بقلم رشيد خشانة

مع انشغال أمريكا بفضائح التخابر مع روسيا، وجدت موسكو نفسها تلعب في المسرح الليبي منفردة تقريبا، وهي ماضية في تجميع أوراق لم يُتح لسواها جمعُها.

وسيان إن كان الروس شجعوا الجنرال خليفة حفتر على التشدد خلال زيارته الأخيرة للقاهرة، أم أنه هو الذي اختار التدليل على أن حل الأزمة الليبية بات بيده، فإن النتائج في الحالتين تُشير إلى أن الروس هم المستفيدون من ميزان القوى الراهن، لأن ما حدث عزز جانب حليفهم وأضعف المجلس الرئاسي ورئيسه فائز السراج (الذي لم تُوجِه له روسيا دعوة رسمية حتى الآن لزيارة موسكو) وأحرج الوسيط المصري.

زيادة على الضربة المعنوية التي تلقاها المجلس الرئاسي المُعترف به دوليا، فإن وضعه العسكري في الميدان تضعضع، وهو الفاقد أصلا لمؤسستين عسكرية وأمنية تشكلان جناحيه اللذين يفرض بهما إخضاع الخارجين عن القانون.

واستطاع خليفة الغويل الموالي للجماعات المتشددة، والذي كلف من قبل المؤتمر ليكون رئيسا لـ«حكومة الإنقاذ» أن يُناكف حكومة الوفاق بإدخال عناصر ما أطلق عليه «الحرس الوطني» المُشكّل بواسطة تحالف بين عدد من قادة الميليشيات الأصولية، إلى العاصمة طرابلس.

وبالرغم من أن واشنطن انتقدت دخول تلك الميليشيات إلى طرابلس، مُعتبرة أن انتشارها في العاصمة «يُضعف الأمن الهش أصلا في المدينة» فإن ذاك الانتشار بات أمرا واقعا لا تملك حكومة الوفاق تغييره.

والنتيجة أن الاحتكاكات والاشتباكات بين الميليشيات الخارجة عن القانون ستستمرُ مُسبِبة اضطراب الأمن والاستقرار في طرابلس والمنطقة الغربية عموما.

ويمكن أن يُعزى الاخفاق «التكتيكي» للوساطة المصرية إلى عدة نقائص وثغرات في الإعداد للقاء الذي كان مؤملا عقدُهُ بين السراج وحفتر في القاهرة، أهمُها أن الوسيط محسوبٌ على طرف في الصراع الأهلي الليبي، وهو لا يُخفي انحيازه، وثانيها أن تسليم ملف سياسي بهذا المستوى من التعقيد للمؤسسة العسكرية قد لا يكون الأنسب باعتبارها غير مؤهلة لإدارته.

في المقابل تبدو المبادرة الجزائرية أكثر اتزانا وتوازنا، فهي تفادت الأخطاء التي وقعت فيها الوساطة المصرية فانفتحت على جميع الفرقاء وحاورتهم، بمن فيهم الجماعات الأصولية التي لا ترتاح لها.

كما أنها امتنعت عن تقديم مساعدات من أي نوع كان لأي طرف من الأطراف. وهذا الموقف عزز مصداقيتها لدى الأطراف المتصارعة، فارتضت بالاحتكام إليها.

تجربة «الوئام المدني»

لم يُرفع النقاب حتى الآن عن مضمون المبادرة الجزائرية التونسية، والتي نقلها الجزائريون إلى العواصم المعنية بالأزمة الليبية، وخاصة باريس وموسكو وروما. ولا يُعرف تحديدا ما هي الصيغة التي سيقترحها أصحاب المبادرة لمعاودة هيكلة المجلس الرئاسي وحل مشكلة قيادة الجيش ومرجعيتها القانونية، ولا عُرف مضمون التعديلات المنوي إدخالها على الإعلان الدستوري.

