عائد عميرة

عاد الهدوء مجددًا إلى العاصمة الليبية طرابلس بعد يومين من الاشتباكات الدامية التي خلفت 27 قتيلًا وأكثر من 100 جريح، وفق ما أعلنته السلطات الليبية، فيما نشرت وزارة الداخلية بحكومة الوحدة دوريات أمنية ثابتة ومتحركة في المواقع الحيوية، وفي نطاق المؤسسات الحكومية بالعاصمة.

اشتباكات دامية هي الأعنف في الأشهر الأخيرة، تعيد شبح الصراع المسلح إلى الواجهة بعد فترة من الهدوء النسبي في العاصمة وأغلب مناطق البلاد، كما تسلط الضوء مجددًا على خطر المجموعات المسلحة المنتشرة في ليبيا على أمن واستقرار البلاد، خاصة أن أغلب هذه المجموعات أثبتت في أكثر من مرة ولاءها لمن يدفع أكثر وليس للمؤسسات الشرعية كما تدّعي.

اشتباكات بين الردع واللواء 444

اندلع القتال الأخير بين جهاز الردع واللواء 444، في وقت متأخر من مساء الإثنين بعد احتجاز قوة الردع الخاصة التي تسيطر على مطار معيتيقة الرئيسي بطرابلس محمود حمزة قائد اللواء 444 عندما كان يقوم بإجراءات السفر عبر المطار.

وقوة الردع الخاصة هي أحد أبرز الفصائل المسلحة في طرابلس منذ سنوات، وتتبع حاليًّا المجلس الرئاسي، ويقودها عبد الرؤوف كارة الذي ينتمي إلى التيار السلفي، وتسيطر على مجمع معيتيقة بما فيه المطار والمنطقة الساحلية المحيطة بها، بما في ذلك جزء من الطريق الرئيسي الذي يؤدي إلى الشرق.

تتكون هذه المجموعة من نحو 1500 عنصر وتحل محل الشرطة في طرابلس، وتُعرف بمعسكراتها الممتدة في جنوب العاصمة أيضًا على غرار عين زارةوالفرناج، وللتنظيم سجن في قاعدة معيتيقة وبه سجناء يتبعون تنظيم الدولة الإسلامية ورموز النظام السابق.

تسيطر كل مجموعة مسلحة على منطقة أو مدينة، وتحصل على تمويلها من الجهة الرسمية التي تتبع لها

شاركت هذه المجموعة في صدّ العدوان الذي شنّه اللواء المتقاعد خليفة حفتر على العاصمة طرابلس في أبريل/نيسان 2019، إلى جانب العديد من المجموعات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج، ومجموعات أخرى تابعة للمجلس الرئاسي.

في الجهة المقابلة نجد اللواء 444 التابع لحكومة الوحدة الوطنية التي يقودها عبد الحميد الدبيبة، وقبل تشكيله كان يتبع جهاز الردع ويسمى الفرقة 20-20، وبعد انتهاء هجوم قوات حفتر على طرابلس تشكلت القوة بقيادة محمود حمزة.

يتخذ اللواء 444 من معسكر التكبالي جنوب العاصمة مقرًا له، وله أيضًا العديد من المعسكرات الأخرى خاصة في ترهونة وبن وليد، ويقول إنه يعمل بهدف محاربة الجريمة المنظمة وتهريب المهاجرين، وتسيطر الكتيبة على مناطق واسعة في غرب البلاد.

هشاشة الوضع الأمني بطرابلس

عودة الاشتباكات مجددًا إلى العاصمة الليبية وبين قوتين تابعتين ظاهريًا للمؤسسات الشرعية في البلاد نعني بذلك حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي ، مؤشر يدعو إلى القلق، ذلك أن هذه الاشتباكات تؤكد أن الأوضاع الأمنية أصبحت هشة في طرابلس.

سبق أن أكدت مختلف القوى المسلحة في ليبيا حرمة الدم الليبي والتزامهم بعدم حل الخلافات بالسلاح، إلا أن ما حدث بداية هذا الأسبوع، وسقوط 27 قتيلًا على الأقل في حصيلة هي الأثقل منذ بداية السنة، دليل على أن الأوضاع تتجه نحو الأسوأ إن لم يتم احتواؤها.

ليس من المعروف إلى الآن سبب اعتقال قوات الردع لقائد لواء 444 محمود حمزة، لكن المعروف أن هذا العمل أدى إلى تجدد الاشتباكات في العاصمة وانتشار الفوضى والعنف فيها، ما اثار قلق قوى إقليمية ودولية عديدة.

نفهم من هذه الاشتباكات الدامية، وجود رغبة لدى قوات الردع الخاصة في تعزيز تمركزها في العاصمة والسيطرة على مناطق أخرى لتعزيز نفوذها في غرب البلاد، الأمر الذي ترفضه باقي القوى المسلحة المنتشرة هناك.

تمركز قوات الردع في قاعدة معيتيقة، أكسبها قوةً ونفوذًا، كونها أكبر القواعد العسكرية بالعاصمة، وتشرف على أغلب أحياء وسط العاصمة، بالإضافة إلى وجود أغلب المنشآت المهمة فيها، على غرار مطار المدينة الوحيد.

وزادت أهمية الكتيبة بعد منحها شخصية اعتبارية وذمة مالية مستقلة من المجلس الرئاسي الذي يقوده محمد المنفي، وصلاحيات واسعة للقبض والتحري وتنفيذ أوامر النائب العام، وإذنًا بفتح فروع في أنحاء البلاد كافة.

في غالب الوقت تتصارع هذه المجموعات المسلحة فيما بينها على مناطق السيطرة والنفوذ، ما يجعل استقرار البلاد تحت تصرفها

تأمل قوات الردع في تعزيز نفوذها وترى في التخلص من قيادات اللواء 444 خطوة مهمة لتحقيق ذلك، إلا أن هذا الأمر له أن يدخل البلاد في دوامة من الصراعات والاشتباكات الدامية التي ستعطل عملية الإصلاح التي تقودها حكومة الوحدة الوطنية.

أهمية السيطرة على المجموعات المسلحة

تؤكد لنا الاشتباكات الأخيرة، والتي حدثت قبلها في الأشهر الأخيرة، أن المجموعات المسلحة المنتشرة في العاصمة الليبية وغيرها من مناطق البلاد تتبع قوليًا المؤسسات الشرعية إلا أنها في الواقع تتبع مصالحها فقط.

تتجدد الاشتباكات الدامية بين الفينة والأخرى نتيجة رغبة المليشيات التي تدعي عملها تحت مؤسسات الدولة – في إعادة تقاسم السيطرة والنفوذ في أبرز مناطق البلاد وعلى رأسها العاصمة التي تضم أغلب المؤسسات الحكومية المركزية.

وتسيطر كل مجموعة مسلحة على منطقة أو مدينة، وتحصل على تمويلها من الجهة الرسمية التي تتبع لها، سواء المجلس الرئاسي أم وزارة الدفاع أم قيادة الأركان أم وزارة الداخلية، أم عن طريق بعض الأعمال التي تؤديها بها بعيدًا عن مؤسسات الدولة.

قوتها العسكرية ومحاولات السلطات التقرب منها، مكن هذه المجموعات المسلحة من فرص مهمة للسيطرة على مفاصل الدولة، فلهم أن يتدخلوا في التوظيفات والتعيينات، ويتحكموا في مآلات ومسارات الصفقات الكبرى.

في غالب الوقت تتصارع هذه المجموعات المسلحة فيما بينها على مناطق السيطرة والنفوذ، ما يجعل استقرار البلاد تحت تصرفها، فإن ضمنت مصالحها تشهد البلاد استقرارًا وقتيًا وإن كانت مصالحها مهددة أو تبحث عن امتيازات جديدة فإن البلاد ستشتعل مرة أخرى.

ويمكن لهذه المليشيات أن تغير ولاءها في أي وقت، فهي تتبع لمن يضمن لها مصالحها، وقد رأينا كيف انقلب البعض منها على حكومة الوحدة والمجلس الرئاسي وانضمت إما لقوات حفتر خلال عدوانه على العاصمة وإما لفتحي باشاغا الذي تم تكليفه في وقت ما من السنة الماضية من برلمان طبرق بقيادة حكومة موازية لحكومة الدبيبة.

نفهم من هنا أن القوى المسلحة المنتشرة في ليبيا متغيرة الولاءات، على خلفية تغير موازين القوى السياسية، ما يؤكد ضرورة وضع حد لها وأهمية انصهارها بشكل فعلي في مؤسسات الدولة الرسمية وإلا كانت وبالًا على البلاد لا يؤتمن خطرها.

يمر الإصلاح في ليبيا ضرورة عبر وضع حد للمليشيات المنتشرة في البلاد، فهذه المجموعات المسلحة في وضعها الحاليّ تمثل خطرًا على الدولة وعائقًا أمام فرصة الإصلاح، فهي لا تنقاد إلا لمصالحها وما تغير ولاءاتها إلا دليل على ذلك.

***

عائد عميرة ـ محرر في نون بوست

__________

مواد ذات علاقة