بقلم طارق المجريسي (ترجمة: عبد الرحمن الحسيني)

في تطور لاحظه القليلون من العالم الخارجي، نجح الليبيون تقريباً في تحقيق انتصار طال انتظاره على داعش“. وعلى مدى أشهر الآن، كانت الميليشيات المحلية تضيق الخناق على قوات داعشفي مدينة سرت الساحلية، تساعدها في ذلك الضربات الجوية التي ينفذها حلفاؤها الدوليون.

وتم الآن حصر الجهاديين في منطقة تقل مساحتها عن كيلومتر مربع واحد. لقد تم كسب المعركة.
قد يعتقد المرء بأن الليبيين وأصدقاءهم في المجموعة الدولية سيكونون ممتلئين فرحاً وحماساً. لكن هناك في الحقيقة قليل من حس الانتصار الذي يمكن الشعور به في أي مكان.
والسبب بسيط: سوف يكون للانتصار في سرت، بالرغم من أنه موضع ترحيب، تأثير إيجابي قليل على الفراغ السياسي الذي يعاني منه البلد.
عندما غزا داعشالمدينة أول الأمر في حزيران (يونيو) من العام 2015، أمل العديد من المراقبين في أن يخدم التهديد الذي يشكله التنظيم الإرهابي نقطة تحشيد لفصائل ليبيا العديدة المتحاربة. وساد اعتقاد حينها بأن توجيه ضربة صاعقة ومدوية لـداعشسيوفر في نهاية المطاف العامل المساعد على الوحدة.
لكن الرياح لم تأت بما تشتهي السفن. فبدلاً من ذلك، حاولت مراكز القوة المتنافسة من جنرال الميدان خليفة حفتر وحكومته في الشرق، إلى الحكومة المنافسة في طرابلس التي تحظى بالدعم الدولي، إلى المفتي الأكبر في البلد، الصادق الغريانيحاولوا استغلال التهديد الذي يمثله داعشلمتابعة أجنداتهم الخاصة.

وكانت كل مجموعة تعرف جيداً أن مجرد الظهور بمظهر الاشتباك مع داعشسيجلب لها دعماً دولياً ويقوي ادعاءاتها بالشرعية.

وحتى الآن، لم تثبت أي جهة منها رغبتها في إعادة نشر موارد وقوى عاملة بشكل جاد لقتال تهديد تشعر بأنه ثانوي، مقارنها مع منافسيها المحليين.
وفي الأثناء، كانت القوى الغربية حريصة جداً على إشغال الهدف، إلى درجة أنها أهملت دراسة مصالحها الخاصة طويلة الأمد في ليبيا كما جسدتها مهمة الدعم الأممية في ليبيا، المبادرة الخاصة التي أسسها مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة. وكان هدف مهمة الدعم الأممية دمج المصالح الغربية المختلفة في سياسة متماسكة لقتال الإرهاب والاتجار بالبشر، بينما يتم إقناع الساسة الليبيين بدعم هدف استعادة حكومة وطنية فعلاً.

ومع ذلك، انتهى المطاف ببعض البلدان التي دعمت المهمة الأممية في ليبيا مسبقاً مثل فرنسا والولايات المتحدةوهي تضع العراقيل أمام عمل هذه المهمة، إما استجابة لافتقار الأمم المتحدة إلى تحقيق نتائج، أو انطلاقاً من شعور بأنها لم تعمل ما فيه الكفاية لحماية مصالحها، تكتلت هذه الدول مع مجموعات ليبية مسلحة مفردة لمتابعة أهداف التصدي لأحداث الإرهاب المنعزلة، مثل اغتيال قادة إرهابيين.

وعبر تشكيل تحالفات قصيرة مع أناس مثل حفتر وآخرين، تعمل هذه الدول على تمكينهم من الاستمرار في العمل خارج محاولات الأمم المتحدة الرامية إلى إضفاء الاستقرار والوحدة، وهو ما قوض على نحو خطير عملها من خلال إزاحة حافز رئيسي للتعاون.
في ضوء هذه الظروف، يكون تحقيق تحرير سرت ضرباً من المعجزة.

وكانت القوى الغربية وحلفاؤها الليبيون ليكونوا في وضع أفضل كثيراً لو أنهم أنجزوا هذا الهدف كنتيجة لسياسة شاملة متعددة الأطراف، والتي تمت دراستها بحذر وعناية.

لكن تظل العملية شأناً محدوداً تماما. وقد اقترحها في وقت سابق هذا العام تحالف من المليشيات التي شعرت بأنها مهددة من تطويق داعشالتدريجي لمناطقها. وكانت استراتيجيتها القائمة على محاصرة المدينة وتضييق الخناق تدريجياً على مواقع داعشناجحة في البداية، لكنها سرعان ما كلفت خسائر فادحة وفقداناً للأرض حتى توقفت العملية.

واستغرق الأمر شهوراً قبل أن تستطيع الحكومة تنظيم الضربات الجوية الأميركية والمساعدات الطبية والإنسانية الإيطالية والدعم البريطاني للخطوط الأمامية، وهي الأمور التي جعلت النصر ممكناً.
بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أن العملية تبدو الآن على شفا النجاح، فإن من المبكر جداً الاحتفاء.

وبينما قد تكون القوات المعادية لـداعشقد اخترقت حصن الجهاديين، فإن البيئة التي فرخت التهديد في المقام الأول ما تزال سائدة.

فالدولة بلا حول، والاقتصاد غير عامل، والعنف والاضطراب يعصفان بالبلد، مما يجعل ليبيا أرضاً صالحة لظهور تهديدات أخرى عديدة، لها ولجيرانها وللمنطقة المحيطة بها.
لا تعني فقدان داعشلمقره الرئيسي في سرت القضاء عليه في ليبيا. فالجهاديون يحتفظون بعدد من الخلايا في عموم البلد، وقد حاولوا تهريب بعض المقاتلين إلى خارج سرت طيلة المعركة، بحيث يستطيعون العودة إلى المدينة للقتال في يوم آخر.

وإذا خسر داعشمدينة سرت حقاً، فإن من المرجح أن يعود إلى أساليبه الإرهابية الأكثر تقليدية، من خلال استهداف المراكز السكانية وأكاديميات الشرطة وقواعد المليشيات بهجمات انتحارية.

وستتيح الفوضى العارمة المجال أمام داعشلزرع بذور الشقاق والسعي إلى عقد تحالفات مع مجموعات جهادية محلية أو إقليمية، إلى أن يتمكن مرة أخرى من استعادة قدرة الاستيلاء على الأرض.
غني عن البيان أنه ليس الإرهابيين وحسب هم الذين يستفيدون من الفوضى العارمة العامة. فثمة أيضاً أولئك الذين يعيشون في منطقة اقتصاد الظل في ليبيا. وللبلد سجل طويل في صناعة التهريب، التي ركزت حتى وقت قريب على تصدير السلع المحلية المدعومة بقوة، مثل البنزين والسكر، إلى البلدان المجاورة.

ولكن، نظراً لأن الاقتصاد التقليدي يظل مشلولاً، فقد توسع الاتجار بالبشر وبالأسلحة بشكل درامي.

وتقوم قبائل ومليشيات ومجموعات إجرامية بنقل مئات الآلاف من اللاجئين من خلال الصحراء الليبية، ويلقون بهم في رحلات خطيرة عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا.

وفي الأثناء، ذهبت كميات كبيرة من الأسلحة من مستودعات نظام القذافي لتنتشر عبر شمال أفريقيا وتستخدم في صراعات تمتد من مالي إلى سورية.
يجب أن تنتهي الحروب الأهلية، كما هو الحال في ليبيا، حيث لا يستطيع أي جانب أن يكسب تقدماً حاسماً ويكون التوقف مع جفاف الإمدادات من الأموال والتسلح والشباب الراغبين في القتال.

لكن هناك في ليبيا قوى خارجية، مثل الإمارات العربية المتحدة وتركيا، والتي تستمر في تمويل وتسليح فصائلها المفضلة، فتعمل بذلك على إطالة أمد الاضطرابات اصطناعياً.

وتعتبر بلدان الغرب القوى الخارجية الوحيدة التي ما تزال قادرة على ممارسة نفوذ إيجابي. لكنها تبدد نفوذها عندما تستمر في مقاربة سياسة ليبيا بطريقة أحادية وتدريجية، كما تجسد بوضوح في تعاملها مع الصراع على سرت.
يشكل تحرير سرت وفك قيود مواطنيها الذين يبلغ عددهم نحو 80.000 نسمة من حكم داعشتطوراً يلقى الترحيب بلا شك، في أرض تشح فيها الأخبار الجيدة. لكننا يجب أن نحذر من نشوة سابقة لأوانها. حتى مع استعار المعركة في سرت.
ما تزال الفصائل في ليبيا تعد العدة لما تراه المعركة الفاصلة بحق في الحرب من أجل إعلان السيطرة على البلد.

وفي المستقبل القريب، قد نشهد تطوراً للحرب الأهلية من مجموعة من الصراعات المحلية إلى حرب شاملة على السيطرة، بين تحالفين لديهما مدفعية وقوة جوية ثقيلتين تحت تصرفهما.
لاحتواء هذا التهديد، يجب على المجموعة الدولية أن تحتشد وراء المهمة الأممية والعمل بالتالي نحو التوصل إلى اتفاقية لتقاسم السلطة.

وعلى الصعيد المحلي، يعني هذا انخراطاً معقولاً مع قادة المجتمع والقبائل وقادة المليشيات وقادة الفصائل والمؤسسات الرئيسية مثل البنك المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط.

ويعني هذا على المستوى الدولي وضع الحظر على الأسلحة موضع التنفيذ، والتأكيد على أن الأمم المتحدة هي القناة الوحيدة للدبلوماسية الدولية مع ليبيا. ويتطلب تحقيق ذلك الإرادة السياسية للتوفيق بين المصالح المتنافسة لكل من روسيا ودول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة والقوى الإقليمية مثل مصر وقطر والإمارات العربية المتحدة وتركيا.

وما لم تستطع المجموعة الدولية وضع سياسة شاملة والحفاظ عليها من أجل إعادة الاستقرار إلى ليبيا، فإن تحرير سرت سينطوي على خطر أن يصبح مجرد حدث قصير غير مهم في انحدار البلد إلى أتون حرب أهلية لا نهاية لها.

______________

صحيفة الغد الأردنية

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *