رشيد خشانة

لم تكن سنة 2023 سنة السلام والاستقرار في ليبيا والاحتفاء بحلول العام الجديد، مثلما كان يأمل أهل البلد. وأتت الانتكاسة الأولى لمسار الانتخابات إثر إخفاق اجتماعات القاهرة بين وفدين يمثلان الحكومتين، بإشراف رئيس المخابرات المصرية عباس كامل.

ومع أن المبعوث الأممي عبد الله باتيلي بعث بمذكرة رسمية، في نيسان/ابريل، إلى رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري (قبل تنحيته من رئاسة المجلس) في سبيل تسريع الخطى نحو انتخابات شاملة، لم يتم إحراز أي تقدم حقيقي في هذا الاتجاه.

بل إن الحوار، الذي ترعاه الأمم المتحدة، بين أطراف النزاع الليبي، ما زال يصطدم بخلافات وانقسامات في أروقة كل من السلطتين الشرقية والغربية، بالإضافة لضغوط داخلية وخارجية، أعادت المحادثات إلى نقطة البداية. وكان تصديق مجلس النواب على مسودة مشروعي قانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إنقاذا للحوار، على أمل الانتهاء، في آخر المطاف، إلى التوقيع على اتفاق سلام والبدء في تنفيذه.

وفي الجانب الآخر من الصورة، تبدو موسكو ماضية في خططها للتمدد وتوسيع النفوذ في منطقتي الساحل والصحراء. ولم تُخف واشنطن مخاوفها من اتساع رقعة التدخل الروسي في أفريقيا، وهو أحد المواضيع المهمة التي قد يكون رئيس جهاز المخابرات المركزية الأمريكية وليم بيرنز ناقشه مع القادة الليبيين، خلال زيارته لطرابلس، وهي الأولى منذ 2012.

والأرجح أن الموضوع الأساسي الثاني، الذي جاء بيرنز من أجله إلى ليبيا، هو تقديم طلب رسمي لتسليم عبد الله السنوسي رئيس المخابرات الليبية في عهد القذافي، وهو في الوقت نفسه صهره، للاشتباه في ضلوعه في الاعتداء على طائرة «بان أمريكان» التي أسقطت فوق قرية لوكربي البريطانية العام 1988.

ولاحظ مراقبون أن الأمريكيين كثفوا حركتهم باتجاه المسؤولين الليبيين في السنة الأخيرة، على الرغم من لهيب الحرب المُستعرة في أوكرانيا، إذ استمر تمدُدُ روسيا في جنوب الصحراء، وخاصة في ليبيا والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى والسودان.

لذلك كان أحد أهم التصريحات التي أدلى بها باتيلي، العام الماضي، بعدما جدد له مجلس الأمن لعام واحد، تأكيده على «التزام الأمم المتحدة بعملية سياسية شاملة، يقودها ويملك زمامها الليبيون، للوصول إلى تسوية توافقية، حول القوانين الانتخابية».

نقطتا خلاف

تزامن اجتماع اللجنة العسكرية 5+5 في القاهرة مع عودة كل من خليفة حفتر ومحمد المنفي وعقيلة صالح إلى الاجتماع، بحضور مصري مباشر. وكان استكمال المسار الدستوري، العالق منذ 2017 المحور الأساسي لاجتماع اللجنة.

لكن لا شيء يؤكد أن نقطتي الخلاف بين الجانبين قد حُسمتا، قبل إحالة مشاريع القوانين الانتخابية على المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب، على إثر التخلي عن شروط الترشح القاسية السابقة، إذ نصت الصيغة المعدلة على أحقية مزدوجي الجنسية بالترشح للجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية.

كما لا تستبعد شروطُ الترشح العسكريين، فيما ينص أحد البنود على تقديم كافة المترشحين لإقرار بالاستقالة من مناصبهم، مع إمكانية العودة إليها في حال الفشل. وقد أتاحت تلك التعديلات تجاوز الحواجز أمام أشخاص بعينهم، وفتح الطريق لطيف أوسع من الشخصيات الاجتماعية والسياسية.

ويتعلق الأمر بالتخلي عن استبعاد كل من مزدوجي الجنسية والعسكريين من الترشح للانتخابات، وهو البند الذي كان اللواء خليفة حفتر (81 عاما) مُصرا على إلغائه كي يتسنى له الترشح. وربما كان هذا الإصرار هو الذي دفع المستشارة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز إلى تصنيف حفتر في خانة المعرقلين للحل السياسي.

لكن معلومات مؤكدة أتت من القاهرة، مفادها أن الاجتماع الذي استمر خمس ساعات، في العاصمة المصرية، انتهى إلى ما يُشبه المقايضة، التي «يتنازل» بموجبها الضابط المتقاعد، عن الترشُح للانتخابات الرئاسية، في مقابل ترشًح أحد أولاده للرئاسة.

