بقلم بابلو دي غريف

الفشل في الاعتراف بانتهاكات الماضي، وبعيدا عن هدف تعزيز المصالحة، هو دعوة لاستخدام الماضي كأداة أو تركنا تحت رحمة الخوف من أن الانتهاكات غير المعترف بها ستتكرر لا محالة، مع استعداد مصاحب لعمل دفاعي استباقي وفض مجموعات.

هذا أحد الأسباب التي تجعل لدينا التزاما على تذكر كل شيء لا يمكن أن نتوقع بشكل منصف أن ينساه أشقاءنا المواطنين أن ينسوه

مناقشات حول ما إذا كانت الذاكرة أو التذكر تساهم أو تقوّض المصالحة الاجتماعية تبدو لي أنها عادة تعاني من جانب واحد أو أكثر من المشاكل التالية:

أولا، أنها عادة ما يكون لديها نزعة طوعية تتناسب برعونة مع حقيقة أن الذاكرة ليس طرفايمكن أن نُقرر تحريكه أو لا، فلا يمكن تشغيلها أو إيقافها أو تغيير محتواها بمجرد الإرادة. أحيانا تبدو هذه المناقشات تقدم خيارا دراميا أن نتذكر الانتهاكات السابقة أولا كما لو أن ذلك مفتوحاً للقرار. الأفراد المتضررون من الانتهاكات الماضية ليس لديهم هذا الخيار.

أولا: لا يمكن أن تكون المناقشة حول إذا ما كانوا سيتذكرون ولكن حول إذا ما كانت تلك الانتهاكات ستحصل على الاعتراف العلني .

ثانيا: تلك المناقشات كثيراً ما تحاول التعميم على أساس حالات شاذة، حيث كلا من المؤيدين والمعارضين للذاكرة (أيا كان ما يعنيه ذلك) يستمدون الاسترشاد لجميع الحالات من تلك التي لم يتم تحليلها بشكل كاف.

ثالثا: الأكثر خطراً أن معظم المناقشات تستخدم إشارات لـالذاكرةو الـتذكردون تفرقة، متجاهلة أن هذه هي فئات واسعة جدا تحتاج إلى تحليل دقيق.

على هذا المستوى الواسع بشكل مفرط من التعميم، فإن المرء لابد أن يقول بوضوح أنه قد تكون هناك أعمال تذكّر جماعية تعرقل المصالحة الاجتماعية. النازية والشيوعية استخدمت الماضي من أجل تحقيق أهداف سياسية.

في البلقان، ذاكرةالانهزام بواسطة الإمبراطورية العثمانية (التي نفسها انتهت منذ فترة طويلة وبدون أي مطالبينبعودتها اليوم في المنطقة!) كانت تُستخدم لتأجيج المواقف الانتقاميةالتي مهدت الطريق للحرب.

عنف المتطرفين في العالم الإسلامي يستدعي ذكرياتالحروب الصليبية لاستخدامها لغايات نفعية.

إسرائيل وفلسطين تعج بالماضي لأغراض النفعية السياسية.

هناك قائمة لا تنتهي.

أما وقد قلت هذا، فإنه يجب الاعتراف بأن هؤلاء ذوي النوايا السياسية المشكوك فيها لم يحتكروا النشر الاستراتيجي للماضي ولكن، في الواقع، هذا هو جزء لا يتجزأ من مشروع بناء الدول في كل مكان وعلى كل الأوقات.

وبالمثل، سوف يقر الطرفين ، في مرحلة ما، أن جميع أعمال التذكر تنطوي على قدر من الانتقائية؛، أن لا ذاكرة أوتاريخ لمسألة يمكن أن يعتبر سجلا كاملا لكل ما مضى من قبل، ولكن مجموعة من الأحداث التي لسبب أو آخر اعتبرت بارزة وذات الصلة.

وتشير هذه الاستنتاجات إلى القيود المفروضة على الاحتكام غير المتمايز إلى الذاكرة أو التذكر.

ومع ذلك، في مناقشات حول سبل التعامل مع الماضي، ما هو مهم ليس التذكّر نفسه (الحالة العقلية التي يجد الشخص نفسه فيها بغض النظر عن أي شيء)، ولكن الأفعال العامة للتذكّر التي قد تبدو غير مبررة ولكنها ليست كذلك. على سبيل المثال،

ـ التذكير المتكرر في البلقان عن عدم نسيان 1389، ليس فقط كتاريخ، أو حدث واحد، ولكن كعنصر ينوب عن قصة أكثر تعقيدا عن الانهيار أو الإيذاء اللاحق.

ـ تفسير ما قامت به قبائل التوتسي والهوتو لبعضهما البعض في منطقة البحيرات العظمى، وماذا يمكن أن يعني ذلك في ظل الظروف الحالية.
لذلك،

فإن التساؤلات الجادة حول ما إذا كانت أعمال التذكّر تساعد أو تعرقل المصالحة الاجتماعية يجب أن تعنى بالوسائل التي يتم من خلالها إنتاج تلك الأعمال من الذاكرة، والنوايا التي تكمن وراء اختيار تلك الوسائل.

وبالنظر إلى أن السؤال لا يتوقف في معظم الحالات على الذكريات الفردية ولكن يمتد لتفسيرات أكثر تعقيدا وتعتمد على منطق معين، فإن سؤال ما إذا كانت أعمال التذكّر تساعد أو تعيق المصالحة الاجتماعية يعتمد على دراسة طريقة إنتاجها“.

مفهوم أفعال جماعية للتذكّريشير إلى وجود نوع معين من العفويةوالتي هي خادعة في جميع الحالات، ولكن بشكل خاص تلك المطروحة في هذه المناقشات، حيث أن جزءً من المشكلة هو أن هذه الأعمال هي آحادية الجانب في كل مبرراتها المزعومة وطريقة إنتاجها و الذي يختلف جذريا عن الأساليب المعروفة المصممة للتأدية إلى حسابات غير متحيزة والتي من شأنها أن تتيح تحليلا دقيقا لاكتشاف الواقع والمصالح، إلا أنها ليست من النوع الذي يمكن تعميمه.

تدابير العدالة الانتقالية هي وسيلة لمعالجة الانتهاكات الجسيمة الماضية.

هي في الواقع جزء من طريقة تُنتج اعتبارات على أساس أي نوع من الجبر يمكن عرضه لتلبية حقوق الوصول إلى الحقيقة والعدالة وجبر الضرر وضمانات عدم التكرار.

وهناك طريقة أقل قانونية من تأطير هذه النقطة تقول أن هذه الإجراءات تهدف إلى تقديم الاعتراف للضحايا (ليس كمجرد ضحايا، ولكن كأصحاب الحقوق في المقام الأول)، من أجل تعزيز الثقة المدنية، وتقوية سيادة القانون، و تعضيد المصالحة.

وغني عن القول، أن تنفيذ تلك التدابير لا يضمن تحقيق هذه الأهداف ، لأن هناك العديد من الطرق لفعل أشياء خاطئة، ولأن الأهداف النهائية طموحة، وخاصة بعد الفظائع الجماعية، ومن ثم فإن تحقيقها سوف يتطلب أشكالا أخرى من التدخل، بما في ذلك التحولات الاجتماعية والاقتصادية، والتحسن الأمني وذلك لا يحدث بشكل وشيك أو على الأقل ليس بطريقة منسقة.

هذه هي أهداف العدالة الانتقالية، وبالتالي فإن ربط المناقشات حول الاستجابات المناسبة للفظائع بالحقيقة هو أمر أساسي.

العمل الذي على صلة بالحقيقة في هذه الجدلية ليس في المقام الأول لدرء الزيف. ليس لأن بعد الفظائع تفترض آليات البحث عن الحقيقة بسذاجة أنّ جميع الشهادات المعتمدة على الذاكرة يجب أن تكون صحيحة، ولكن بسبب الأساليب التي يمكن استخدامها لبناء سردية صادقة للماضي على أساس من الذاكرة، وغيرها من الأدلة، وهي أساليب معروفة وعملت في العموم بشكل جيد جدا. (عدد قليل جدا من تقارير لجان الحقائق، على سبيل المثال، قد تعرض لهجوم خطير حول صحتها. وفي الواقع تتكون معظم الانتقادات من الادعاءات بأن نطاق التقارير ليس واسعا بما فيه الكفاية، مما يشير إلى أن الأساليب المستخدمة كانت موثوقة بما فيه الكفاية حتى للمعترضين ولكن كان ينبغي تطبيقها على نطاق أوسع.)

العمل الذي على صلة بالحقيقة يقوم على وجه التحديد لدرء التحيز. وبعبارة أخرى، إذا كان التعامل مع الماضي يمكن أن يقال عنه أنه استجابة لذاكرة من الانتهاكات، فإنه لا يمكن أن يتكون من الاستجابة لانتهاكات طرف واحد في النزاع ويتجاهل الآخر.

العمل الجماعي للتذكّر ذو الصلة بالتعامل مع الماضي، وبالعدالة الانتقالية، هو الذي يجب ان يكون شاملا بما فيه الكفاية ليضم جميع فئات الانتهاكات التي تم تحديدها بأنها في حاجة إلى الإنصاف، بغض النظر عمن هم الضحايا والذين كانوا جناة.

والسؤال الآن إذن مختلف تماما.

يمكن الاتفاق بأن السرديات الجزئية أحادية الجانب الحامية بإحكام للماضي يمكنها تشكيل عقبة أمام المصالحة الاجتماعية. الجواب مع ذلك، هو عكس ذلك تماما إذ أن كان هناك بحث عن فائدة السرديات التي يتم إنتاجها بواسطة أساليب ثبت ثقتها في الوصول إلى سرديات محايدة وشاملة ومفتوحة للاستجواب، والتي تجعل محورها الرئيسي انتهاك الحقوق، بغض النظر عن المسؤول عنها، و على هذا النحو، يصعب استخدامها لأغراض انتقامية.

السرديات التي لديها هدف الاعتراف ليس فقط بالإيذاء والمعاناة، ولكن أيضا بأهمية التمسك بالحقوق (العامة).

دعوني أؤكد، أنها تسعى إلى التأكيد على الحقوق، ليس فقط لمجموعة واحدة ولكن للجميع.

الهدف من قول الحقيقة في العدالة الانتقالية على المستوى الوطني ، فضلا عن العناصر الأخرى للتعويض، يمكن صياغته في الجهود المبذولة لتهيئة الظروف التي تحتها يمكن لأعضاء مجموعات مختلفة أن يكونوا سواء في مجتمع سياسي مشترك.

هذا هو النضال من أجل الذاكرة في دول مثل أسبانيا، حيث ضحايا الحرب الأهلية وديكتاتورية فرانكو لديهم أسباب وجيهة للشعور بعدم الاعتراف بهم بما فيه الكفاية، على الرغم من أن احتمالية الصراع قليلة هناك.

الهدف ليس عدم إعادة إنتاج الماضي ميكانيكيا. في الحقيقة، إنه عكس ذلك تماما، فلأجل ملء الفراغ الذي سيملأ في أي حال ببعض سرديات عن الماضي، أنتجت عمدا أم لا، حيث في كثير من الأحيان تكون السرديات غير احادية الجانب أوغير مكتملة، يصعب استخدام الماضي كأداة بشكل يزيد وليس يقلل من احتمال التكرار.

***

بابلو دي غريف هو مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بتعزيز الحقيقة والعدل والجبر وضمانات عدم تكرار. وهو حاليا باحث رفيع المستوى ومدير برنامج العدالة الانتقالية في جامعة نيويورك. قبل انضمامه إلى جامعة نيويورك شغل منصب مدير الأبحاث في المركز الدولي للعدالة الانتقالية من عام 2001 إلى عام 2014. دي غريف كان محرر مشارك لعشرات الكتب التي نشرت على نطاق واسع عن الانتقال إلى الديمقراطية، النظرية الديمقراطية، والعلاقة بين الأخلاق والسياسة والقانون.

_______________

المركز الدولى للعدالة الانتقالية

الصورة: أسماء ضحايا معلقة على شجرة، برييدور، البوسنة والهرسك. (Lee Bryant/Flickr)

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *