محمد مصطفى جامع

في الوقت الذي تتركز فيه أنظار المراقبين للشأن الإفريقي على تطورات انقلاب النيجر وما تبعه من انقلاب آخر في الغابون إلى جانب مستجدات الحرب في السودان، أطبقت تنظيمات متطرفة سيطرتها على أجزاء واسعة من مالي وبوركينا فاسو البلدين الواقعين في غرب إفريقيا ضمن نطاق المثلث الحدودي الشهير بـ”مثلث الموت” الذي يضم كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر.

نصف مساحة مالي وبوركينا فاسو تحت السيطرة

بعد مضي أقل من عام على انقلاب 23 يناير/كانون الثاني 2022 في بوركينا فاسو، سقط أكثر من 40% من البلاد في قبضة جماعات موالية للقاعدة، وفي غضون الشهور الماضية، صّعدت هذه الجماعات من وتيرة عملياتها واستولت على المزيد من المناطق، حتى أصبح اجتياحها للبلاد بأكملها أمرًا غير مستبعد في سيناريو أشبه بما حدث في شمال مالي عام 2012، خصوصًا أن خطط التعبئة التي أعلن عنها المجلس العسكري الحاكم لم يظهر جدواها حتى الآن.

كما لم تنجح مجموعة فاغنر الروسية في تعويض دور القوات الفرنسية التي أكملت انسحابها من البلاد في فبراير/شباط الماضي بطلبٍ من السلطات العسكرية الحاكمة في واغادوغو.

وفي مالي الحال ليس بالأفضل، إذ ضاعف مقاتلو تنظيم داعش حجم الأراضي التي يسيطرون عليها في أقل من عام، بينما يستفيد منافسوهم المرتبطون بتنظيم القاعدة من حالة الجمود والضعف الملحوظ للجماعات المسلحة التي وقعت اتفاق سلام عام 2015، حسبما قال خبراء الأمم المتحدة في تقريرٍ صدر مؤخرًا.

كما أن العسكر في باماكو تعرضوا لنكسة بفعل تمرد “فاغنر” الفاشل في روسيا في 24 يونيو/ حزيران، تلا ذلك مقتل زعيم المجموعة يفغيني بريغوجين في 23 أغسطس/آب الماضي بتحطم طائرته قرب العاصمة الروسية موسكو، ويعود السبب إلى ارتباط جيش مالي بـ”فاغنر”، التي حاولت ملء فراغ خلّفته فرنسا إثر انسحاب آخر جندي لها من البلاد في 15 أغسطس/آب 2022، وفقًا لوكالة “أسوشييتد برس“.

بالإضافة إلى هذه التطورات، فإن انقلاب النيجر الذي وقع في 26 يوليو/تموز الماضي، وضع مالي في موقف حرج أمنيًا، بعد أن أيدت انقلابيي نيامي، وشدّدت مع بوركينا فاسو، على رفضها أي تدخل عسكري، في إشارة إلى ذلك الذي تلوح به المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” في النيجر بدعم من فرنسا، بل عدت أي محاولة من هذا النوع “إعلان حرب عليها”.

المعضلة الأبرز التي يواجهها المجلس العسكري المالي تتمثل فيما كشفه تقرير الخبراء الأمميين الذي صدر في 26 أغسطس/آب الماضي، وجاء فيه أن مسلحي تنظيم “داعش” ضاعفوا سيطرتهم على الأراضي التي كانوا يتحكمون فيها في مالي في أقل من عام، فيما يستفيد منافسوهم المرتبطون بتنظيم “القاعدة” من حالة الجمود والضعف الملحوظ للجماعات المسلحة التي وقعت اتفاق 2015 المعروف باسم “اتفاق الجزائر.

أبرز دليل على ذلك التردي وتمدد الجماعات المسلحة تعرض قافلة للجيش المالي لهجوم ارهابيقرب الحدود مع النيجر مطلع الشهر الماضي.

في حين قُدِّر عدد ضحايا الإرهاب في الساحل الإفريقي ما بين العامين 2007 و2022 بنحو 22074 قتيلًا، بلغ عدد الضحايا من مواطني بوركينا فاسو وحدها 8563 شخصًا

وأفادت وكالة “فرانس برس” أن ارهابيين شنوا هجومًا ضد جنود ماليين كانوا يرافقون شاحنات في طريقها لدعم النيجر المجاورة، حسبما أعلنت مصادر أمنية ومسؤول محلي للوكالة.

وقال مصدر أمني مالي، إن ارهابيين من تنظيم “داعش” نصبوا كمينًا لوحدات الجيش قرب بلدة ميناكا بشمال شرق البلاد الخميس، وأضاف “نقوم بمسح الخسائر.. جنودنا دافعوا عن أنفسهم بشراسة”.

وأكد مسؤول في الشرطة الأنباء، مضيفًا أن الجنود “كانوا يرافقون الشاحنات إلى النيجر”، ولم ترد أي تفاصيل على الفور بشأن الشاحنات.

موجة جديدة من الهجمات

استهدفت موجة من الهجمات المسلحة بوركينا فاسو بين شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز الماضيين، فبحسب تقرير مؤشرات الإرهاب لعام 2023 الصادر عن “معهد الاقتصاد والسلام” الأسترالي تزايد عدد ضحايا التطرف المسلح في الساحل الإفريقي خلال السنوات الـ15 الأخيرة بنسبة 2000%، وتصدرت بوركينا فاسو كل بلدان القارة السمراء من حيث عدد الضحايا “وهي الدولة الثانية عالميًا وفقًا للتصنيف بعد أفغانستان”

وفي حين قُدِّر عدد ضحايا الإرهاب في الساحل الإفريقي ما بين العامين 2007 و2022 بنحو 22074 قتيلًا، بلغ عدد الضحايا من مواطني بوركينا فاسو وحدها 8563 شخصًا، بحسب المصدر السابق.

يعزى التقدم الذي أحرزه الارهابيون في مالي إلى رحيل الوحدات العسكرية الفرنسية وما تبعه من رحيل لقوات الأمم المتحدة (مينوسما)

تركزت العمليات الأخيرة في شمال وغرب بوركينا فاسو، وكان آخرها الهجوم المتزامن الذي وقع في مطلع يوليو/تموز الماضي على منطقة كوغسابلوغو “شمال وسط”، ومدينة فوو “غرب”، وزاد عدد القتلى على 20 فردًا في تلك الهجمات، في حين تم حرق الأسواق والمنازل بعد تهجير المواطنين، وتدمير آلاف المركبات، وفي 26 و27 يونيو/حزيران الماضي، جرت عمليات مماثلة في قرية تيا في “غرب”، وفي نواكا في “شمال وسط”، حيث راح ضحيتها 75 قتيلًا، وفقًا للتقرير الأسترالي.

سحب القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو  

تأتي هذه التحولات في سياق انسحاب القوات الفرنسية الموجودة في شمال مالي التي كانت تسيطر بالكامل على المواقع الحيوية في المنطقة، إلا أن المجلس العسكري في باماكو قرر إنهاء مهامها في أغسطس/آب 2022 كما تم الإشارة لذلك سابقًا.

جرى الأمر نفسه في بوركينا فاسو التي أنهت حكومتها العسكرية تعاونها في محاربة الإرهاب مع فرنسا في فبراير/شباط الماضي، وما يجدر ذكره أن المجلس العسكري في مالي استبدل بالقوات الفرنسية وحدات “فاغنر” الروسية لمواجهة الجماعات الارهابية، بينما تشير التقارير إلى أن عسكر بوركينا فاسو كانوا يسعون إلى صفقة مماثلة مع فاغنر، لكن على ما يبدو أن عملية مقتل قائد المجموعة بريغوجين قد أثرت على إكمال المفاوضات.

