسة ستكون شديدة.

من المتوقع أن تعمل الشركات العالمية الكبرى خاصة الإيطالية والفرنسية العاملة في ليبيا، على عرقلة نشاط الشركات التركية التي تعتبر حديثة العهد بليبيا، وهو ما سيجعل المهمة صعبة، خاصة في مجال الإنتاج.

العراقيل لن تكون من جهة شركات الطاقة فقط، وإنما من بعض الدول أيضًا على رأسها اليونان التي سبق أن رفضت اتفاق ترسيم الحدود بين ليبيا وتركيا، إلى ذلك، كما يمكن أن تسبب أنشطة التنقيب والحفر التي ستقوم بها تركيا في المنطقة الاقتصادية الخالصة لليبيا في أزمات بين تركيا وإيطاليا في الفترة المقبلة، وبين تركيا ومصر أيضًا.

سجلت ليبيا في السنتين الأخيرتين تحسنًا ملحوظًا، إذ عرفت البلاد طفرة في إنشاء بُنى تحتية في مدن مثل طرابلس وبنغازي

قفزت الإيرادات النفطية في ليبيا إلى 130.5 مليار دينار (نحو 27.19 مليار دولار) خلال سنة 2022، مرتفعة عن العام الماضي بنسبة 20%، التي كانت نحو 21.5 مليار دولار، ويتوقع أن يتضاعف هذا الرقم، إن تمكنت ليبيا من تحقيق خططها لمضاعفة الإنتاج.

وتأمل الحكومة الليبية في الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، نتيجة الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وعدم تحديد سقف لإنتاجها من النفط، ما سيمكنها من جني أموال إضافية ستساعد في تنمية احتياطي البلاد الذي فقد أكثر من 54% من قيمته خلال عشر سنوات، حيث تراجع إلى 75 مليار دولار مع نهاية العام الماضي 2021، بينما كان عام 2012 نحو 138 مليار دولار، حسب إحصاءات المصرف المركزي.

كيف سينعكس النفط على الداخل الليبي؟

زيادة مداخيل ليبيا من العملة الصعبة من شأنه أن يساهم في تنمية البلاد وقدرة الدولة على قيادة جهود إعادة الإعمار، فآلة الحرب المتواصلة منذ سنوات دمرت معظم البنى التحتية في ليبيا وأعادت البلاد سنوات عديدة إلى الوراء.

كما من شأنها أيضًا أن ترفع القوة الشرائية للمواطن الليبي، ذلك أن قيمة الدينار الليبي ستنمو مقارنة بالعملات الأجنبية، وستتحسن الأوضاع المعيشة في البلاد، فتعافي القطاع النفطي يعني مباشرة تعافي مستوى الاقتصاد الكلي.

بالفعل، سجلت ليبيا في السنتين الأخيرتين تحسنًا ملحوظًا، إذ عرفت البلاد طفرة في إنشاء بُنى تحتية في مدن مثل طرابلس وبنغازي، وحتى الحياة اليومية للمواطنين أصبحت أفضل مما كانت عليه، بفضل الاستقرار النسبي الحاصل وتنامي إيرادات النفط والغاز.

لكن المشكلة الأبرز والمطروحة بجد على الطاولة، أن الاستقرار الحاصل في ليبيا الآن نسبي وفي أي لحظة يمكن أن تشتعل البلاد مجددًا، ما من شأنه أن يسقط كل الخطط التي وضعتها الحكومة لتطوير قطاع النفط، وبالتالي سينهار الاقتصاد مجددًا.

أيضًا، حتى في حال تواصل هذا الاستقرار، فإن أغلب عائدات النفط ستصب في صالح القوى التي تسيطر على البلاد، أي المليشيات المنتشرة في أغلب المناطق وتسيطر على مختلف الحقول والموانئ النفطية، فالنمو الاقتصادي وعائدات النفط ستصب في صالح تلك القوى، أما المواطن الليبي فسيتوجب عليه الانتظار أكثر حتى يتمتع بخيرات بلاده.

صحيح، يمكن أن نشاهد مستقبلًا تطورًا ملحوظًا في البنى التحتية وسنشاهد الطرقات السيارة والعمارات الشاهقة والحدائق الخضراء، لكن من الصعب أن نشاهد مستشفيات متطورة ومدارس ذات جودة عالية، وسيبقى الليبي مرتبطًا بالعديد من الدول.

***

عائد عميرة ـ محرر في نون بوست

___________

مواد ذات علاقة