عبدالله الكبير

 انتصار المقاومة في غزة بات أمرا واقعا لا لبس فيه، ولا يشكك فيه إلا قليل المعرفة بحروب التحرير وتكاليفها العالية، أو تلك المجموعات الصغيرة المتناثرة هنا وهناك، التي لا ترى إلا مايريها ولي أمرها، مطوعة الدين لخدمة السلطة، دون بصيرة أو إعمال للعقل.

 لا يدرك هؤلاء طبيعة الصراع وتعقيداته، لذلك هم يظنون أن للانتصار وجه واحد. المنتصر هو من يوقع العدد الأكبر من القتلى في صفوف عدوه، وكأن الصراع مباراة رياضية يفوز فيها من يسجل أهدافا أكثر في مرمى خصمه!

حروب التحرير ضد عدو استيطاني ليست كغيرها من الحروب، إذ يطول زمنها عن الحروب التقليدية بين الدول، وميزان القوة فيها دائما يميل إلى قوات الاحتلال، لأنه يتفوق عادة في المعدات الآليات والأسلحة، ولهذا السبب يكون عدد الضحايا في صفوف الشعوب المحتلة، أكبر بما لايقاس مع ضحايا المحتل، وتكون المبادرة في يد المحتل في بداية الصراع، ثم تنتزعها المقاومة حينما تستكمل استعداداتها، وتبني قدراتها، وتعد خططها بمرونة تراعي كافة أبعاد الصراع، السياسي والعسكري الإعلامي

في كل حروبه السابقة منذ نكبة 1948، حتى الحروب الأخيرة في غزة وجنوب لبنان، كان المحتل الصهيوني هو المبادر باشعال فتيلها، باستثناء حرب تحرير سيناء عام 1937، والحرب الحالية مع فصائل المقاومة في غزة، وهذه أكثر خطورة من حرب تحرير سيناء، لأن تلك كانت في مناطق حدودية بين سوريا وفلسطين ومصر، وكانت بين جيوش نظامية، ولم يتأثر بها المحتلون في داخل الكيان بشكل مباشر.

أما هذه فهي تضرب عمق كيان الاحتلال، تطال نيرانها وصواريخها كل المستوطنين، الذين ترك مايقرب النصف مليون منهم منازلهم، وتحولوا إلى نازحين قرب مستوطنة تل أبيب، لذلك نظر إليها كتهديد وجودي للمشروع الصهيوني، فهرعت أمريكا وحلفائها بأساطيلهم وعتادهم ومخابراتهم، لإسناد الكيان المترنح، والحفاظ عليه من الانهيار

سددت المقاومة ضربتها الحاسمة في ملحمة السابع من أكتوبر، فحطمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأجهزة الاستخبارات الأقوي في المنطقة، وحققت نصرها الاستراتيجي في بضع ساعات، وتحت وقع الصدمة أتبع المحتل غرائزه، ومضى في طريق الانتقام، مثلما تفعل كل القوى الغاشمة، التي لا تعرف سبيلا إلى أهدافها غير القوة.

لم تسعفهم الحكمة للتريث ودراسة الحدث لتكون ردود الأفعال عقلانية، تحافظ على ما تبقى له من أنواع القوة. لقد أبى إلا أن يستكمل فصول هزيمته

أظهر المحتل وجهه القبيح وأطلق نيرانه على الأطفال والنساء والشيوخ، وقصف المستشفيات والمساجد والمدارس والكنائس، صادما العالم بوحشيته وهمجيته، وفشل الإعلام الغربي المنحاز في تبرير هذه الجرائم.

كل الأكاذيب والدعايات الرخيصة في كبريات الصحف والفضائيات، لم تنقذ الصهاينة من خسارة معركة الإعلام، فعمت المظاهرات كل أرجاء الأرض، منددة بالاحتلال ووحشيته ضد المستضعفين، وبذلك أكملت المقاومة انتصارها في الفصل الثاني من الملحمة

لم يكن غريبا أن تنتقي بعض الصحف الغربية من تصريحات المسنة المحتجزة التي أطلقت المقاومة سراحها في نهاية أكتوبر الماضي عبارات تكرس تحيزها وخروجها عن المهنية. ” مررت بجحيم لم اتخيله أبدا.. كنت محتجزة في أنفاق تشبه شبكة العنكبوتوتضعها مانشيتا رئيسيا على صدر صفحاتها الأولى، إمعانا في تشويه المقاومة وإلباسها ثوب الإرهاب، لأن القارئ غالبا سيكتفي بالعناوين، وحتى إذا طالع الخبر وقرأ بقية التصريحات عن المعاملة الحسنة وتوفير كافة الخدمات والرعاية الطبية، سيبقي العنوان هو الأكثر تأثيرا في المخيلة، وبذلك لن تستفيد المقاومة من هذه الاشادة من قبل المسنة.

ولكن ماجرى بعد الاتفاق على الهدنة وتبادل المحتجزين، شاهد العالم المستوي الأخلاقي والإنساني الرفيع الذي عاملت به فصائل المقاومة المحتجزين، واكتشف أن سجون الكيان المحتل مكتظة بالأطفال والنساء الفلسطينين، وبسقوطه الأخلاقي أمام العالم، اكتملت فصول هزيمة كيان الاحتلال ودول الغرب، وسقطت مزاعمهم عن الحضارة والإنسانية وحقوق الإنسان.

________________

مواد ذات علاقة