الدكتور ‬‬‫أبوبكر‬‫خليفة‬ ‫‫أبوجرادة

ملخص:

عملية التكامل بين الانتخابات والمصالحة تلعب دورا حاسما في تعزيز التحول الديمقراطي في ليبيا. فإن تحقيق المصالحة الوطنية يسهم في خلق بيئة سياسية مستقرة ومواتية لإجراء انتخابات حرة ونزيهة.

ومن خلال المشاركة الشاملة في العملية الانتخابية، يمكن للشعب الليبي تحديد ممثليهم وإقامة حكومة شرعية قادرة على تحقيق الاستقرار وتعزيز حقوق الإنسان وبناء المؤسسات ديمقراطية قوية في البلاد.

المقدمة

ليبيا، كباقي البلدان التي شهدت صراعات داخلية عنيفة، تحتاج بشدة إلى عملية مصالحة وانتخابات لتحقيق الاستقرار والسلام وبدء عملية إعادة بناء البلاد. فمنذ الانتفاضة الليبية في عام 2011، تعرضت ليبيا لفترة طويلة من الصراعات المسلحة والتوترات السياسية والاقتصادية، مما أدى إلى تفكك هياكل الدولة وتدهور الأمن وانعدام الاستقرار.

إن المصالحة الوطنية تعني إحلال السلام والمصالحة بين الأطراف المتنازعة وتعزيز الوحدة الوطنية، وتشمل هذه العملية عادة الحوار والمفاوضات السياسية للتوصل إلى اتفاق شامل يعترف بحقوق جميع الأطراف، وينص على تقاسم السلطة والموارد

من جهة أخرى، تلعب الانتخابات دورا حاسما في إعادة بناء البلاد، حيث تمثل فرصة لتحقيق التغيير السلمي واختيار القادة والمؤسسات السياسية بطريقة شرعية وديمقراطية، يتمكن الشعب الليبي من التعبير عن أرائه وتطلعاته والمشاركة في صنع القرارات المستقبلية للبلاد.

بالإضافة إلى ذلك، تعزز الانتخابات الديمقراطية والشفافة الثقة بين الأطراف المتنازعة وتسهم في بناء مؤسسات قوية وموثوقة، وتعمل الانتخابات أيضا على تعزيز مفهوم حكم القانون واحترام حقوق الانسان، حيث يتم توفير فرصة للمواطنين للاختيار والمشاركة في العملية السياسية.

إن إعادة بناء ليبيا يتطلب تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية وأمنية شاملة، ويجب على الحكومة الليبية العمل على تعزيز الوحدة الوطنية والمصالحة، وتعزيز العدالة ومحاسبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم خلال النزاعات السابقة.

بالإضافة إلى ذلك، يجب تعزيز القدرات المؤسيية وتحسين الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية.

من الواضح أن الطريق إلى إعادة بناء ليبيا ليست سهلة وستحتاج إلى جهود كبيرة من جميع الأطراف المعنية. إلا أن العزم، من خلال التوافق والتعاون والالتزام بالعملية السياسية، يمكن لليبيا تحقيق الاستقرار والسلام والبدء في إعادة بناء البلاد، وتحقيق تطلعات شعبها في الحرية والازدهار والعدالة.

المحور الأول: الإنتخابات وأثرها على الاستقرار السياسي في ليبيا

أولا: الإنتخابات الإطار النظري“: المفهوم ـ الأدوار

تعد المشاركة السياسية ضرورية لكل دولة لأنها تسهم في تحقيق الوحدة الوطنية والاندماج بين أفرادها وتعطي الشرعية للنظام الحاكم ومزيدا من الاستقرار للمجتمع والمساواة في توزيع الموارد بين سكان البلد الواحد، بغض النظر عن انتماءاتهم مما يفضي إلى ترسيخ الحقوق السياسية على قدم المساواة، وتعزيز حق الشعب في صياغة السياسات العامة للدولة.

وتعد الانتخابات من مؤشرات وجود النظام الديمقراطي المستند إلى المشاركة السياسية، وهي خطوة محسوبة لتعزيز المسار الديمقراطي، وتحقق مهمتين رئيسيتين هما: (أ) إعطاء الشرعية للذين يمارسون السلطة. (ب) تحفيز الإحساس والشعور لدى المحكومين بإنتمائهم للمجموع من خلال الممارسة الجماعية.

إن الانتخابات سواء كانت رئاسية أو تشريعية أو محلية هي أداة للمشاركة السياسية الدورية، أداة للتعبير عن الإرادة الشعبية، ووسيلة يمارس من خلالها الشعب سيادته في اختيار ممثليه في ظل الأنظمة الديمقراطية، فالانتخابات إداة سياسية من أدوات تجسيد الديمقراطية النيابية غير المباشرة، إذ من خلالها يختار الشعب حكامه وممثليه في المجالس النيابية، ومن خلاله أيضا يستشار في القضايا الجوهرية، كما أنها آلية مؤسسية لتداول السلطة بشكل سلس وتجديد النخبة السياسية.

تعتبر الانتخابات من ضرورات التحول الديمقراطي، كما تعتبر المدخل الأساسي والأهم في عملية الإصلاح والتغيير، وتشكل الانتخابات الآلية السلمية والمشروعة للتداول السلمي للسلطة، ومن أجل تمثيل مختلف التوجهات السياسية والأيديولوجية في المجتمع وتمثيلها في السلطة، وذلك عبر الاعتراف بها والسماح لها بالمشاركة في الانتخابات، مما يحقق الإستقرار السياسي وصحة التمثيل.

أي أن الانتخابات هي أداة قانونية تحسم التناقضات والصراعات القائمة في المجتمع، كما أنها تعد مؤشرا جيدا على مدى التطور الديمقراطي. ويتضمن النمط الديموقراطي عناصر رئيسية: تعيين الحكام بالانتخاب الشامل، ووجود برلمان يملك صلاحيات واسعة، وتراتبية القواعد القانونية التي تضمن رقابة قضاة مستقلين للسلطات العامة، والقصد النهائي هو منع السلطة السياسية من الاستحواذ على القوة الزائدة عن الحد، وذلك بهدف الحفاظ على حريات المواطنين.

وبعد الانتخاب الأداة الوحيدة للشرعية الديمقراطية، إذ يقوم المواطنون بإختيار من يباشرون مظاهر السيادة نيابة عنهم ولمدة محدودة، إلا أن الأخذ بأسلوب الانتخاب لا يعد معيارا كافيا لوصف نظام سياسي بأنه ديمقراطي، وإنما يجب

توافر شروط جوهرية أخرى ترافق العملية الانتخابية، لعل أهمها أن يكون هناك تنافس سياسي بحرية ودون قيود\ بين المرشحين، فضلا عن ضمان إنتخابات نزيهة لا تطالها شبهة التزوير، فإذا توافر ذلك نستطيع القول أن صوت الناخب

أصبح مجديا ومؤثرا، إذ سيكون قادرا على إسقاط مرشح ومنعه من الوصول إلى مركز القرار، والعكس صحيح في حال عدم توافر تلك الشروط.

ثانيا: الانتخابات الليبية ـ الإطار العملي

في مجتمعات الصراع وما بعد الصراع كليبيا، غالبا ما تلعب الانتخابات دورا حاسما في عملية بناء السلام والتحول الديمقراطي، وينظر إليها على أنها وسيلة لإنشاء هياكل

حكم شرعية، وتشجيع المشاركة السياسية، وتعزيز المصالحة بين المجموعات المختلفة داخل المجتمع، ويمكنها أن تساعد في توفير منصة للحوار والتفاوض، مما يسمح لمختلف الفصائل بالتنافس سلميا على السلطة السياسية.

حيث تلعب الانتخابات دورا حاسما في عملية الحوار وصنع السلام وتعزيز الاستقرار في ليبيا. ومن الأدوار التي يمكن أن تلعبها الانتخابات في هذه العملية في هذا الإطار:

ـ تعزيز الشرعية السياسية: فمن خلال الانتخابات، يتم تمكين الشعب الليبي من اختيار ممثليه السياسيين بطريقة دمقراطية وبذلك تعزز الانتخابات الشرعية وتمنح الحكومة والمؤسسات السياسية القوة والمصداقية للتعامل مع التحديات واتخاذ القرارات.

ـ تشجيع الحوار والتوافق: يمكن أن تكون العمليات الانتخابية مناسبة للتشاور والحوار بين الاطراف المختلفة كما يمكن للمرشحين والأحزاب السياسية المشاركة في الحملات الانتخابية وتبادل الأفكار والرؤى، مما يعزز التوافق ويشجع على التعاون بين الأطراف المتنافسة.

ـ تعزيز المصالحة الوطنية: يمكن أن تكون الانتخابات فرصة للمصالحة الوطنية، والتحول من النزاعات المسلحة إلى عملية سياسية، فمن خلالها، يمكن للأطراف المتنازعة التعبير عن أرائها ومصالحها بشكل سلمي، والمشاركة في بناء مستقبل ليبيا المشترك.

ـ إرساء ديناميكية الديمقراطية: يمكن أن تسهم الانتخابات في إرساء ديناميكية الديمقراطية في ليبيا، فمن خلال المشاركة الشعبية في عملية الانتخابات وتجربة الحكم الديمقراطي، يمكن تعزيز الثقافة الديمقراطية والمشاركة المدنية واحترام حقوق الإنسان.

ـ تعزيز الاستقرار والثقة: عن طريق إجراء انتخابات نزيهة وشفافة وموثوقة، يمكن أن تسهم الانتخابات في بناء الاستقرار واستعادة الثقة بين الحكومة والشعب. فالاستقرار المتين يمكن أن يساهم في تعزيز الأمن والاستقرار العام في ليبيا.

من المهم أن تتم الانتخابات بشكل شفاف وعادل، وأن يتم احترام إرادة الناخبين وضمان مشاركة جميع الأطراف بمن فيهم الأقليات، كما يجب أن يتم دعم العملية الانتخابية من قبل المجتمع الدولي وفريق الأمم المتحدة لضمان النجاح والشرعية الدولية للانتخابات في ليبيا.

وبالرغم من أن الاستحقاق الإنتخابي في ليبيا الجديدة قد تأخر بشكل ملحوظ، حيث يلاحظ طول أمد المرحلة الانتقالية تمشيا مع ما نص عليه الإعلان الدستوري المؤقت لعام 2011، إلا أن الأحداث والشواهد تؤكد على إجراء إنتخابات ليبية نزيهة وشفافة خلال إنتخابات المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب الليبي عامي 2012 و 2014، وخلال انتخابات لجنة صياغة الدستور أو لجنة الستين في عام 2015، أو خلال انتخابات المجالس البلدية في أرجاء ليبيا المختلفة.

وذلك على الرغم من الصراعات التي ترتبت عليها، لأسباب متعددة ومن بينها تفاقم التدخل الخارجي وحدّة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، ورغم كل هذا فالانتخابات المختلفة رسخت إلى حد كبير الثقافة الانتخابية لدي الليبيين، وظهر ذلك في الإقبال الملحوظ لليبيين على المشاركة في الانتخابات التي كانت ستجري في نهاية 2021، حيث بلغ عدد الناخبين المسجلين في الانتخابات الليبية التي كان مزمعا إجراؤها أكثر 2 مليون و 700 ألف مواطن.

ويمكن أن يعزى هذا الإقبال لثلاثة أسباب وهي:

1ـ رغبة في تغيير الطبقة السياسية: يشعر الليبيون بأن الطبقة السياسية الحالية تعوق تقدم إعادة بناء البلاد على المستويات السياسية والاقتصادية، ومن خلال المشاركة في الانتخابات، يأمل الناخبون في إحداث تغيير حقيقي وتحسين الحكم والإدارة.

2ـ التوجه نحو وحدة واستقرار ليبيا: يعتقد الكثيرون أن الانتخابات الديمقراطية الناجحة يمكن أن تساهم في تحقيق الاستقرار والوحدة في ليبيا، فبوجود حكومة واحدة ومؤسسات أمنية وعسكرية موحدة، يمكن للبلاد التصدي للتحديات المستقبلية والقضاء على تأثير المليشيات المسلحة.

3ـ توحيد المؤسسات السيادية: يسعى الليبيون إلى توحيد المؤسسات السيادية المنقسمة في البلاد، مثل مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط من خلال الانتخابات، وقد يتم تشكيل حكومة تتمتع بالشرعية والقدرة على إعادة بناء هذه المؤسسات وتحقيق النتمية الاقتصادية والاستقرار.

بشكل عام، يعكس الاهتمام المستمر بعملية الانتخابات والمشاركة الواسعة لليبيين فيها رغبتهم في تحقيق تقدم سياسي واقتصادي واجتماعي في البلاد، ومن المهم أن تتواصل الجهود الدولية والمحلية لتعزيز العملية الديمقراطية في ليبيا ودعم استقرارها على المدى الطويل

يتبع

***

د.‬‫‪ ‬‬‫أبوبكر‬‫خليفة‫‫أبوجرادة ـ ‬‬‫أستاذ ‬‫العلوم‬ ‫السياسية‬ ‫بكلية‬ ‫الاقتصاد‬ ‫والعلوم‬ ‫السياسية‬ ‫ـ‬ ‫جامعة ‬‫وادي‬ ‫الشاطئ‬ ـ ليبيا

_____________

المصدر: دراسة للكاتب بعنوان ‬‫عملية ‬‫التكامل‬ ‫بين‬ ‫الانتخابات‬ ‫والمصالحة‬ ‫ودورها‬ ‫في‬ ‫تحقيق‬ ‫الاستقرار‬ ‫السياس‬‫ي‬ ‫والوحدة‬ ‫في‬ ‫ليبياـ المجلد السادس ـ العدد 24 ـ يناير 2024 ـ مجلة الدراسات الإفريقية وحوض النيلالتي تصدر عن المركز الديمقراطي العربي ـ برلين ألمانيا.

مواد ذات علاقة