بقلم مهاجر

%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%87%d8%a7%d8%ac%d8%b1

هناك تجارب عديدة سابقة في مجال المصالحة الوطنية، ومن أهمها تجارب كل من بلغاريا، والمغرب، وجنوب أفريقيا. كما أن التجربة التونسية يمكن وصفها بالواعدة حيث لا تزال في بدايتها، وهذه التجارب المتنوعة تقدم أفضل الممارسات، والنجاحات، وربما بعض الإخفاقات التي تعج بالدروس التي يمكن أن تفيد الحالة الليبية المستعصية.

بعد مضي أكثر من خمسة أعوام على إسقاط نظام الدكتاتورية والإستبداد، ما تزال النخب الليبية تتصارع بعملية المصالحة الوطنية، حيث تحديات كثيرة تواجه النخب السياسية والأمنية والعسكرية والقبلية والمدنية.

المصالحة الوطنية في ليبيا أصبحت بلاشك على رأس الأولويات للخروج من المأزق السياسي والأمني التي وقعت فيه البلاد، وتأتي بعدها بالتتالي قضايا غاية في الأهمية كمعالجة قضايا العدالة الإنتقالية، وإعادة إعمار النظام الداخلي وخاصة المؤسسة الأمنية والعسكرية، وكذلك تنفيذ الإصلاح المؤسساتي، بالإضافة إلى معالجة المظالم من خلال تقديم التعويضات أو تصليح الأضرار. واستناداً إلى خلفيات النخب الليبية السياسية التي تفتقر إلى التجربة الميدانية في هذا المجال، سيكون لزاما على المتصدرين للمشهد السياسي سبر أغوار بعض التجارب الناجحة في هذا المجال بكل تجرد وتواضع، فالخمس سنوات الماضية أثبتت أننا لا نعرف كل شئ بل لا نعرف أي شئ في مجال الإنتقال الديمقراطي وإدارة المرحلة الإنقالية والتعامل مع الإرث الإستبدادي للنظام السابق، ورغم أن التجارب الدولية وخبراتها في تحقيق المصالحة الوطنية متنوعة ومختلفة فيما بينها، حيث لاتوجد طريقة واحدة مثلى تنطبق على جميع الحالات إلا أن الواقع يدل على أن أننا في ليبيا في حاجة ماسة لدراسات هذه التجارب الناجحة واستيقاء الدروس المفيدة منها.

التجربة العراقية أثبتت أو عملية إجتثاث حزب البعث، وإقصاء أعضاءحزب البعث من الحياة العامة والسياسية، لم تأتي إلا بالضرر على مسيرة الإنتقال الديمقراطي والاستقرار في العراق، فالدرس هو أن إدراج بعض أعضاء حزب البعث الذين لم يتورطوا في أعمال القتل والتعذيب في الحياة السياسية العراقية كان يمكن أن يدعم انتقال البلاد إلى الديمقراطية بشكل أفضل، ولذلك ينبغي إعادة النظر في سياسة الإقصاء والقصاص الوطني والعزل السياسيلجميع رموز النظام السابق، وقد يكون ذلك مقبولا لقيادات اللجان الثورية والتصفية الجسدية، وقيادات الأجهزة الأمنية، والكتائب الأمنية المسلحة.

فهل يمكن اعتبار تجربة العزل السياسي في ليبيا أحد أهم الأسباب التي عمّقت الانقسامات في البلاد وأعطت الضوء الأخضر لتصاعد مسلسل العنف الذي غدته الثورة المضادة بكل أنواع الدعم المادي واللوجستي والمعنوي.

تجارب أخرى خاضت تجربة الحوار الوطني والمواجهة بين الضحايا والجلادين حققت من خلالها العديد من الفوائد ولعل أهمها تفكيك شبكة التبعية بين أولئك الذين ناصروا النظام السابق وبين رموز النظام الذين تبنوا مسار الثورة المضادة والعمل لعودة الإستبداد والدكتاتورية ووظفوا لذلك علاقاتهم القبلية والإجتماعية وألأموال الطائلة التي سرقوها من خزينة الدولة ووفروا بها السلاح والدعم المادي والمعنوي للدولة العميقة التي ظلت تعمل في هدم مؤسسات الدولة وبرامجها من داخلها.