لكن الواضح أن أقرب أنموذج للجزائريين من أجل المساعدة في تحقيق المصالحة الليبية هو تجربة «الوئام المدني» في الجزائر العام 1999 التي وضعت حدا لعقد من الاقتتال والصراع الأهلي، والتي يمكن أن تُطبق في روحيتها وليس في تفاصيلها، في ليبيا.

والليبيون محتاجون اليوم للجلوس معا حول مائدة الحوار، على غرار ما فعل التونسيون في «الحوار الوطني» الذي أنهى ثلاث سنوات من التجاذبات التي كادت تنزلق بالبلد إلى حرب أهلية في 2013.
مبدئيا ليس عسيرا بلورة إجماع بين الليبيين على عدة ثوابت هي:

  • التمسك بوحدة البلد وسلامة أراضيه.

  • تجميع الأسلحة من الأيدي غير الشرعية، تمهيدا لحل الميليشيات وإدماج عناصرها في الجيش الوطني.

  • رفض التدخل الخارجي في الشأن الليبي.

  • التزام حُرمة الدم الليبي والامتناع عن إقصاء أي طرف.

  • ضرورة إدخال التعديلات اللازمة على اتفاق الصخيرات، بما يُكرس الالتزام بإقامة دولة مدنية ديمقراطية مبنية على التداول السلمي على السلطة ومكافحة التشدد والعنف والإرهاب.

هذه المبادئ أكدت صحتها تجارب انتقالية كثيرة عبر العالم، من افريقيا الجنوبية التي لم تُقص الأقلية البيضاء بعد إنهاء نظام الفصل العنصري، وعملت على تحقيق مصالحة تقوم على التوافق، إلى اسبانيا التي تعايش في ظل مسارها الانتقالي، خلال سبعينيات القرن الماضي، أنصار الدكتاتور فرنسيسكو فرانكو (1936-1975) مع معارضيه الليبراليين واليساريين، مرورا بالبرتغال التي أنجزت ثورة القرنفل في العام 1974 من دون أن تُصفي أنصار الطاغية أنتونيو سالازار(1932-1968).

وإذا كان هناك من دور إيجابي يمكن أن تلعبه الدول العربية، وبالأخص دول الجوار، فهو تشجيع الليبيين على حوار مباشر بينهم، وحضهم على تقديم تنازلات متبادلة لاجتراح مصالحة شاملة، تضع بلدهم على سكة إقامة نظام مدني ديمقراطي، يُنهي 42 عاما من الحكم الفردي وستة أعوام من الفوضى.

وفي ظل التمزق الراهن ليست ليبيا جاهزة لأي انتخابات، لأن غالبية الفصائل مسلحة، والمنافسة بين المسلحين ستنزلق بالضرورة إلى حرب أهلية تسحب إليها المكونات القبلية، وقد تُفضي إلى التقسيم.

وهذا ما أثبتته انتخابات البرلمان في 2014.

لذا فالبحث عن التوافق ينبغي أن يكون العنوان الكبير للمرحلة المقبلة، وهو توافق يستند على حاضنة قبلية، كما يحظى أيضا بدعم مكونات المجتمع المدني، الرافضة بالتعريف للعنف والاقتتال.

وأيا كانت صيغة الحكم الانتقالي، فالمهم أن تُساس الفترة الانتقالية بروحية الحوار والتنازل المتبادل، بما في ذلك تشكيل مجلس دولة مُمثل للمكونات الكبرى، وهي ليست بالضرورة الكيانات الحزبية فقط، بعدما فقدت الأخيرة كثيرا من مصداقيتها ورأس مالها المعنوي.

كما ينبغي إرجاء قضايا الخلاف التاريخية والثقافية إلى مرحلة لاحقة بعد ضمان وحدة البلد وإعادة السلام والأمن إلى ربوعه.

***

رشيد خشانة ـ كاتب وباحث تونسي

________________

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *