محمد مختار

العقوبات والاضطرابات أفقدت البلاد ثلثي الإنتاج خلال 4 عقود

تتباين التقديرات اليوم حيال قدرة ليبيا على استعادة مكانتها النفطية في بلد مزقته السياسة وأثخنه البارود في عشرية الاقتتال والتشرذم، من بعد عهد كانت فيه لاعباً مؤثراً في أسواق النفط العالمية، حين قارب إنتاجها عام 1970 نحو 3.4 مليون برميل يومياً، لتتبوأ بذلك المركز الثاني عربياً بعد السعودية التي كانت تنتج آنذاك 3.8 مليون برميل.

بين من يرى البلد العربي الواقع في شمال أفريقيا اليوم قادراً على إنتاج 1.2 مليون برميل يومياً كما هي توقعات وكالة الطاقة الدولية بحلول 2028، ومن هو أكثر تفاؤلاً بقدرته على استخراج 1.5 مليون برميل يومياً مثل صندوق النقد الدولي قبل هذا الموعد بعامين، يعرب محللون عن اعتقادهم بأنه من غير المرجح أن يُنظر إلى البلاد على أنها مورد يمكن الاعتماد عليه ما دام أن تجاذباتها السياسية مستمرة، في وقت تبدو الأجسام السياسية أكثر ارتياحاً ببقاء الوضع على ما هو عليه حالياً من سيناريو الذهاب إلى الانتخابات، في ظل وجود حكومتين ومجلسين نيابيين وانقسام في المؤسسات والهيئات كافة بين حكومتي الشرق والغرب.

بعد مرور أكثر من نصف قرن، يبلغ إنتاج ليبيا الحالي 32 في المئة فقط من ذروته عام 1970، إذ سجل إنتاج البلاد النفطي في 2023 قرابة 1.1 مليون برميل يومياً، مما يجعلها في المرتبة 18 على مستوى العالم، في وقت تطمح إلى تحقيق إنتاج قدره مليوني برميل يومياً بحلول عام 2030.

أهداف من دون تحقيق

في 2017، أعلنت ليبيا عن هدف أكثر طموحاً يتمثل في إنتاج 2.2 مليون برميل يومياً بحلول عام 2023، لكن هذا الهدف لم يتحقق ليس بسبب ندرة النفط، بل على العكس من ذلك، تضاعفت احتياطات البلاد المؤكدة من النفط خلال الأعوام الـ 40 الماضية، مما جعلها صاحبة أكبر احتياطات من هذا القبيل في أفريقيا، مستحوذة على ما يقارب 40 في المئة من إجمالي احتياطات القارة.

لكن البلد الذي يشكل النفط عماده الاقتصادي بنسبة 98 في المئة من الإيرادات و60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، عانى حرباً أهلية منذ عام 2014 أدت إلى تدمير كبير في بنيته التحتية وضعف اجتماعي وفساد مؤسساتي، وهو ما كان له بالغ الأثر في معنويات المستثمرين.

يربط المحلل الاقتصادي الليبي يوسف مسعود بين واقع قطاع النفط في بلاده وما تشهده من فساد وأعمال تهريب وفق قوله، إذ يرى الثروة النفطية في ليبيا تعاني عمليات نهب واسعة، ويشير إلى أن من الشركات الأجنبية من يعي ذلك، لذا لم يدفع بعضها ما يستوجب دفعه لخزانة الدولة، مستشهداً في ذلك بتقرير ديوان المحاسبة لعام 2022.

وتحدث مسعود عما أسماه نهب الثروة النفطيةمن جانب تلك الشركات، ومن ذلك ما وجه به رئيس المؤسسة الوطنية للنفط السابق مصطفى صنع الله في شأن التحقيق في إهدار نحو 750 مليون دولار، وهو مبلغ يضاهي مخصصات دعم المحروقات (800 مليون دولار) في موازنة الدولة عام 2021، والتي ترغب حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة في إلغائه حالياً.

مستويات إنتاج متواضعة

وتظل مستويات الإنتاج في ليبيا متواضعة، فوفق مذكرة بحثية حديثة عن مركز الدراسات gis ومقره ليختنشتاين، فإن شركات النفط الكبرى لم تلتزم بعد رأس المال اللازم لتحقيق زيادة كبيرة في الإنتاج، وبمستويات الإنتاج الحالية، يمكن لاحتياطات البلاد من النفط أن تدوم ما يقارب 340 عاماً وهي الأطول في العالم، وما لم يتحسن مناخ الاستثمار بصورة جذرية، فمن المحتم أن تخسر البلاد أكبر قدر ممكن في تحول الطاقة، مع تعرض ثرواتها النفطية المحتملة لخطر كبير بأن تصبح عديمة القيمة.

في 1958، بعد سبعة أعوام من حصولها على الاستقلال عن فرنسا والمملكة المتحدة، حققت ليبيا أول اكتشاف نفطي، وبدأ الإنتاج بعد عام، وبحلول 1961، بدأت صادراتها النفطية وأصبحت عضواً في منظمة الدول المصدرة للنفط أوبكفي 1962، وبين عامي 1965 و1969، شهد إنتاج النفط الليبي نمواً ملحوظاً، وصل إلى ذروته في 1970.

وبعد رحيل حكم الملك إدريس السنوسي في الأول من سبتمبر (أيلول) 1969، أنشأ الرئيس الأسبق معمر القذافي، المؤسسة الوطنية للنفط في البلاد عام 1970، وبعد ثلاث سنوات أمم الصناعة التي كانت تديرها في المقام الأول شركات أجنبية، مما خلق عداء تجاه الحكومات الغربية، وظهور صلات جمعت النظام السابق بالجماعات الإرهابية، أدت إلى فرض مجموعة أولية من العقوبات على البلاد في 1978.

ومع ذلك، كان تفجير طائرة ركاب تابعة لشركة بان آمفوق لوكربي بإسكتلندا في ديسمبر (كانون الأول) 1988 السبب في العزلة الأكثر خطورة للبلاد، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 1991 وجهت المحاكم الإسكتلندية والأميركية الاتهام إلى اثنين من عملاء الاستخبارات الليبية بتورطهما في الهجوم، وعلى رغم الاتهامات رفض نظام القذافي تسليمهما، مما أدى إلى فرض عقوبات الأمم المتحدة على ليبيا التي أثرت بصورة رئيسة في الاستثمار بقطاع النفط.

وإلى أن خففت العقوبات عام 2004، في أعقاب تفكيك أسلحة الدمار الشامل الليبية وبرامج تطوير الصواريخ طويلة المدى، كافح إنتاج النفط ليتجاوز 1.5 مليون برميل يومياً، ودعم تخفيف العقوبات عودة شركات النفط العالمية، مما أدى بدوره إلى زيادة الإنتاج.

وبينما بدأت الأمور تبدو أفضل دخلت ليبيا فترة أخرى من عدم الاستقرار في أعقاب انتشار أحداث 2011 وإطاحة حكم القذافي، مما خلف فراغاً سياسياً في البلاد، استغلت خلاله منشآت وحقول إنتاج النفط كورقة ضغط بين الأطراف السياسية المتناحرة، ليهبط إنتاج ليبيا إلى مستوى منخفض بلغ 500 ألف برميل يومياً في ذلك العام.

الانقسام السياسي يضعف القطاع

ولا تزال البلاد منقسمة سياسياً مع وجود حكومتين متنافستين، واحدة في طرابلس والأخرى في شرق ليبيا، تدعم كل منهما قوى مختلفة مؤثرة في المنطقة، وتوزعت في ما بينهما مرافق إنتاج وتصدير النفط، إذ أصبح ميناءي السدرة ورأس لانوف حيث 42 في المئة من قدرة تصدير النفط الليبي تحت سيطرة حكومة الشرق، في حين احتفظت حكومة الغرب بمنشأتي التصدير الزاوية ومليتة، بما تمثلانه من 28 في المئة من صادرات البلاد.

ووسط هذا الانقسام حوصرت الحقول للمطالبة بحصة أكبر من عائدات النفط أو لتحقيق مكاسب سياسية، وكانت إحدى هذه الحوادث الحصار الذي دام 10 أشهر في 2020 بقيادة حكومة الشرق، مما قلص بشدة إنتاج البلاد.

لكن على رغم أن هناك درجة من الاستقرار منذ ذلك الحين، ترى رئيسة مركز الأبحاث كريستول إنرجيومقره لندن كارول نخلة أن احتمال وقوع مثل هذه الحوادث مرة أخرى يظل قائماً ما دام أن حكومة موحدة غائبة عن البلاد.

وتقول اعترافاً بهشاشة الوضع، أعفت أوبك ليبيا من التزام أي حصص، إذ مثلت المشكلات السياسية التي تعيشها البلاد كلفة باهظة، إضافة إلى الخسائر الاقتصادية والبشرية، فتآكل تأثير ليبيا في أسواق النفط العالمية مع خسارة حصتها في السوق من سبعة في المئة عام 1970 إلى 1.2 فقط عام 2022، وحل محلها لاعبون آخرون. على سبيل المثال، كانت لدى العراق، أحد أقران أوبك والدولة التي يصنفها صندوق النقد الدولي على أنها هشة، عام 1965 حصة السوق نفسها تقريباً داخل المنظمة مثل ليبيا (حوالى 10 في المئة)، لكنه تمكن من زيادة حصته إلى حوالى 13 في المئة بحلول عام 2022، وانخفضت حصة ليبيا في منظمة أوبك إلى ثلاثة في المئة فقط“.

ولا تزال ليبيا اليوم دولة مصدرة للنفط ذات أهمية كبيرة، خصوصاً بالنسبة إلى أوروبا التي تستحوذ على معظم الإنتاج الليبي، نظراً إلى القرب الجغرافي والعلاقات التاريخية، إذ تمثل 71.5 في المئة من صادرات النفط الليبية عام 2022، بينما يتجه ما يقارب 20 في المئة إلى آسيا والمحيط الهادئ والبقية إلى أميركا الشمالية، وفي ذلك العام، كانت ليبيا سادس أكبر مورد للنفط الخام إلى الاتحاد الأوروبي بعد روسيا والولايات المتحدة والنرويج وكازاخستان والعراق.

تراخيص استكشافية طموحة

وتخطط المؤسسة الوطنية للنفط في 2024 لإطلاق جولة تراخيص للنفط والغاز، وهي الجولة الأولى من نوعها منذ 17 عاماً، وستوجه تراخيص التنقيب لشركات النفط العالمية، وفق ما صرح به وزير النفط والغاز في حكومة الوحدة الوطنية محمد عون، مشيراً إلى أن بلاده ليست تجابه عودة الشركات العالمية، لكن يتعين على الشركات أن تأتي للتنقيب، وليس في الحقول المكتشفة بالفعل.

وقبل الحرب الأهلية، اجتذبت ليبيا مجموعة متنوعة من المستثمرين، بما في ذلك شركات النفط الأوروبية الكبرى مثل إينيالإيطالية وريبسولالإسبانية وتوتال إنيرجيزالفرنسية، وشركات أميركية كبرى مثل كونوكو فيليبسوإكسون موبيل، ولاعبين آخرين (سوناطراك الجزائرية، وغازبروم الروسية، وتاتنفت) مع بقاء إينياللاعب الأبرز.

ومع بداية الحرب الأهلية عام 2012، انسحبت شركات مثل شلوإكسون موبيلفي حين استمرت شركات أخرى في القيام بأدوار مهمة مثل شركة إينيالإيطالية التي تعمل في ليبيا منذ عام 1959، وتعتمد على البلاد في ما يقارب 10 في المئة من محفظة إنتاجها، وتتركز معظم حصصها في الحقول الواقعة في الجزء الغربي من البلاد.

وفي نهاية العام الماضي، أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا أن شركة إيني، إلى جانب شركتي بريتيش بتروليومالبريطانية وسوناطراكالجزائرية، تخطط لاستئناف أنشطة الاستكشاف والتعاقد في البلاد بعدما تحسن الوضع الأمني، كما أعلنت شركة أو أم فيالنمسوية عن نيتها استئناف عملياتها بحلول فبراير (شباط) 2024.

لكن مع ذلك، تعتقد كارول نخلة بأن أخطار ممارسة الأعمال التجارية في ليبيا لا تزال مرتفعة، إضافة إلى الأخطار السياسية والأمنية الملحوظة، فلا تزال البلاد تعاني سوء الإدارة، بخاصة في قطاعي النفط والغاز.

ووفقاً لمؤشر معهد حوكمة الموارد الطبيعية، فإن ليبيا هي الأسوأ حكماً بين دول أوبكالـ 13 وغيرها من منتجي النفط العالميين، وتدهور أداء البلاد على مؤشرات البنك الدولي للحوكمة في العقد الماضي.

وتختتم المحللة الاقتصادية أنه نتيجة لذلك، سيتعين على ليبيا أن تقدم شروطاً جذابة للمستثمرين لتعويضهم عن الأخطار الكبيرة التي قد يتعرضون لها، ستدعم عودة شركات النفط العالمية نمو الإنتاج في ليبيا، لكن الوصول إلى مليوني برميل يومياً من الإنتاج يبدو طموحاً إلى حد ما“.

ومن المتوقع أن يظل انطلاق قطاع النفط في ليبيا حبيس التوتر السياسي والتأزم الذي تعيشه البلاد منذ 2011، مما يرجح أن تظل أهداف المؤسسات الحاكمة للقطاع النفطي في ليبيا حبراً على ورق، ما لم تترافق مع استقرار سياسي وأمني واقتصادي في الفترة المقبلة.

________________

مواد ذات علاقة