تجربة بلغاريا لم تتبنى أسلوب اجتثاث الحزب الحاكم السابق، بل أتاحت الفرصة للشعب للوصول إلى ملفات وأرشيفات الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق، وبذلك تمكنوا من اتخاذ قرارات أكثر استنارة حول المرشحين للمناصب العامة.

وقد أثتبتت تجربة بلغاريا بأن ثمّة ثمن لابد أن يُدفع لتفكيك الأجهزة الأمنية للنظام السابق، وأن يكون ذلك بقرارات مستنيرة بمعلومات دقيقة وأن يتم تنفيذ تلك القرارات على الفور، وهذا ما كان متوفرا إلى حد كبير في تجربة هيئة النزاهة والوطنية، رغم أن بدايتها كانت بطيئة ومتعثرة بسبب عدم تعاون العديد من الشخصيات والقوى السياسية والأمنية.

التجربة البلغارية تؤكد بأن الثمن الذي لابد أن يدفع يكون أكثر كلفة وأثرا سلبا، عندما تتأخر التجربة في تفكيك الأجزة الأمنية للنظام السابق ولا يتم ذلك بعد وقت قصير من سقوط أي نظام شمولي.

وزير خارجية جمهورية بلغاريا السابق نيكولاي ملادينوفنقل عنه تحذيره من ثلاث عواقب تنتج من التأخر في تفكيك الأجهزة الأمنية للنظام السابق، وهي:

ـ أن المؤسسات التي وصفها بأنها ذات سقف زجاجيتسمح للبعض من الفاعلين في منظومة الدولة العميقة بالصعود إلى مواقع لا يمكن للآخرين من نشطاء الثورة الشعبية الوصول إليها، وهذا ما لاحظه العديد من الثوار في مؤسسات الدولة بعد إسقاط النظام السابق

ـ أن وسائل الأعلام والمصادر الرسمية في الدولة بعد انتصار الثورة وإسقاط النظام تقع في مطب الحديث حول الماضي (ما قبل النظام السابق) بكل أيجابية والتغاضي عن العديد من السلبيات، وفي المقابل يتم الحديث عن الثورة والثوار بكل إيجابية ولا يتم مجرد الإشارة إلى بعض السلبيات والسلوكيات التي لا تنسجم مع ما ترفعه الثورة من شعارات ووعود.

ـ السماح لشبكات العلاقات بين رموز النظام السابق بالتطور والتمدد بسهولة وبسرعة فائقة، وخاصة عندما تتوفر لهم كل الإمكانات المادية والفنية ويكون من نتيجة ذلك الترويج السهل للفساد السياسي، والفشل الإقتصادي، والعجز الإداري والخدماتي لمؤسسات الدولة بعد إسقاط النظام الإستبدادي

وتطور شبكات النظام القديم التي تروج للفساد السياسي والاقتصادي.

لا شك أن تجارب عدة أثبتت بأن الإسراع بإصلاح قطاع الأمن الوطني سيكون له دور كبير ومفصلي في المرحلة الانتقالية، خاصة إذا تم ذلك دون الوقوع في فراغ في السلطة (أمنيا وسياسيا)، وذلك يتطلب توزنا حذرا في التعامل مع قيادات ومؤسسات وأجهزة القطاع الأمني في الدولة.

ولعل أهم درس يمكن أن يشار إليه بالنسبة للأجهزة الأمنية (والعسكرية أيضا) أنه لا يمكن التنازل عن تبعية الأجهزة الأمنية والعسكرية تحت القيادة السياسية المدنية في الدولة، وتحديدا في مسألة المساءلة الشرعية والقانونية والدستورية وتبعية القرار الأمني والعسكري للقيادة المدنية في الأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية.

التجربة المغربية كانت فريدة من نوعها، حيث شملت عملية المصالحة الوطنية مشاركة رسمية وشعبية ومدنية على صعيد الوطن أجمع، وبأولويات المصلحة الوطنية حيث كانت الأولية للوطن قبل العرش والنظام السياسي والحزب والمصالح الخاصة.

صاحبت التجربة المغربية للمصالحة الوطنية إصلاحات كثيرة جرت في خلال النظام الملكي نفسه الذي حكم لعقود، بل أن العملية تمت تحت شعار تقاسم السلطة على أساس الإجماع”. وتضمنت الإصلاحات عمليات وإجراءات ركزت على معالجة حقوق المرأة، والمساواة بين الجنسين، وحقوق الإنسان.

التجربة المغربية في نهاية المطاف إدت إلى إعادة صياغة دستور جديد كان بمثابة وسيلة الإنتقال إلى عهد جديد من الديمقراطية بمشاركة أحزاب اليمين واليسار.

تجربة جنوب أفريقيا كنموذج رئيسي لحوار وطني ناجح تبنى مقولة “الحقيقة مقابل العفو” ساعد الدولة الديمقراطية الناشئة في معالجة أكبر المظالم سلمياً وجنب المجتمع النزاع المسلح وإنتقام الضحايا من الجلادين والحرب الأهلية التي كان من المتوقع أن تستمر عقودا من الزمن.

ركزت تجربة جنوب أفريقيا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري على توأمين هما المصالحة الوطنية وبناء الوحدة الوطنية. فلجأت الأطراف المختلفة المتنازعة إلى طاولة المفاوضات لمناقشة إمكانية العيش معاً على الرغم من جرائم الماضي واستمرار عدم المساواة.

كان الزعيم نيلسون مانديلا (الرئيس الجديد آنذاك) مصمماً على إقامة المساءلة من دون خلق أعداء جدد لجنوب أفريقيا. فأعطى للمتورطين في انتهاكات الحقوق عفو مشروط، ولكن كان هناك أيضاً عملية مكّنت الضحايا من التحدث عن تجاربهم بعد وصول الحكومة الجديدة إلى السلطة. اعتمدت لجنة الحقيقة والمصالحة التي أنشئت برنامج امتدادي مكثّف لعقد جلسات استماع علنية، بما في ذلك شهادات أعضاء سابقين في الجيش والأجهزة الأمنية. وفي النهاية، أصدرت اللجنة تقريراً متوازناً أظهر أنّه على الرغم من أن حركة التحرير قد خاضت حرباً عادلة، إلا أنّها، في بعض الحالات، انتهكت اتفاقية جنيف.

فتم الاعتراف بمعانات الضحايا علنياً وقُدمت تعويضات كجزء من المصالحة الوطنية .

لاشك أن سؤالا يتبادر لذهن القارئ سؤالا عن إمكانية مسامحة المجتمع الليبي للذين ارتكبوا جرائم سواء في عهد الإستبداد أو خلال الفترة الإنتقالية الماضية، والكل يعلم بأن الجرائم التي ارتكبت منعت الوطن من التطور والتحول الديمقراطي.

الإجابة عن هذا التساؤل ليست بالسهلة، ولكن علينا أن نجيب على أسئلة كثيرة، أخرى، قبل الولوج في الإجابة عن هذا السؤال. فماذا يجب على الذين أجرموا فعله من أجل وطنهم بعد العفو عنهم؟ هل ستعود\ حليمة إلى عادتها القديمة؟ وهل هم جادين في الإعتراف بأنهم أخطؤا في حق الوطن وفي حق أنفسهم وأهاليهم قبل ضحاياهم؟

وهذا النوع من الحوار يستوجب طرح بعض الإسئلة على الشعب ككل، وخاصة النخب التي تتصدر المشهد السياسي والأمني. فهل يريد الشعب الليبي أن يبنى دولة جديدة، أم يريد العودة إلى مختنقات الحقبة الدموية السابقة؟ وهل الجميع على استعداد بالإعتراف بإخطائهم خلال عهد النظام السابق، وهل يعترف الجميع بأنهم شاركوا بشكل أو بآخر في استمرار نظام الإستبداد أربعة عقود من العنف والدموية وانتهاك حقوق الإنسان، على جميع المستويات؟

هل نحن على استعداد للتعايش معا بعد الوصول لرؤية وطنية موحدة، للخروج من الأزمة الحالية بما فيها تحقيق العدالة الإنتقالية بدلا من العدالة الإنتقامية؟

هل نحن مستعدون لهذا النوع من الحوار والمصارحة لكي نحقق المصالحة؟

الأيام حبلى والله في عون الوطن المخطوف.

_____________

منبر ليبيا

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *