تمهيد:

لا يزال الوضع في ليبيا يشهد انقسامًا سياسيًا وسط العديد من المشاهد المعقدة فأصبحت العملية السياسية في ليبيا تشكل خطرًا عليها وعلى أمنها القومي، حيث يستمر العديد من الساسة والعسكريين التنافس على السلطة، وعلى مقدرات الدولة الليبية.

ويتجلى تفاقم المنافسات في العلاقة المعقدة بين السلطات في الشرق والغرب، حيث اتسم هذا الصراع بالمنافسة الشرسة بين أبرز الشخصيات على الساحة الليبية، فاندلعت اشتباكات مسلحة بين القوات العسكرية المتنافسة فأصيب وقُتل العشرات من الأشخاص.

استمرارا لمسلسل الاستقطاب والانقسام السياسي بين مكونات المجتمع السياسي الليبي، أعلن مجلس النواب الليبي (برلمان طبرق) برئاسة عقيلة صالح بتاريخ 1 نوفمبر 2023 قانونًا جديدًا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية الليبية، ينص على إجراء الانتخابات يفي موعد أقصاه 240 يومًا من تاريخ إصدار القانون، مما سيؤدي إلى اتساع فجوة الخلاف بين مكونات السلطة في ليبيا، ويرجع ذلك إلي عدم إشراك سلطات الغرب الليبي في وضع هذا القانون الذي يشوبه العوار الدستوري بسبب بعض مواده التي صُمّمت خصيصًا للجنرال خليفة حفتر، والذي سنتطرق إليها جزئيًا في هذه الورقة.

لذلك فأننا في هذه الورقة، ولكي نتعرف على مستقبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الليبية فمن الضروري التعرف بقراءة مفصّلة عن حالة الصراع السياسي الحاد الذي تعيشه الدولة الليبية حيث سنتناول مجموعة من العناوين المهمة والتي توجهنا لمعرفة مناط الداء وسبل العلاج من خلال العناوين الآتية:

ـ قراءة في حالة الصراع بين السلطات الليبية وتأثيرها على مستقبل الانتخابات.

ـ التداخلات الخارجية وتأثيرها على الدولة الليبية .

ـ الانتخابات الليبية وحالة الانقسام.

ـ سيناريوهات مشهد الانتخابات الليبية ومستقبلها.

***

لم يحرز الحوار بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب بشأن تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية أي تقدم حتى الآن، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن بعض السياسيين والعسكريين الليبيين لديهم مصلحة في تأجيل الانتخابات، في هذه الأثناء تستمر لعبة عض الأصابع بين الجنرال خليفة حفتر ورئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة حول عائدات النفط، حيث هدد الجنرال خليفة حفتر أكثر من مرة بعمل عسكري ضد طرابلس إذا لم يصبح توزيع عائدات النفط أكثر ملاءمة لتوقعاته.

أولا: قراءة في حالة الصراع بين السلطات الليبية وتأثيرها على مستقبل الانتخابات

أـ هشاشة الوضع الأمني وتأثيره على الانتخابات

الأوضاع الأمنية في الساحة الليبية لها تأثير عميق على عملية الاستقرار والسير نحو انتخابات شفافة ونزيهة، ولكي نستطيع فهم معوقات أجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ليبيا، وجب توضيح مدى هشاشة الحالة الأمنية سواء في الشرق أو الغرب الليبي، لذلك سنتطرق إلى أهم حدثين أمنيين وقعوا في معسكري السلطة في الغرب والشرق الليبي، كمؤشر وقياس واضح للتعرف على مدى هشاشة الوضع الأمني في ليبيا.

ـ اشتباكات طرابلس في أغسطس 2023

في الأسبوع الأول من شهر أغسطس 2023 تسببت الاشتباكات المسلحة في طرابلس في مقتل ما لا يقل عن 55 شخصًا وإصابة أكثر من 100 آخرين، حيث بدأ القتال في 14 أغسطس 2023 في الضواحي الغربية لطرابلس، بعد أن ألقت قوات الردع الخاصة التابعة لعبد الرؤوف كاره القبض على العقيد محمود حمزة، ‫والتي‬ ‫تعتبر ‫كإحدى ‬‫الأضلع‬ ‫الثلاثة‬ ‫القوية‬ ‫المسيطرة‬ على ‫طرابلس‬ ‫بعد‬ ‫أن‬ ‫قاوم ‬ ‫محاولات‬ ‫تصفيته‬ ‫لأكثر من محاولة، ‬‬‫وهي‬ ‫نفس‬ ‫القوات‬ ‫التي‬ ‫اشتبكت‬ ‫وتدخلت‬ ‫في‬ ‫الصراع‬ ‫العسكري‬ ‫الذي‬ ‫وقع‬ ‫في طرابلس في مايو 2022.‬

حيث تدخل العقيد محمود حمزة لفض الاشتباكات، وقام باصطحاب فتحي باشاغا وتأمين خروجه من العاصمة دون أن يمسه سوء، ولاحقا استقال الأخير من رئاسة الحكومة المكلفة من برلمان طبرق في مايو/أيار 2023.

لكن الموقف المحايد للعقيد محمود حمزة في الصراع بين عبد الحميد الدبيبة وفتحي باشاغا، ورفضه الانخراط في القتال لم يرق للبعض. لكنه أثار إعجاب كثير من الليبيين. وزادت شعبيته لدوره بحقن الدماء بعد سنوات من الاقتتال.

في السابق تم دمج قوات العقيد محمود حمزة (اللواء 444) تحت قيادة اللواء عبد الباسط مروان، قائد المنطقة العسكرية الوسطى في طرابلس ـ سابقا، وتحت قيادة وزارة الدفاع الليبية وبأمرة وزير الدفاع عبد الحميد الدبيبة.

وتعمل قوات الردع الخاصة (جهاز مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب) كهيئة شرطية في العاصمة وتسيطر على مطار معيتيقة الدولي، والأحياء المحيطة به.

بعد يومين من الاشتباكات التي حدثت، أعلنت قوات الردع الخاصة (جهاز مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب) أن وساطة عبد الحميد الدبيبة مكنت من التوصل إلى اتفاق للإفراج عن محمود حمزة قائد اللواء 444، لذلك هدأ القتال، لكن مازال لواء 444 فعالًا رئيسيًا في الغرب الليبي.

لكن بعض التحليلات تتحدث أن عبد الحميد الدبيبة يستخدم اللواء 444 لتعزيز سيطرته على أهم المؤسسات الحيوية في العاصمة، مما يثير معارضة قوات الردع التي لا تريد التنازل عن الأرض لقوات منافسة.

للحديث عن أهمية الوضع الأمني في الغرب، وجب علينا التطرق على أهم القوي

العسكرية الموجودة في وسط العاصمة طرابلس، لكننا لن نتطرق لباقي القوات العسكرية في الغرب الليبي نظرًا لكثرتها، ولأن مناط الحديث الان عن الاشتباكات التي حدثت في أغسطس 2023 في العاصمة طرابلس وهم:

قوات الردع الخاصة (جهاز مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب) بقيادة عبد الرؤوف كارة.

جهاز دعم الاستقرار بقيادة عبد الغني الككلي غنيوة.

اللواء 444 محمود حمزة.

حاول عبد الغني الككلي (غنيوة) إزاحة العقيد حمزة من المشهد الأمني بالعاصمة في 2021 لكنه فشل، كما حاول عبد الرؤوف كاره إنهاءه من المشهد أيضا وأخفق

هو الآخر في 2023 ما يجعل قائد اللواء 444 عنصرا أساسيا في معادلة السلم والحرب، وفق خريطة النفوذ والسيطرة الجديدة في الغرب الليبي.

على أية حال تشير هذه الحادثة إلى أن التنافس على السلطة في الغرب الليبي يشكل مصدرًا لانعدام الأمن، وسبق أن لاحظت بعثة الدعم التابعة للأمم المتحدة في ليبيا أن عمليات الاختطاف والاعتقال التعسفي واختفاء الملواطنين والشخصيات العامة تخلق مناخا من الخوف في ليبيا، مما يشكل معوقًا لقيام انتخابات في الغرب الليبي في ظل وضع أمني هش وصراعات قد تؤدي الي اشتباكات مسلحة في أي وقت على النفوذ والسيطرة العسكرية.

ـ ‫‬‫عودة‬ ‫المهدي‬ ‫البرغثي‬ ‫لـ‬ ‫بنغازي

في ليلة الجمعة 6 اكتوبر 2023 حدثت اشتباكات مسلحة بين قوات خليفة حفتر وجماعات تابعة لقبيلة موالية لوزير الدفاع السابق المهدي البرغثي، وجاء ذلك على خلفية اعتقال الأخير من قبل قوات طارق بن زياد بقيادة صدام حفتر، حيث استمرت الاشتباكات لعدة ساعات في حي السلماني مقر إقامة البرغثي.

فبعد سبع سنوات عاد البرغثي إلى مدينة بنغازي بالشرق الليبي، بعد مشاورات واتصالات واسعة من شخصيات قبلية في شرق ليبيا مع قيادة حفتر، التي توعدت بعدم المساس به وبأنه لم يعد مطلوبا لديها، حيث قامت قوات طارق بن زياد التي يرأسها صدام حفتر باستدعاء البرغثي على خلفية وجود عدد من المسلحين المرافقين له.

إن دخول البرغثي برفقة عدد من المسلحين إلى بنغازي شكّل خطرا على حفتر، لكن في الواقع لم تكن المخاطر منحصرة في المهدي ومسلحيه الذين تم القضاء عليهم خلال أقل من ساعتين من وصول المهدي إلى منزله في حي السلماني بالمدينة وإلقاء القبض عليه داخله.

لكن ما حدث في المدينة بعد إلقاء القبض على البرغثي والتي استمرت لمدة أربعة أيام في عزلة تامة عن العالم وسط احتقان وتوتر أمني، يجعلنا نتساءل لماذا كل هذه الإجراءات الأمنية؟

إن الواقع الذي يخشاه خليفة حفتر ليس البرغثي في حد ذاته، ولكن قبائل البراغثة والعواقير والمغاربة والعبيدات وغيرهم.

ففي الحقيقة خليفة حفتر يدرك أن هذه القبائل لن تنسى أنها من صنعته، حيث كان أبنائها الثقل الحقيقي لقواته، هذا غير النفوذ والثقل الاجتماعي في المنطقة الشرقية قبل أن يعتمد على فاغنر والمرتزقة الأفارقة، حيث واجهت مساعدة هذه القبائل له بالنكران، وإقصاء أبنائها من المناصب لصالح تعزيز نفوذ أولاده وأسرته في المواقع والمناصب العسكرية في قواته، بل وفي دوائر صنع القرار السياسي والاذرع الاقتصادية.

فرغم الهدوء الذي يسود بنغازي بعد القبض على البرغثي ومقتل إبنه ابراهيم على يد قوات خليفة حفتر، هذا لا يمنع احتدام الصراع مستقبلا، وخشية حفتر من انتفاضة شعبية، وما يعزز هذه الرواية ما حدث أيضا في مدينة درنة من انتفاضة شعبية ضد خليفة حفتر، بعد كارثة الإعصار وانهيار السدّين.

ورغم حدة الإجراءات والقيود الأمنية وحالة الترهيب والقمع التي تقوم بها قوات حفتر، لكن حالة التضارب في تصريحات رموز أركان حفتر، ولغتهم المرتبكة حيال توصيف ما حدث في واقعة المهدي البرغثي تثير الريبة، حيث أكد رئيس حكومة الشرق أسامة حماد، أن البرغثي استغل تراخي الإجراءات الأمنية في البوابات، ومر برفقة عدد من أنصاره المسلحين وبصحبة أرتال من حملات الإغاثة الشعبية القادمة من غرب البلاد باتجاه المناطق المنكوبة في الشرق.

وأكد وكيل وزارة الداخلية في الحكومة ذاتها فرج قعيم، بعد أقل من ساعتين، أن البرغثي تسرّب عبر الصحراء بطرق ملتوية ليدخل إلى بنغازي خفية، وبدعم مالي ومخابراتي محلي وخارجي!!.

وجدير بالذكر، أنه بينما يتنافس القادة الليبيون للسيطرة على المؤسسات، يتفاقم الاتجار غير المشروع بالبشر والانتهاكات ضد المهاجرين وطالبي اللجوء، حيث أثبت تقرير حديث عن الاقتصادات غير المشروعة في ليبيا، وأن الجيش العربي الليبي التابع لحفتر، متورط بشكل متزايد في الاتجار بالبترول والمخدرات والبشر.

ومن ذلك ما كشفه تحقيق مشترك أجرته دير شبيغلو إلبايسعن دور قوات حفتر في غرق سفينة المهاجرين في بيبلوس باليونان، والتي تسببت في مقتل حوالي 600 شخص في يونيو 2023، فكتيبة طارق بن زياد و الضفادع البشريةالتابعة للبحرية الليبية في الشرق على وجه الخصوص، يزعم أنهم متورطون في الاتجار بالمهاجرين وطالبي اللجوء، وكلاهما تحت سيطرة حفتر وابنه صدام.

فقد أصبحت كتيبة طارق بن زياد، التي اتهمتها منظمة العفو الدولية ومنظمات أخرى مرارا وتكرارا بارتكاب جرائم حرب، ومن بينها أمور أخرى، منها أنها مسؤولة أيضا عن منع المهاجرين، ومراقبة الحدود بعد اتفاقيات غير رسمية بين حفتر والحكومات الأوروبية، وهذا يشير إلى أن كتيبة طارق بن زياد تستفيد مرتين، مرة من تهريب المهاجرين، وأخرى من مراقبة الحدود البحرية.

وفي غرب ليبيا تنقسم السيطرة بين عدة جماعات مسلحة ومتنافسة، والتي اكتسبت احتكارات شبه مستقرة في قطاعات مختلفة، حتى أننا يمكن أن نطلق عليها بعقد كارتل“.

وذلك لحصول بعض قادتها على مناصب مهمة في المؤسسات الليبية، وتقاسمهم للسلطات الأمنية والعسكرية والاقتصادية فيما بينهم، كما في حالة وزير الداخلية عماد الطرابلسي في الغرب.

إن واقعة الاشتباكات التي حدثت في أغسطي 2023 في طرابلس، وواقعة الاشتباكات المسلحة في مدينة بنغازي في اكتوبر 2023، إضافة إلى الانفلات الأمني والاشتباكات المسلحة التي تظهر من حين إلى آخر، تشير لمنحى خطير تسير له الأوضاع الأمنية في ليبيا، مما يجعلها مهددا خطيرا لعدم تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية في المستقبل القريب نتيجة حالة الهشاشة الأمنية التي تشهدها الساحة الليبية.

….

يتبع

____________

المصدر: تقرير بعنوان تقدير موقف: مستقبل الانتخابات في ليبيا بعد إقرار قانون الانتخابات من البرلمانالصادر في 6 نوفمبر 2023 عن وحدة الدراسات والأبحاث بالمركز الليبي للدراسات العسكرية والأمنية.

مواد ذات علاقة