تطورات إقليمية.. هل تغيرت خريطة التحالفات؟

كانت تطورات الوضع السياسي والعسكري الليبي، بالإضافة إلى السياقات الإقليمية والدولية، دوافع رئيسية أخرى، فقد مثّل دخول تركيا على مسرح الصراع السياسي والعسكري دعمًا لحكومة الوفاق الوطني تحديًا رئيسيًا للمحور الإقليمي ومصر في صميمه، وظهر تأثير التحدي بشكل واضح في الميدان، حيث أفضت الإخفاقات العسكرية إلى إعلان وقف إطلاق النار وانطلاق مسارات الحوار بين الفصائل الليبية.

الخلاف المصري التركي لا يتعلق فقط بموقف البلدين من أطراف الصراع الليبي، فقد أدَّى توقيع الاتفاقية البحرية بين تركيا وليبيا إلى تصعيد الخلافات الجيوسياسية القائمة بين تركيا من جهة واليونان ومصر وإسرائيلمن جهة أخرى، وتجلى ذلك من خلال الخطاب السياسي والإعلامي المصري، الذي وصف استمرار الوجود التركي في ليبيا بأنه مشروع للهيمنة التركية وتهديد للأمن القومي المصري“.

تدرك مصر جيدًا أن أمنها القومي واستقرارها الداخلي مرتبطان حتمًا بأمن ليبيا، وهذا أحد الأسباب التي دفعتها إلى إعلان تقدم القوى الغربية نحو حدودها في يونيو/حزيران 2020 “خط أحمر، وقبلت على الفور وقف إطلاق النار الذي اقترحته حكومة الوفاق الوطني في أغسطس/آب 2020، دعمًا لجهود بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا لاستئناف الحوار الوطني بين الأطراف المتنافسة، كما دعمت مصر وقف إطلاق النار الموقع في جنيف في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020.

اللافت أن القطيعة السياسية بين مصر وتركيا بلغت مستويات تنذر بالخطر بسبب الملف الليبي، فقد دعمت مصر معسكر الشرق بينما دعمت تركيا معسكر الغرب لأعوام

ورغم الخلافات العميقة بين الطرفين (المصري والتركي) بشأن الملف الليبي ونفوذ كل منهما في شرق البحر المتوسط، تضمنت المواقف التركية دعوات ضمنية للحوار والتهدئة، ونجحت أنقرة في فتح قنوات اتصال مع فاعلين سياسيين في شرق ليبيا، فاستقبلت مبعوثًا من رئيس مجلس النواب في طبرق عقيلة صالح فيما يبدو أنه محاولة تركية لاستغلال التناقضات داخل معسكر طرابلس.

رغم أن مثل هذه الاجتماعات الخارجة عن السياسة التركية المعتادة تجاه فرقاء ليبيا لم تسفر عن تقدم في المشاورات في الآونة الأخيرة، فإن التطورات الرئيسية في مصر وتركيا، الخصمان اللدودان منذ وقت طويل بشأن ليبيا، تمثل فرصة نادرة لإحداث تغيير إيجابي في هذا الإطار، وليس من المستبعد أن تحاول مصر أيضًا الاستفادة من هذه التناقضات خاصة بعد أن شعر بعض المسؤولين أن الحوارات التي تقودها الأمم المتحدة قد تهمشهم.  

اللافت أن القطيعة السياسية بين مصر وتركيا بلغت مستويات تنذر بالخطر بسبب الملف الليبي، فقد دعمت مصر معسكر الشرق بينما دعمت تركيا معسكر الغرب لأعوام، رغم ذلك، كان هذا الملف نفسه سببًا في تواصل لقاءات عسكرية استخباراتية مصرية تركية على مدار الأشهر الماضية، حتى انتهت الفجوة السياسية بين القاهرة وأنقرة بالمصالحة وعودة العلاقات الدبلوماسية والاتفاق على تبادل السفراء، ومهَّد الطريق أمام التفاهم في ليبيا بعد قطيعة استمرت قرابة عشر سنوات.

في حسابات السياسة، يسعى البلدان عبر تقاربهما إلى حل عدة ملفات عالقة بينهما، فالتقارب المصري التركي قد ينعكس إيجابًا على ملفات إقليمية كالملف الليبي، في ظل رغبة البلدين في حل الأزمة الليبية أو تهدئتها على أقل تقدير، ما قد يعود على البلدين بفوائد أكبر من الموجودة الآن.

