رشيد خشانة

آخر المُحذرين من توسُع الانتشار العسكري الروسي في منطقة الساحل والصحراء، هو قائد قيادة العمليات في الجيش الألماني، بيرند شوت.

والظاهر أن في جعبة المسؤول العسكري الألماني، معلومات دقيقة عن الخطط الروسية، التي تسعى، وفقا لقوله، إلى إقامة «حزام بري يمكن أن يمتد من المحيط الأطلسي غربا إلى البحر الأحمر شرقا».

في هذا الإطار لاحظ خبراء أن روسيا تنشط حاليا في مالي وبوركينا فاسو وليبيا، إلى جانب مؤشرات على بداية «تعاون» مع تشاد، فضلا عن دخول قوات مجموعة «فاغنر» المُرتبطة بالكرملين، على الخط منذ العام 2016.

وقد شاركت هذه القوات في الحرب التي شنها القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء المتقاعد خليفة حفتر على العاصمة طرابلس في نيسان/ابريل العام 2019. وساهم الوجود الروسي في تقويض بعض التجارب الديمقراطية الغضة في المنطقة، بواسطة الانقلابات العسكرية، التي شهدها غرب أفريقيا في الأعوام الأخيرة، ما وسع من دائرة نفوذ روسيا، إذ حلت محل دول غربية عدة انسحبت من المنطقة.

وبرهن الانهيار السريع للنظام الديمقراطي في مالي، في ربيع العام 2012 على هشاشة ذلك النظام المدعوم من فرنسا. وذهب الخبير صديق أبا إلى عقد مقارنة بين اضطرار القوات الأمريكية للانسحاب من أفغانستان وانسحاب قوات «سرفال» الفرنسية من مالي، بعد نحو عشر سنوات من إطلاق تلك العملية.

وأكد أبا في كتاب أصدره أخيرا تحت عنوان «مالي/الساحل: أفغانستانونا» أن الوضع في مالي ما انفك يتدهور أكثر فأكثر، طيلة السنوات العشر الأخيرة، وأن المنظار الأمني لم يعد زاوية الرؤية الوحيدة لتحليل الصراع في منطقتي الساحل والصحراء.

وفي جميع الأحوال يتفق غالبية الخبراء في شؤون المنطقة على أن الرد العسكري لا يمكن أن يُعوض الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية لإبعاد السكان المدنيين عن تأثير الجماعات المسلحة.

ويقول أبا إن الأهداف المحددة للتدخل العسكري في أفغانستان، كما التدخل الفرنسي في شمال مالي، آلت إلى فشل، إذ قرر الأمريكيون في 2001 القضاء على نظام طالبان والحؤول دون تحوُل البلد إلى «كعبة للجماعات الجهادية».

لكن ما أن سحبوا قواتهم في صيف العام 2021 حتى عاد طالبان إلى الحكم في كابول، واستمر البلد قاعدة خلفية للجماعات المسلحة. وأهم مؤشر على ذلك أن مقتل زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري، تم في كابول صيف العام 2022.

أما الفرنسيون فبالرغم من اعتبار رئيسهم الأسبق فرنسوا أولاند، أن عملية «سرفال» في مطلع 2013 كانت نجاحا عسكريا، فإن عملية «برخان»،التي أعقبتها في العام التالي، بُغية القضاء على الإرهاب في منطقة الساحل، كانت أيضا فشلا ذريعا.

فالأعمال الإرهابية زادت وتوسع نطاقها ليشمل بوركينا فاسو والنيجر. كما اعتُبرت البلدان المطلة على خليج غينيا، وهي ساحل العاج وبنين وتوغو، واقعة تحت تهديد إرهابي.

وتستثمر روسيا والمجموعة الأمنية «فاغنر» خيبة الأمل من فرنسا المنتشرة بين سكان بلدان الصحراء، لكي تتوسع وتقيم قواعد في المنطقة. ويذكر سكانٌ في شمال مالي، على سبيل المثال، أنهم كانوا يشاهدون قوافل الجيش الفرنسي تمرُ على مقربة من قراهم وبيوتهم، من دون أي تواصل معهم.

وبلغة الأرقام فقدت السلطات المالية السيطرة على ثُلُثي مساحة البلد، بينما لم تكن المساحة الواقعة تحت نفوذ الجماعات المسلحة، تتجاوز الجزء الشمالي من البلد فقط.

ويُرجح خبراء أن الروس يستعينون باللواء حفتر للدخول إلى عدة بلدان أفريقية، من بينها السودان، حيث تقاتل قوات القائد العسكري الليبي إلى جانب قوات الدعم السريع، المتمردة على الدولة.

عسكريون أمريكيون في طرابلس

وفي ما يُشبه الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا، سارعت واشنطن أخيرا إلى اقتراح تنظيم دورات تدريبية لضباط الجيش الليبي وجنوده، في غرب ليبيا «من أجل الرفع من مستوى قدراتهم العسكرية والقتالية» على ما قال رئيس أركان الجيش التابع لحكومة الدبيبة الفريق أول ركن محمد الحداد.

وناقش الحداد هذه المسألة مع عسكريين أمريكيين في طرابلس، غير أن غياب جيش ليبي نظامي ومحترف جعل الأمريكيين يتعاطون في هذه المسألة مع قائدي جماعتين مسلحتين هما «اللواء 444 قتال» و« لواء111 مُجحفل» اللتين تحميان حكومة الوحدة الوطنية.
اللافت أن القائم بأعمال السفارة الأمريكية في ليبيا وضابط من الملحقية العسكرية بالسفارة، زارا أيضا مقر قيادة اللواء المتقاعد حفتر في بنغازي، وأجريا «مناقشة مثمرة مع كبار المسؤولين في الجيش الوطني الليبي (قوات حفتر) في بنغازي» على رأسهم نجله خالد، الذي يقود مع شقيقه صدام، وصهرهما أيوب الفرجاني ألوية عسكرية كبرى تابعة لحفتر، مجهزة بمختلف أنواع العتاد، من دون الكشف عن فحوى «المناقشة المثمرة» سوى أنها تطرقت لتعزيز التعاون العسكري والأمني «لمكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية وتعزيز الأمن والاستقرار في ليبيا» حسب بيان لقوات حفتر.

ولوحظ أن أمريكا، التي كانت تتعاطى أساسا مع حكومة الدبيبة، بوصفها الحكومة الشرعية، باتت تلجأُ إلى لعبة التوازن بين طرابلس وبنغازي، وهو ما يبدو من حرصها على فتح حوار متزامن مع الطرفين المتخاصمين، وإن كانت قد لعبت هذه اللعبة سابقا، بمناسبة زيارة رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليم بيرنز إلى كل من طرابلس والرجمة مقر حفتر.

من هذه الزاوية يمكن الإشارة إلى ما ذكرته وكالة «بلومبرغ» الأمريكية في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، من أن روسيا تعمل على توسيع وجودها العسكري في شرق ليبيا، وإبرام اتفاق دفاع مع قائد «المنطقة الشرقية» اللواء حفتر، في إطار خطة يمكن أن تفضي إلى إنشاء قاعدة بحرية، ما يؤمن لموسكو موطئ قدم على مرمى حجر من السواحل الجنوبية للاتحاد الأوروبي.

وفي السياق أكد نائب وزير الخارجية مبعوث بوتين إلى ليبيا والشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف، دعم بلاده لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، بمشاركة كل القوى السياسية، بمن فيهم ممثلو النظام السابق. ومن المعروف أن موسكو تراهن على فوز سيف القذافي في الانتخابات التي يشك كثيرون في فرص التوافق على إجرائها.

ولا تقتصر الحرب الباردة في ليبيا، ومن ثم في منطقة الساحل والصحراء، على منافسة أمريكية روسية على النفوذ في الإقليم، بل إن طرفا دوليا ثالثا لا يقل وزنا عنهما، يحاول أيضا توسيع نفوذه في المنطقة، وهم الأتراك الذين توصلوا أخيرا إلى إبرام اتفاقات عسكرية مع حكومة عبد الحميد الدبيبة، الذي يشغل في الوقت نفسه منصب وزير الدفاع.

وبموجب أحد الاتفاقات، نشرت فحواه الجريدة الرسمية التركية، في أحد أعدادها الصادرة أخيرا، سيتم التمديد لمهمة القوات التركية في ليبيا لمدة سنتين، بطلب من الرئيس رجب طيب اردوغان.

ومن علامات تعزيز التعاون العسكري بين تركيا وحكومة الوحدة الوطنية، توقيع الدبيبة بصفته وزيرا للدفاع، على مذكرة تفاهم عسكرية مع وزير الدفاع التركي ياشار غولر، على هامش مشاركتهما مؤخرا في منتدى أنطاليا الدبلوماسي في تركيا.

