الحبيب الأسود

الحل هو الاتفاق على إجلاء متزامن للقوات الأجنبية والمرتزقة وهو ما لن يتحقق خاصة في المنطقة الغربية حيث بات الحضور التركي مؤسسة وافية الأركان تتحكم في القرار السياسي والمالي والاقتصادي.

لا أحد يتحدث اليوم عن ملف المرتزقة النشطين في ليبيا. منذ أشهر بدا وكأن هناك رغبة في تهميش الملف سواء من قبل أطراف داخلية أو من قبل أطراف خارجية متداخلة إقليميا ودوليا.

حتى اللجنة العسكرية 5+5 لم تتعرض للموضوع في بيانها الختامي الصادر عقب اجتماعها الأخير بتونس، بعد أن كانت من أشد المتابعين لحيثياته والعاملين على حلحلته. السبب الحقيقي أن مسألة القوات الأجنبية والمرتزقة في ليبيا لم تعد مسألة ليبية بحتة، وإنما هي مرتبطة بالتنافس بين القوى الكبرى على تقاسم النفوذ في البلد الذي لا يزال يعيش أزمة سياسية متفاقمة منذ العام 2011.

تنظر واشنطن وحلفاؤها الغربيون إلى الحضور الروسي على أنه الخطر الأكبر الذي يهدد مصالحهم في ليبيا. في مناسبات عدة، وصلت إلى الجنرال خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطني تهديدات وتحذيرات وضغوط من أجل أن يسارع بقطع علاقاته مع موسكو، لكنه كان يرد بتجاهل الملف أو بتأجيل النظر فيه، مستفيدا من مواقف حلفائه الإقليميين الذين يحتفظون بروابط قوية مع الروس، وفي نفس الوقت يلتزمون بعلاقاتهم التقليدية مع الولايات المتحدة ولكن دون الخضوع التام للخيارات الأميركية التي لم تعد تجد من يثق بها كما كان الوضع قبل 2011.

في يناير 2023، نقل مدير المخابرات الأميركية وليامز بيرنز إلى الجنرال حفتر دعوة واشنطن الملحة إلى طرد عناصر فاغنر في أسرع وقت، دون أن تخلو تلك الدعوة من تهديدات مبطّنة.

وبحسب أوساط ليبية، فإن بيرنز أكد خلال زيارته النادرة إلى بنغازي وطرابلس على ضرورة الحد من الدور الروسي في ليبيا، ولاسيما ذلك الذي تمثله فاغنر التي تعمل في ليبيا في سياق عقد مبرم مع قيادة الجيش بغطاء سياسي من مجلس النواب، مشيرة إلى أن الضغط الأميركي مرتبط مباشرة بالوضع في أوكرانيا ويعكس انزعاج واشنطن من توسع الحضور العسكري الروسي الموازي في عدد من الدول الأفريقية ومن بينها ليبيا.

في أبريل، بحثت باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى مع الجنرال حفتر منع مجموعة فاغنر من زيادة زعزعة استقرار ليبيا والسودان، وفي الشهر الموالي أوردت جريدة “بوليتيكو” الأميركية أن “هناك إستراتيجية أميركية جديدة لاستهداف مرتزقة فاغنر الروسية في أفريقيا”، مؤكدة أن “مسؤولين في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن صاغوا خارطة طريق جديدة لإخراج فاغنر من ليبيا وعدة بلدان أفريقية من المنطقة تحت مسمى الإستراتيجية الثمينة”.

في يونيو، كشفت “الواشنطن بوست” أن مجموعة فاغنر تنشط في خمسة مجالات داخل ليبيا، منها ما هو سياسي واقتصادي، وأضافت أن تلك المجالات هي التدريب وتقديم المعدات والحماية وتقديم الخدمات اللوجستية، إضافة إلى هدف اقتصادي يتعلق بالموارد النفطية للدولة، وآخر سياسي بتقديم النصح لحلفائها المحليين.

