محمد بدر الدين زايد

تثير فرنسا ضجيجاً منذ تدخلها وقيادتها الناتوفي إطاحة القذافي وهو ما يقلق جارتها إيطاليا. لا تتوقف محاولات تحريك الموقف المتجمد في ليبيا منذ سنوات عدة، وهو التجمد الذي أعقب تراجع قائد الجيش الليبي خليفة حفتر إلى مناطق سيطرته في الشرق والجنوب، وأخيراً ظهر ما سمي بالمبادرة الفرنسية.

ثم أدلى المبعوث الأممي عبدالله باتيلي بإفادته الروتينية في مجلس الأمن، وفي الوقت نفسه واصل رئيس حكومة الشرق أسامة حمادة هجومه على باتيلي ومطالبة الأمم المتحدة باستبداله، وفي الحقيقة أن ثمة خللاً يتعمق في هذا البلد وكذلك تطورات مكتومة ولكنها في جميع الأحوال تدور في منطقة وعالم مشغول أكثر بالموقف المتفجر في غزة.

التحرك الفرنسي

اعتادت الدبلوماسية الفرنسية تاريخياً إطلاق المبادرة تلو الأخرى ومحاولة استثمار هذا في استعادة دور ومكانة باريس، ولكن ما يحدث في السنوات الأخيرة يثير تساؤلات كثيرة، وعموماً في حدود ما تم إعلانه فإن التحرك الفرنسي يقوم به مبعوث الرئيس الفرنسي بول سولير وسفير فرنسا لدى ليبيا مصطفى بهراج.

والواضح منه حتى الآن سلسلة من المشاورات بدأتها في باريس خلال الأسبوع الأول من فبراير (شباط) الجاري، وتضمن نحو 30 سياسياً ليبياً معظمهم من وزراء سابقين وأهمهم المرشح الرئاسي السابق في انتخابات لم تعقد محمد الغويل، ووزير الداخلية السابق فوزى عبدالعالي، ووزير الصحة السابق ناجي بركات، ونائب وزير الإعلام السابق خالد نجم.

وواصلت فرنسا حديثها عن خطوات أخرى ربطتها بتهيئة المجال لعقد انتخابات رئاسية وبرلمانية، وأحاط مبعوثها لقاءه رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي بضجة إعلامية وكأنه سيتبع هذا بخطوات عديدة.

والمشكلة أن فرنسا فضلاً عن تعدد مبادراتها السياسية التي لم تنجح في ليبيا وغيرها من دول العالم تثير ضجيجاً مبالغاً فيه منذ تدخلها وقيادتها دول الناتو في إطاحة معمر القذافي، وهو دور أثار قلق إيطاليا جارتها ومنافستها اللدود في ليبيا تاريخياً، التي اعتادت أيضاً انتقاد باريس بشكل بالغ المرارة عند كل تحرك تقوم به الأخيرة في البلد الشمال أفريقي.

ومع التقدير بأن لفرنسا وإيطاليا مكانة في مجال النفط الليبي إلا أن الشواهد في السنوات الأخيرة تشير إلى أن تنافس البلدين لم يثر إلا زوابع فارغة، وأن كليهما لا يملك كثيراً من أدوات التأثير في المشهد الليبي. ويكتمل المشهد بتصريحات أدلى باتيلي بها لإحدى المحطات العربية، قال فيها إن باريس لم تنسق معه في شأن هذا الحديث المرسل عن مبادرتها.

إفادة باتيلي

ومن ناحية أخرى قدم المبعوث الأممي عبدالله باتيلي إفادته الدورية لمجلس الأمن، أول من أمس الخميس، إذ حذر من استمرار الانقسام بين المؤسسات الوطنية الليبية في شرق البلاد وغربها مع عدم وجود موازنة وطنية معتمدة لتوجيه الإنفاق العام، بما يؤدي إلى استمرار غياب الشفافية في استخدام التمويل العام والتوزيع غير العادل لثروات البلاد، كما أنه يزيد من تعرض الاقتصاد الليبي للاضطرابات الداخلية والخارجية، مشيراً إلى استمرار معاناة المنطقة الجنوبية منذ فترة طويلة من التهميش السياسي والاقتصادي الذي يجب معالجته.

وربما تكون الإيجابية تتمثل في أمرين، هما عدم تسجيل أية انتهاكات لاتفاق وقف إطلاق النار منذ آخر إحاطة لمجلس الأمن، ولكنه أشار أيضاً إلى أن التقدم في تنفيذ بعض أحكام الاتفاق سابق الذكر ما زالت تواجهه عراقيل بسبب الجمود السياسي. أما الإيجابية الثانية فتتمثل في عودة مئات عدة من المرتزقة التشاديين والمقاتلين الأجانب في إطار تنفيذ اتفاقية السلام التشادية التي وقعت في الدوحة أغسطس (آب) 2022.

ومن ناحية أخرى حذر المبعوث من استمرار المنافسات بين الجهات الأمنية في طرابلس، داعياً قادة البلاد إلى تنحية مصالحهم الذاتية جانباً والجلوس للتفاوض بحسن نية لمناقشة كل القضايا المتنازع عليها، وأن هناك حاجة ماسة إلى اتفاق سياسي بين أصحاب المصلحة الرئيسة لتشكيل حكومة موحدة تقود البلاد إلى الانتخابات.

وكان باتيلي في حواره الإعلامي سابق الذكر في شأن المبادرة الفرنسية لفت الانتباه إلى أن كل المؤسسات الليبية فقدت شرعيتها منذ أعوام، وذكر أنه على رغم عدم التنسيق فإنه يدعم أي تحرك يجنب البلاد مزيداً من الانقسام ويكرس إطلاق الحوار وينهي حالة سباق التسلح بين الجماعات المسلحة.

المشهد الليبي بين الجمود والتكريس

يمكن وصف المشهد الليبي الحالي بأنه قد أصبح محصوراً بين بعدين بالغي الخطورة، هما تكريس أوضاع قائمة غير سوية، وفي الوقت نفسه جمود وعدم مقدرة الأطراف واللاعبين الخارجيين المؤثرين في المشهد على التأثير في اتجاه الخروج من المأزق الراهن على رغم وجود بعض التطورات اللافتة.

ففي الغرب تواصل القوى المسيطرة تكريس هيمنتها ونفس الممارسات المتكررة خلال أعوام من تنافس وأحياناً حتى اشتباكات مسلحة بين الفصائل والميليشيات والجهات الأمنية المتعددة، مع وضوح أن وحدتها ستحدث لحظة المواجهة مع الجيش الليبي المسيطر شرقاً. ويسير جنباً إلى هذا تكريس للوجود التركي السياسي بكل صوره السياسية والعسكرية والاقتصادية.

وفي الشرق تواصل القوى المعارضة للإسلام السياسي تكريس نفوذها وتأكيد معارضتها بصورة أوضح للمبعوث الأممي، ويكرر رئيس الوزراء المنبثق من مجلس النواب الليبي أسامة حمادة انتقاده باتيلي والدعوة إلى تغييره، وتتكرس مظاهر التحرك والعمل الحكومي المستقل عن العاصمة طرابلس.

وتتكرس في كل المعسكرين مظاهر المصالح الشخصية، وأخيراً أثار تعيين نجل خليفة حفتر السيد بلقاسم مديراً عاماً لصندوق إعادة إعمار ليبيا كثيراً من اللغط والاستياء في أوساط الغرب، ومن أهمها إدانة رئيس مجلس الدولة محمد تكالة هذه الخطوة.

وفي كل هذه الحوارات يواصل الجميع تجاهل أمرين رئيسين لا يمكن من دونهما تحريك الموقف السياسي في ليبيا، الأول وضع الميليشيات المسلحة والمرتزقة الأجانب والثاني معضلة الوجود التركي الذي يترسخ ويصعب التعامل معه مستقبلاً.

فعلى رغم إشارة إفادة المبعوث الأممي إلى المرتزقة الأجانب، فإنه ما زال يتحدث عن الأمر كأمر ثانوي وكأن مجرد جمع الأطراف السياسية كاف في ذاته لاحتواء هذا الملف الخطر وهو أمر بعيد تماماً من الصحة، بل وتبدو بعض الأطراف السياسية وكأنها هي التابعة لهذه القوى المسلحة، وفي تقديرنا أن معضلة الميليشيات هذه تحتاج إلى رؤية شاملة وحلول تخضع للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة للتعامل معها.

أما الأمر الثاني أي الوجود التركي وتغلغله في المنطقة الغربية، فلا يمكن التعامل معه أيضاً إلا من منظور شامل يتعلق بحالة السيولة الدولية وتعاظم دور القوى المتوسطة، كما يجب تذكر أنه في ظل الأوضاع الدولية الراهنة تحرص كل القوى على تعبئة أوراقها والتمسك بما حققته من نفوذ إقليمي، ومن ثم يؤدي هذا إلى تأخير أي تسويات للأزمات والصراعات المفتوحة الجارية.

ومع كل ذلك فإن هناك تطورات لافتة أهمها الانفتاح المصري التركي، وقد يفتح هذا باباً لطريق طويل مع تراجع القوى العظمى بما يؤدي إلى مقايضات وترتيبات بين الأطراف الإقليمية والدولية لإنتاج مخرج من هذه الورطات، وهو أمر يحتاج إلى بعض الوقت ليكتمل نضجه.

________________

مواد ذات علاقة