وانطلق التعاون العسكري بين الحكومتين في أعقاب التوقيع على اتفاقيتين أمنية وبحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية السابقة، برئاسة فايز السراج في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2019.

وسمحت مذكرة التفاهم الأمنية للأتراك بالتدخل عسكريا لمواجهة قوات حفتر في طرابلس، والسيطرة على الأجواء بفضل المُسيرات التركية من طراز بيرقدار، بما أفشل حصار العاصمة، وأنهى سيطرة القوات المهاجمة على مدن ومناطق عدة في المنطقة الغربية.

ومنذ العام 2020 تنتشر قوات من الجيش التركي في قواعد جوية وبحرية في غرب ليبيا، بعد نجاحها في إخراج قوات حفتر من جنوب طرابلس وكامل مدن غرب العاصمة.

وتتولى فرق التدريب التابعة للجيش التركي، منذ أزيد من ثلاث سنوات، تدريب مقاتلين وفرق عسكرية وأمنية من الجيش الليبي، في معسكرات بغرب البلاد، على خوض الحروب واستعمال مختلف أنواع الأسلحة والقتال في حرب الشوارع واقتحام المدن وتحرير الرهائن وحماية كبار الشخصيات.

وانضم لاعب آخر إلى القوى المؤثرة في المشهد الليبي أخيرا، ويتمثل في تنظيم «القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، الذي حاصر مدينة تومبوكتو التاريخية في شمال مالي، وعزلها عن العالم الخارجي، ما حمل السكان على اللجوء إلى البوادي المجاورة.

ومن الظواهر الجديدة التي بعثت القلق في أذهان القيادات السياسية والعسكرية الغربية، أن الجماعات المسلحة في شمال مالي، لم تعد تتورع عن خطف رهائن وابتزاز أهاليهم، وقتلهم إن لم تتحصل على فدية.

وأظهر شريط فيديو حديثٌ القائد الجديد لتنظيم «القاعدة في منطقة الساحل والصحراء» الدبلوماسي المالي السابق، إياد أغ غالي وهو يصرح بأن قواته ستتجه صوب جنوب مالي، وهي متمركزة حاليا في الشمال. وكان غالي العدو الأول لفرنسا في السابق، كما أنه العدوُ اللدود الدائم لـ«تنظيم الدولة الإسلامية» في إطار منافسة على الزعامة بين الرجلين.

ويُفترض أن الزعماء الليبيين، الذين يتناطحون حول كرسي الحكم، هم أول من ينتبه إلى مخاطر انتشار جماعات مسلحة من جنسيات مختلفة، آتية من البلدان المتاخمة للجنوب الليبي، وكل زعيم يستقوي بفريق أجنبي لضمان الغلبة، لكن الجميع خاسرون في نهاية المطاف.

وغالبية المنخرطين في لعبة السياسة ضالعون في الفساد، إذ أظهرت دراسة كندية أن المساعدة العمومية الممنوحة لمالي، في عهد الرئيس المخلوع ابراهيم أبو بكر كايتا، بين 2012 و2017 والمُقدرة بمليار يورو، تبخرت بين أيادي المسؤولين الحكوميين.

وعرفت النيجر أيضا قضية فساد تعلقت بوزارة الدفاع، ما جعل حصيلة المشاريع التي كان يُفترض أن تُنجز بتلك المساعدات، قريبة من الصفر.

إلى المحيط الهندي

وتضاربت المواقف من الاستعانة بقوات «فاغنر» إذ أن حكومة بوركينا فاسو متحفظة على استدعاء قوات المجموعة الروسية، بدافع حرصها على استقلال قراراتها. كما أن المجلس العسكري الحاكم في بوركينا يقرأ حسابا لمواقف الجيران، وخاصة ساحل العاج وغانا، اللذين تربطهما علاقات وثيقة مع بوركينا، واللذين يُعارضان تمدُد قوات «فاغنر» في القارة الأفريقية.

أما في مالي فأبدى العسكريون المتخرجون من المدارس الحربية الروسية حماسة كبيرة لقطع العلاقات مع فرنسا. وعلى الطرف الآخر من الصورة يتجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الحد من الحضور العسكري لبلاده في القارة الأفريقية، وتركيز الاهتمام على المحيطين الهندي والأطلسي.

لكن الخبير في شؤون الأمن العسكري إيلي تيننباوم حذر الفرنسيين من السحب المُتعجل والشامل لقواتهم من أفريقيا، وما قد ينجرُ عنه من اضطراب وارتباك.

_________________

مواد ذات علاقة