تمتد السياقات الإقليمية للتغييرات في السياسة المصرية تجاه ليبيا إلى ما وراء التنافس التركي المصري على الساحة الليبية والصراع على النفوذ في شرق البحر المتوسط، ويُشار هنا بحسب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات إلى أن التدخل العسكري الروسي من جانب حفتر جاء على حساب الدور المصري كدليل على التفاهمات الثنائية التركية الروسية بشأن ليبيا التي لم تكن القاهرة طرفًا فيها.

بالإضافة إلى ذلك، تتزايد مخاوف مصر من قضايا الأمن المائي والنزاع بشأن إنشاء مشروعات المياه، لا سيما بناء سد النهضة وملئه، والتوتر المتصاعد في علاقتها مع إثيوبيا التي يبدو أن الإمارات تتعامل مع رئيس وزرائها كحليف، دون الالتفاف إلى الموقف المصري أو الالتفات إلى نضال مصر للانخراط في أكثر من صراع إقليمي واحد في وقت واحد.

في هذا السياق، يثير النهج المصري الجديد تجاه ليبيا تساؤلات عما إذا كان هذا قد يمثل بداية تمايز عن نهج إماراتي لا يزال مستمرًا في دعم حفتر بلا هوادة، ويراهن على خيار التسوية العسكرية لصالحه، رغم استقبال الرئيس الإماراتي محمد بن زايد رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، في 15 فبراير/شباط الماضي، لكن بحسب المتحدث السابق باسم المجلس الرئاسي بحكومة الوفاق محمد السلاك، فإن مثل هذه العلاقات لا تعني أنها على حساب طرف آخر.

وعلى عكس الإمارات التي ما زالت تؤرقها فوبياثورات الربيع العربي، تدرك مصر تمامًا أن حالة الانقسام السياسي في ليبيا لن تخدم مصالحها في هذه المرحلة، وبالتالي تميل نحو الهدوء في ليبيا ومعها تركيا، وراهنت على إعادة إطلاق المسار الدبلوماسي، لتظهر على أنها اللاعب الأكثر طلبًا للتسوية بين داعمي الجنرال الليبي.

ووفق محللين، ربما تبحث مصر عن صفقة جيدة سياسيًا، فهي تدرك أن المواقف الدولية لن تقبل بحكومة موازية أو حكومة جديدة بخلاف حكومة الدبيبة، وتعلم أن أي محاولة لن تكون مجدية، بالإضافة إلى حالة عدم الاستقرار في ليبيا خلال هذه المرحلة.

في هذا الصدد، يمكن النظر إلى استعادة القاهرة للعلاقات الدبلوماسية مؤخرًا مع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس على أنها محاولة مصرية لإعادة ضبط إستراتيجيتها من أجل تجنب التصعيد العسكري الذي لا تستطيع الدولة تحمله، خاصة مع انخراطها بالفعل بعدة جبهات.

وربما تكون الأحداث الساخنة في السودان إعادة تذكير في هذا الشأن، إذ يُتَّهم حفتر بدعم قوات الدعم السريع التي تقاتل الجيش السوداني للسيطرة على حكم البلاد، وهو ما يتعارض مع توجه حليفه السيسي الداعم لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان،  ومن شأنه أن يربك الوضع أكثر في السودان الجار القريب لمصر.

على صعيد آخر، تواجه مصر نوعًا من التهميش في مسألتين تعتبرهما أساسيتين من حيث حضورها الإقليمي، ففي الآونة الأخيرة، تسارعت وتيرة التطبيع بين عدة دول عربية وإسرائيل، وانهار الحصار المفروض على قطر منذ يونيو/حزيران 2017، وواجهت مصر ضغوطًا سعودية للموافقة على رفع الحصار والمصالحة مع قطر، مقابل ضغط إماراتي للتشديد على قطر.

تخشى القاهرة أن يؤدي تطبيع المزيد من الدول العربية لعلاقاتها مع إسرائيلإلى تراجع دورها في الشرق الأوسط وفي أي تسوية قد تروِّج لها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بشأن القضية الفلسطينية أو في منطقة القرن الإفريقي، التي تشهد تعاونًا إسرائيليًا إماراتيًا يتخطى المشاورات مع مصر.

تخشى القاهرة أن يؤدي عزلها عن أي عملية تسوية تُطلق في ليبيا إلى فقدان النفوذ وتراجع الوضع الإقليمي إذا استمرت في تفضيل جانب ليبي على الآخر

أمَّا الأزمة الخليجية، فيبدو أن التحرك نحو تسوية جرى بعيدًا عن حسابات مصر رغم دورها الفعال في فرض الحصار على الدوحة، وتسببت مثل هذه السياسات المنحازة وغير المدروسة في نزاعات المنطقة، بما في ذلك الصراع الليبي، في إلحاق أضرار جسيمة بالأمن المصري والمصالح الاقتصادية، وقد تكون مصر بصدد إعادة النظر فيها.

في هذه المرحلة، يصبح من الضروري لمصر أن تنأى بنفسها بحذر عن الإستراتيجية السعودية والإماراتية لتصور دور أكثر استقلالية وتيسيرًا للسلام في الملف الليبي، في الوقت نفسه، من مصلحة القاهرة إبداء مزيد من الاعتدال على المستوى الدولي لتجنب الصراعات المحتملة مع إدارة جو بايدن الديمقراطية.

كذلك تخشى القاهرة أن يؤدي عزلها عن أي عملية تسوية تُطلق في ليبيا إلى فقدان النفوذ وتراجع الوضع الإقليمي إذا استمرت في تفضيل جانب ليبي على الآخر، وأنها قد تظل معتمدة كليًا على الإذعان للعب أدوار ثانوية في المشاريع الإقليمية، ما من شأنه أن يغير النهج المصري السائد منذ وصول السيسي إلى السلطة قبل عشر سنوات.

ومع ذلك، تبدو العلاقة بين مصر وحفتر معقدة للغاية، فهو لا يزال ورقة رابحة من بين أمور أخرى لمصر في الأزمة الليبية، سواء في حالة الحرب أم السلام، ويمارس المشير نفوذه العسكري ويلعب دورًا في محاربة الإرهاب بطريقة ساعدت مصر على تأمين جزء من حدودها مع ليبيا، هذا رغم أنه لا يتمتع بالشرعية السياسية، وإذا تعاملت أي قوى معه سرًا أو علنًا، فذلك فقط لأنه جزء من الواقع على الأرض.

يعني الغموض المحيط بالعملية السياسية وعدم تصميم المجتمع الدولي على التعامل مع التدخلات الأجنبية والمرتزقة أن الحرب يمكن أن تندلع مرة أخرى بنفس الشدة السابقة

وتنأى مصر بنفسها عما يسمى الجيش الوطني الليبيفي الشرق الذي صار خليطًا غير مفهوم يضم بين صفوفه متهمين دوليًا بجرائم حرب – دون أن تقطع فعليًا علاقاتها بهذه القوة، وترى أن البديل الوحيد لها الآن هو العمل على توحيد القوات المسلحة كعامل أساسي في أمن واستقرار ليبيا، بما في ذلك الحدود مع مصر.

في الوقت نفسه، لا تزال مصر تخشى شبح التقسيم، وترى الحاجة إلى قوة عسكرية يمكنها الحفاظ على تماسك المنطقة الشرقية لليبيا، لأنها منطقة ذات أهمية قصوى لمصر، وهو ما يفسر الهوس الأمني الذي يهيمن على عملية صنع القرار المصري لدرجة أن السياسة الخارجية بشأن ليبيا تتشكل من أجهزة المخابرات والأمن الأقرب إلى السيسي، وليس من وزارة الخارجية.

ويبدو أن مصر تسعى لإيجاد دور لها في القوات المسلحة المستقبلية التي ستنشأ عن إصلاح القطاع الأمني في ليبيا، وترى أن تهميش حفتر ورجاله فيها قد يؤدي إلى تصاعد نفوذ معسكر الغرب وتقوية الجماعات المسلحة المتحالفة مع تركيا، خاصة أن العملية السياسية الحاليّة لم تتحدد بعد.

فرغم رعاية الأمم المتحدة، لم تنجح لجنة “6+6” المعنية بصياغة قوانين الانتخابات في التوافق بشأن قواعد وموعد الانتخابات الليبية الرئاسية والتشريعية، ما يعني استمرار حكومة الدبيبة حتى إقامة الانتخابات، ومع ذلك، رحبت مصر بجهود اللجنة.  

ويعني الغموض المحيط بالعملية السياسية وعدم تصميم المجتمع الدولي على التعامل مع التدخلات الأجنبية والمرتزقة أن الحرب يمكن أن تندلع مرة أخرى بنفس الشدة السابقة، خاصة في المنطقة الشرقية التي تعتبرها مصر جزءًا من مساحتها الحيوية إلى جانب ثرواتها النفطية التي لا ينبغي أن تقع في أيدي خصوم القاهرة، ومن المرجح أن تحدد هذه الاعتبارات نهج مصر المتذبذب من حفتر وسياساتها في ليبيا في المستقبل المنظور.

_____________

نون بوست

مواد ذات علاقة