بالمقابل، يرى الجنرال حفتر أن الدور الروسي هو الذي يمكن أن يساعد على تشكيل التوازنات الأساسية في البلاد، ويمنع التيارات المناهضة لمشروعه السياسي من السيطرة على مقاليد الحكم ومنابع الثروة بدعم أميركي – أوروبي.

وصلت عناصر فاغنر إلى ليبيا في العام 2018 للعمل كخبراء ومستشارين في مختلف مجالات العمل العسكري، لاسيما في الحرب على الإرهاب، وشاركت في “طوفان الكرامة” الذي حاولت من خلاله قيادة الجيش السيطرة على المنطقة الغربية بداية من أبريل 2019.

تم الحديث آنذاك عن 2000 عنصر يساهمون في صيانة وتشغيل الطائرات في قواعد بنغازي وسرت وبراك الشاطئ وتمنهنت والجفرة، وفي تأمين الحقول النفطية بوسط البلاد وجنوبها وشرقها، وقد تراجع ذلك العدد لاحقا إلى 800 ولا يتجاوز حاليا 400 عنصر. وهو يشكل برمزيته أكثر ما يشكّل بضخامته، خصوصا مع انتشار الشركة الروسية في عدد من الدول الأفريقية مثل مالي وأفريقيا الوسطى والسودان، بالتزامن مع اتساع نفوذ موسكو وتراجع نفوذ فرنسا.

في بداية عام 2020، بدأت مناطق غرب ليبيا في استقبال الآلاف من المسلحين المنتدبين من ميليشيات الشمال السوري الموالية لتركيا، وذلك في إطار مذكرة التفاهم الأمني والعسكري التي جرى التوقيع عليها بين الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس المجلس الليبي آنذاك فائز السراج في نوفمبر 2019 بهدف التصدي للهجوم الذي كان يقوده الجنرال حفتر على طرابلس.

كان لمرتزقة تركيا دور مهم في حسم المعارك بتخلي قوات الجيش عن مواقعها في الغرب الليبي، وبالإعلان عن قرار وقف إطلاق النار في أغسطس 2020. لا يمكن الفصل بين دور المرتزقة وبين القوات النظامية التركية التي كانت تتولى إرسال الطيران المسيّر وتوجيهه، والتي سيطرت على عدد من القواعد المهمة كقاعدة معيتيقة وقاعدة الوطية الجويتين وقاعدة طرابلس البحرية، بينما تمركز المسلحون السوريون في عدد من المعسكرات مثل “التكبالي” و”اليرموك”.

كانت الولايات المتحدة ترفض التدخل العسكري التركي والمرتزقة السوريين في بدايات 2020 قبل أن ترى فيه لاحقا حجر زاوية لحضور الناتو عبر أنقرة في مواجهة الحضور الروسي في الشرق. واعتبرته أساسا للتوازن، وطريقة مجدية لاحتواء ما تعتبره نزعة توسعية لدى موسكو.

اعتبرت سلطات الشرق الليبي، بما في ذلك مجلس النواب وقيادة الجيش، أن الوجود التركي في طرابلس لا يعدو أن يكون احتلالا مدعوما بالمرتزقة، وأن أيّ مشروع للحل السياسي الشامل يستوجب طرد تلك القوات، وهو ما تم الاتفاق عليه من قبل اللجنة العسكرية المشتركة المكلفة بإدارة الحوار العسكري وتنفيذ مقرراته وتأمين الإبقاء على وقف إطلاق النار وفق القرار الصادر في جنيف في أكتوبر 2020 الذي أعطى مهلة بـ90 يوما لإجلاء كافة المسلحين الأجانب المنتشرين في البلاد.

في 23 يناير 2021 انتهت المهلة دون تحقيق أيّ خطوة في اتجاه الهدف. أدرك الجميع أن الموضوع ليس بهذه السهولة وأن جزءا مهما من القرار ليس بأيدي الليبيين.

في جنوب البلاد، كانت هناك معضلة أخرى تتصل بجحافل المرتزقة الوافدين من دول الجوار، وبعضهم من تنظيمات مسلحة مناهضة للسلطات الحاكمة في بلدانها، التي جدت أيسر طريقة لتوفير تكاليف الحياة في تأجير البنادق لمن يدفع أكثر سواء في طرابلس أو بنغازي.

في بداية العام الجاري، سعت بعض القوى الدولية لإقناع حكومات أفريقية باستقبال أبنائها المرتزقة لدى الفرقاء الليبيين قبل موفى يونيو. أقرت لجنة 5+5 ذلك بعد مفاوضات مع ممثلين عن تلك الدول. سافر عبدالله باتيلي المبعوث الدولي إلى الخرطوم ونجامينا ونيامي لتدارس الموقف مع سلطاتها، لكن دون جدوى، فقد أدى اندلاع الحرب في السودان وانقلاب النيجر إلى تجاهل التوافقات السابقة.

في مناسبات عدة، قال المجلس الرئاسي إن هناك اتجاها عمليا لطرد المرتزقة. وأكد الجنرال حفتر أنه لا بد من إجلاء كافة المسلحين الأجانب بما يتيح فرصة إعادة توحيد الجيش، وخاطب رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة مجلس الأمن بأن ليبيا تعيش “بارقة أمل للخروج من النفق المظلم الذي تمر به” منذ سنوات، وأن خروج المرتزقة من ليبيا يعتبر من “أهم ما يواجهنا”، مؤكداً أن “استمرار تواجدهم يشكل خطراً على العملية السياسة”. وتابع أن “الحكومة تؤكد على أن استمرار تواجد القوات الأجنبية على أرض ليبيا أمر مرفوض”.

ما جرى على أرض الواقع هو أن سلطات طرابلس تعتبر أن الوجود العسكري التركي ناتج عن اتفاقية معترف بها دوليا، وهي تعبّر عن القرار السياسي الدولي، أما ملف المرتزقة السوريين فلا يمكن حسمه إلا بعد الاتفاق على مصير مرتزقة فاغنر. هذا الموقف يجد دعما قويا من واشنطن وحلفائها الذين يعتبرون أن لا مشكلة لهم مع أنقرة ومسلحيها بقدر ما أن الصراع الحقيقي مع روسيا ونفوذها السائر نحو المزيد من التوسع في المنطقة.

في بنغازي، لا يزال هناك إصرار على ربط أيّ خطوات لحلحلة النزاع بطرد القوات التركية والمرتزقة السوريين، وهو موقف يستند كذلك إلى توازنات إقليمية، فأغلب العواصم العربية ترفض التغلغل التركي في الغرب الليبي، حتى وإن لم تعبّر عن ذلك علنا. القضية الأكثر تعقيدا أن كل محاولة لإرساء الحل السياسي ستحتاج إلى النظر في ملف القوات الأجنبية والمرتزقة، وهو ما يبدو شبه مستحيل في الوقت الحالي، وقد ينذر بتقسيم البلاد على أسس التدخلات الخارجية المباشرة كما حدث في عدة دول كانت قد دفعت ثمن الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو.

يبقى أن الحل الوحيد هو التوصل إلى اتفاق على إجلاء متزامن للقوات الأجنبية والمرتزقة في غرب البلاد وشرقها، وهو ما لن يتحقق، خاصة في المنطقة الغربية، حيث بات الحضور التركي مؤسسة وافية الأركان تتحكم في القرار السياسي والمالي والاقتصادي والأمني والعسكري في طرابلس.

وحيث يجد ذلك الحضور دعما مباشرا من واشنطن والحلفاء الغربيين المرعوبين من توسع روسي يهدد مصالحهم، كما ارتبط بمصالح قوى فاعلة على الأرض وفي الأسواق وفي مواقع القرار. أما المنطقة الشرقية فهي تستفيد من بقاء الوضع على ما هو عليه في طرابلس لتكريس مشروعها المرتبط بشخصية الجنرال حفتر وتطلعاته السياسية ذات الغطاء الاجتماعي متعدد الأطراف.

____________

مواد ذات علاقة