وهذا يعني توريث الحكم في المنطقة الشرقية لأحد أبناء حفتر، وتحديدا صدام المكلف بالعلاقات مع روسيا واسرائيل والإمارات. مع ذلك يبدو أن ما يهمُ خليفة حفتر وعقيلة صالح حاليا هو تفادي إجراء استفتاء شعبي قد يُحظر بمقتضاه على العسكريين المباشرين وذوي الجنسية المزدوجة، الترشُح للانتخابات.

والأرجح أن الحضور المصري لاجتماعات القادة الليبيين في القاهرة غيرُ بعيد عن هذه المقايضة، التي تُقدمُ على أنها حلٌ لعقدة الوثيقة الدستورية. وفي الأصل يُعتبر الحضور المصري مُستغربا، لأن التقاليد في مثل هذه الحالات، لا تقتضي بالضرورة حضور الطرف المُضيف الاجتماعات الليبية الليبية، وهو عُرفٌ تقيد به المغاربة والتونسيون والجزائريون، على مدى السنوات الماضية، لدى رعايتهم اجتماعات من هذا النوع.

وفي هذا السياق لوحظ أن مصر والسعودية كانتا أول من بارك اتفاق رئيسي مجلسي النواب والدولة على اعتماد الصيغة المُعدلة لـ«الوثيقة الدستورية» التي تلتف على إجراء استفتاء شعبي على مشروع الدستور. وهذا ما قاله صالح في مقابلة مع قناة «القاهرة الإخبارية» مؤكدا أن أي قانون يصدر عن السلطة التشريعية يتعلق بنظام الحكم، فهو قاعدة دستورية يمكن البناء عليها.

حيلة قانونية

هكذا لجأ صالح وحفتر إلى حيلة قانونية، لتفادي إجراء استفتاء على دستور جديد، والاكتفاء بقاعدة دستورية يُعدل مجلس النواب بموجبها الإعلان الدستوري، الذي وضعه المجلس الوطني الانتقالي في 2011.

والجدير بالملاحظة أن هذه العملية تمت بعيدا عن الشفافية، في غرف مغلقة، من خلال اجتماعات صالح مع المشري ثم مع حفتر، ما أثار انتقادات واحتجاجات عديدة من المجتمع المدني.

أما الموضوع الثاني الذي تمحور حوله اجتماع القاهرة فهو توحيد المؤسسة العسكرية وضرورة إخراج المرتزقة من البلد، لكن الطرفين ظلا يتقاذفان المسؤولية عن استدعاء المقاتلين الأجانب، فاللواء حفتر لجأ إلى مساعدة قوات فاغنر الروسية، بالإضافة لمرتزقة تشاديين وسودانيين، وأوشك على الاستيلاء على طرابلس في 2019 فيما استنجدت الحكومة المعترف بها دوليا بالخبراء الأتراك ومعهم المقاتلون السوريون.

وأصبحت المجموعات المسلحة كابوسا مُقلقا للمواطنين، ليس فقط في طرابلس وإنما أيضا في مدن أخرى، ما جعل المحامية والناشطة السياسية والحقوقية ثريا الطويبي، تُشدد، في منشور عبر «فيسبوك» على «الضرورة الملحة لإخراج كافة المجموعات المسلحة والمعسكرات والآليات الحربية من المدن والتجمعات السكانية، حفاظًا على أرواح المدنيين».

من العناصر الجديدة التي ميزت المشهد السياسي الليبي في السنة المنقضية، عودة المجتمع المدني إلى مسرح الأحداث، بعدما انكفأت مكوناته على نفسها طيلة أعوام، بسبب سطوة الجماعات المسلحة والعنف في الغرب، وسيطرة أجهزة حفتر في المنطقة الشرقية والجنوب.

وتم استهداف كثير من النشطاء والناشطات بالخطف والقتل والاعتداءات الجسدية. وحضت عشرات الجمعيات والمنظمات الحقوقية والإعلامية و57 شخصية مستقلة، السلطات الليبية على ضمان الحقوق الدستورية، و«رفع القيود التعسفية على حرية التنظيم وتكوين الجمعيات الأهلية، والوفاء بالالتزامات الدولية».

وخصُوا بالنقد مفوضية المجتمع المدني، على إثر إصدارها مؤخرا تعميما حظرت بموجبه على المنظمات والأفراد المنتمين لها المشاركة في أي أنشطة خارج ليبيا، بما فيها التدريبات وورشات العمل، أو التعاون مع المنظمات الدولية أو تلقي الدعم منها.

واعتبرت مكونات المجتمع المدني تلك الإجراءات «قيودا تعسفية» مفروضة عليها، في سياق «حملة واسعة تستهدف ترهيب المجتمع المدني وتكميم أفواه المدافعين عن حقوق الإنسان» مشيرة إلى أن المجتمع المدني الليبي واجه مؤخرا «حملة ممنهجة تشنها بعض الأجهزة الأمنية ضد المدافعين عن حقوق الإنسان» من دون تحديد الأجهزة المقصودة. كما حضت المنظمات والشخصيات الموقعة على البيان مجلسَ النواب على إقرار مشروع قانون سبق أن أحالته إليه منظمات حقوقية وشخصيات عامة في تشرين الأول/اكتوبر 2021.

_____________

مواد ذات علاقة