يوسف لطفي

عصفت بمدينة درنة إحدى أكبر الكوارث الطبيعية التي شهدها العالم خلال العقد الأخير، حيث أدى انهيار سدي وادي درنة (سد البلاد بسعة 15 مليون متر مكعب، وسد بو منصور بسعة 22 مليون متر مكعب) إلى فيضان ضخم تقدر حجمه بثلاث أضعاف سعة السدود.

جرف الفيضان المناطق والأحياء القريبة المحاذية للوادي ليقذف بها في البحر ويغير ملامح المدينة إلى الأبد.

وتمثل المدينة القديمة وأضرحة قبور الصحابة الفاتحين رضوان الله عليهم شاهدا على حجم التغيّر الذي أصاب ملامح المدينة فقد صمدت هذه المعالم التاريخية أمام الفيضانات التي شهدتها المدينة عبر تاريخها إلا أن هذا الفيضان أدى إلى تجريفها تماما وجعلها أثرا بعد عين.

الفيضان كان أشبه بتسونامي عكسي اكتسح كل ما في طريقه من أحياء ومساكن، كما دمر الطرق الشمالية المؤدية إليها والواصلة بين غربها وشرقها، وتظهر الصور ومقاطع الفيديو المنتشرة حجم الكارثة التي حلت بالمدينة حيث جرف وأغرق الفيضان أكثر من ثلث من المدينة.

وتشير التقديرات الأولية لأعداد الوفيات أنها قد تتجاوز 20,000 حسب تقديرات مركز البيضاء الطبي، وقد تجاوز عدد الوفيات المؤكدة أكثر من 11,000 حالة مسجلة إلى تاريخ 13سبتمبر مع ارتفاع الأعداد بشكل متزايد مع استمرار توافد فرق الإنقاذ وفرق الدفاع المدني الدولية. أما عدد المفقودين فقد سجل الهلال الأحمر الليبي نحو 12000 حالة مؤكدة في حين بلغ عدد النازحين نحو 30,000 في مدينة لا يتجاوز تعدادها السكاني 120,000 نسمة!

فساد الدولة ودور المجتمع

يناهز عمر السدود المنهارة نحو الخمسين عاما، حيث بنيت في أوائل سبعينات القرن الماضي ولم تشهد أي عمليات صيانة أو ترميم منذ أكثر من 20 عام تقريبا، وقد حذرت الدراسات والندوات العلمية على مر الأعوام الماضية من الخطر المحدق بوادي درنة وسدوده والطرق المحيطة به، منها رسالة دكتوراه نشرت في 2022 للدكتور عبد الونيس عاشور نصت في استنتاجاتها على الآتي:

الوضع القائم في حوض وادي درنة يحتم على المسؤولين اتخاذ إجراءات فورية بإجراء عمليات الصيانة الدورية للسدود القائمة، لأنه في حالة حدوث فيضان ضخم فإن النتيجة ستكون كارثية على سكان الوادي والمدينة، كذلك يجب إيجاد وسيلة لزيادة الغطاء النباتي بحيث لا يسمح للتربة بالانجراف وللحد من ظاهرة التصحر

من خلال الزيارة الميدانية إلى وادي درنة، وجدنا بعض المساكن في مجرى الوادي، الأمر الذي يتطلب توعية السكان بخطورة الفيضانات واتخاذ كافة التدابير والإجراءات اللازمة للحفاظ على سلامتهم

في حين ينهمك الليبيون من كافة المدن شرقا، غربا، وجنوبا في عمليات الإنقاذ التطوعية وفي توفير الإغاثة اللازمة لإسعاف أهالي درنة، إلا أن مشاهد انهيار البنية التحتية في عدد من مدن الشرق الليبي وما تسببت فيه من خسائر فادحة في الأرواح والأموال وتعطيل الحياة العامة وتكبيد المواطنين خسائر مادية ومعنوية كبيرة.

أرقام الوفيات وحجم الأضرار الكارثية بمدينة درنة، دفعت العالم ليتساءل عن حجم الفساد والتسيب في أجهزة الدولة ومؤسساتها والذي أدى إلى تغييب الحد الأدنى من إجراءات الأمن والسلامة فضلا عن الخدمات والحقوق البدائية التي من شانها أن تحفظ سلامة المواطنين.

يقدم تقرير ديوان المحاسبة لعام 2021 جزءا من الإجابة، حيث يكشف التقرير في الفصل الثاني عن أوجه فساد كثيرة نخرت وتنخر وزارة الموارد المائية، وينص التقرير تحت بند ميزانية التحولعلى تقـاعس الوزارة بـاتخـاذ الإجراءات اللازمة حيـال المشـاريـع المتوقفـةوالتي جاء على رأسها مشروع لصيانة وتأهيل سدي درنة بقيمة تناهز 15 مليون دينار.

رغم ما يكشفه التقرير من صور للفساد المالي في الوزارة، إلا أنه يظل جزءا من المشهد الكلي، فالمسؤولية لا يمكن أن تحصر في وزارة أو بلدية ولا يمكن أن تلخص في فساد بضعة سنوات، فانعدام الأهلية أو الجاهزية هو سمة عامة لكل الجهات المعنية بالأزمة بدءا من الحكومة المركزية ومرورا بهيئة السلامة الوطنية والدفاع المدني وانتهاء بالبلدية والأجهزة المحلية.

ويعكس عقد البرلمان لجلسته الطارئة بعد أربعة أيام من وقوع الكارثة حجم التبلد وغياب أدنى حس بالمسؤولية، كما تكشف تصريحات رئيس البرلمان عقيلة صالحالتي تمحورت حول إخلاء مسؤوليتهم مما حدث، تكشف عن مدى استهتار هذه الجهات رغم فداحة الخطأ وكارثية النتائج.

إن تقاعس البرلمان بلغ أن ظلت أبواب مقره الذي يبعد عن درنة أقل من 30 كم والذي يسع نحو ألف شخص ومجهز بمهبط طيران مروحي ومرافق صحية مجهزة، ظلت أبواب هذا المقر الذي تعود ملكيته لأبناء هذا البلد مغلقة في ظل أكبر كارثة إنسانية في تاريخ البلاد.

درنة مدينة عانت من الفيضانات طوال عمرها الحديث، وهي مدينة مصبتحيط بها المرتفعات، وحسب تقييمات لخبراء ومختصين فإن أجزاء كبيرة من المدينة غير صالحة للسكن والإقامة.

كما أن الطرق المؤدية إليها والمحيطة بالوادي متهالكة، فضلا عن غياب التجهيزات والإجراءات والنظم اللازمة للإنذار في حالات الطوارئ أو وجود خطط إخلاء وما إلى ذلك من إجراءات بدائية وضرورية تتحمل مسؤوليتها السلطات المركزية والمحلية والوزارات والهيئات وأخيرا السلطات العسكرية التي تحكم قبضتها على مؤسسات شرق البلاد التي تبلغ مخصصاتها السنوية معدلات قياسية نسبيا.

بلدية درنة التي يرأسها عبد المنعم الغيثيابن أخت عقيلة صالح خصص لها 400 مليون دينار ، في حين خصص لوزارة الموارد المائية نحو نصف مليار دينار، فضلا عن الميزانيات المخصصة لبقية القطاعات والهيئات المسؤولة دون أن ينعكس ذلك أداء هذه الجهات لمهامها وواجباتها.

في المقابل فإن تحرك الحملات الشعبية العفوية أولا لإنقاذ المدينة وإغاثة أهلها تمثل أكبر شاهد ليس على فشل وفساد جهاز الدولة فقط، وإنما على فشل مؤسسات المجتمع المدني وهيئات الإغاثة المدنية.

يمثل فشل المؤسسات الأهلية مؤشر خطير على تخبط في القيم الموجهة لأعمال هذه المؤسسات وبعدها عن القضايا المجتمعية والإنسانية الملحة والمحورية في حياة الناس.

إن مأساة درنة كاشفة لما هو أعمق من فساد مالي في إدارة أو مؤسسة أو وزارة، فهي تكشف الغطاء عن قصة تفسخ أخلاقي وتسيب قيمي تقترب من نهايتها.

إن تحول الفساد لجزء طبيعي من الممارسة السياسية وانهيار الحس العام بالمسؤولية وغياب المؤسسات الأهلية عن الشأن العام في ظل غياب أي بوادر إصلاح في الأفق يشير نحو أحد اتجاهين: الانفجار أو الانهيار.

إن غياب موقف أخلاقي جماعي واضح للشارع الليبي من قضايا الفساد والظلم والاستبداد هو الأساس الذي يقوم عليه فساد السلطة السياسية وتراجع الحس المجتمعي بالمسؤولية تجاه الوطن.

إن كل الحلول الإدارية والقانونية المطروحة لمعالجة الفساد المتأصل في جسد الدولة ستظل حلول ركيكة تدور في فلك بيروقراطية ذات الدولة المستهدفة بالعلاج!

___________

مواد ذات علاقة