للمزيد من التفاصيل بشأن مستقبل الحركات الجهادية في البلدين، سأل “نون بوست” جوناثان هوتسون عضو مشروع “سنتينل” لمراقبة الصراعات بالأقمار الصناعية وخبير في حقوق الإنسان، فقال إنه يتوقع تمدد التنظيمات الارهابية في بوركينا فاسو ومالي أكثر مما تمددت بالفعل، مشيرًا إلى أن الحكومة العسكرية في مالي أطلقت مؤخرًا سراح عدد من قيادات “داعش”، ضمن صفقة تحالف مع التنظيم تنص على اشتراكهما معًا في القتال ضد فرع القاعدة “جماعة النصرة” والجماعات المسلحة الأخرى في إقليم أزواد.

مالي استسلمت للجهاديين

يضيف الخبير الأمريكي أن قرار السلطات العسكرية في مالي إطلاق سراح بعض قادة تنظيم “داعش”، مثل يوسف ولد شعيب، قائد العمليات العسكرية سابقًا في الشمال، وأمية أغ البكاي القائد العسكري للتنظيم في إقليم غاو، بالإضافة إلى بعض العناصر الأخرى من تنظيم “داعش في الصحراء الكبرى” يعني أن مالي استسلمت تمامًا للارهابيين، لافتًا إلى أنهم استفادوا من الاضطرابات الأخيرة وسيطروا على أجزاء واسعة من وسط وشرق البلاد مثل ولاية ميناكا الحدودية مع النيجر وبوركينا فاسو “منطقة المثلث”.

يعزي هوتسون أيضًا التقدم الذي أحرزه الارهابيون في مالي إلى رحيل الوحدات العسكرية الفرنسية وما تبعه من رحيل لقوات الأمم المتحدة (مينوسما)، موضحًا أن النظام العسكري الذي استولى على السلطة وحليفته مجموعة فاغنر عجزا عن كبح جماح التنظيمات الجهادية.

وفيما يتعلق ببوركينا فاسو، كشف جوناثان هوتسون لـ”نون بوست” أن خطة التعبئة وتسليح المدنيين التي أقرها الجيش نهاية العام الماضي لم تفلح، بل ازداد نشاط جماعة “النصرة”، ونفّذت مئات العمليات ضد الجيش وعناصر مجموعة فاغنر، وقال إن الجماعة تسيطر حاليًّا على مساحات شاسعة في شمال ووسط البلاد، مستفيدةً من خطوط إمداد تصلها بوسط مالي.

الانقلاب الرابع في مجموعة الساحل

أخيرًا، انقلاب النيجر الذي حدث أواخر يوليو/تموز الماضي أضاف حكمًا عسكريًا جديدًا لمجموعة الساحل المعروفة بـ”جي 5″، بعد أن شهدت مالي وبوركينا فاسو وتشاد انقلابات مماثلة، ولم يتبق إلا موريتانيا التي تتمتع بالاستقرار بعيدًا عن الإرهاب والجماعات المسلحة.

من الواضح كذلك أن انقلابات غرب إفريقيا أثبتت أن استيلاء العسكر على الحكم وانشغالهم بالسياسة يعني ابتعادهم عن مهامهم الأساسية وهي التصدي للمهددات الأمنية وعلى رأسها المجموعات المسلحة الكبرى “تنظيم داعشالأمر الذي فتح مجالًا واسعًا لهذه الجماعات المتطرفة للانتشار والتمدد، كما حدث في مالي وبوركينا فاسو حيث أصبح مئات الآلاف وربما الملايين محاصرين تحت رحمة تلك الجماعات، وباتت معظم المدن والمناطق مهددة بالوقوع في قبضة المسلحين عدا العاصمتين باماكو وواغادوغو.

____________


مواد ذات علاقة