بقلم رشيد خشانة

تحرك الشارع في العاصمة الليبية طرابلس خلال الأيام الأخيرة، في صرخة غضب، مُبرهنا على كونه لم يمُت مثلما اعتقد البعض. استهدف المتظاهرون الميليشيات التي غدت دويلات تتحكم تماما بأحياء المدينة، في غياب مؤسسات الدولة المشلولة منذ 2014.

وطالب المتظاهرون في ميدان الشهداء بإخراج المسلحين من العاصمة، لكن الأهم أنهم طالبوا بجيش وشرطة (كان شعارهم «نبو جيش ونبو شرطة» أي نُريد جيشا ونريد شرطة)، وهو مطلب اعتبر البعض أنه يصبُ الماء في طاحونة الجنرال خليفة حفتر.

لكن رفع هذا الشعار يعني أولا الإيمان بأحقية الدولة في احتكار العنف الشرعي وضبط النظام العام، وإن كان حفتر استثمره أيضا للقول بأن الجيش الذي يُريده المتظاهرون هو جيشه.

غير أن وصول جيش حفتر إلى العاصمة أمرٌ بعيد المنال بسبب غياب التغطية الجوية وصعوبة ضمان التموين والإمداد لقوات تبعد ألف كيلومتر عن قواعدها الخلفية.
الأهم من ذلك أن متظاهرين سلميين تصدوا مرة أخرى لمُسلحي الميليشيات في قلب العاصمة بصدور عارية، وأن الميليشيات أطلقت عليهم النار، مثلما فعلت في الماضي، لأنها لا تعرف لغة أخرى سوى لغة القتل، ما أدى إلى جرح واعتقال العشرات.

ففي 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2013 فتح أيضا عناصر الميليشيات النار على المتظاهرين ضد حكومة علي زيدان في ضاحية غرغور، وكان المُحتجون يحملون رايات بيضاء فقُتل منهم 43 مواطنا وجُرح أكثر من 160.

وتكرر هذا السيناريو في حزيران/يونيو الماضي.

إحراج للمجلس الرئاسي

زاد هذا الرد العنيف من حرج المجلس الرئاسي، الذي لم يجد لديه الطرابلسيون حضنا آمنا يحميهم من سطوة المسلحين وجبروتهم.

ورفعا للحرج طلب المجلس الرئاسي من النائب العام فتح تحقيق حول تعرض المتظاهرين لإطلاق النار في ميدان الشهداء، إلا أن نتائج التحقيق ستُدفن في الأدراج مثل سابقيه، لأن المجلس الرئاسي لا يملك القوة لتنفيذ القرارات القضائية، هذا إذا تجاسر المُحققون على الكشف عن الفاعلين الحقيقيين، سواء من أعطى الأوامر أم من نفذها.

والغريب أن بيان المجلس الرئاسي حض المواطنين على «ضبط النفس وعدم الانجرار وراء الفتن التي من شأنها إدخال العاصمة في حمام دم»، وكأنه يطلب من المتظاهرين أن يُخلوا المجال للميليشيات، بالرغم من أن البيان أكد على الحق في حرية التعبير بالطرق السلمية.

الجانب المُهم في هذا التطور المفاجئ داخل العاصمة هو أنه مؤشرٌ على استفاقة المجتمع المدني، الذي تعرض لحملات ترهيب وتصفية شاملة كسرت الزخم الذي انطلق مع انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011.

ولوحظت بعد سلسلة الاغتيالات، التي طالت شخصيات عامة، من بينها المحامية البارزة سلوى بوقعيقيس والوجه السياسي والحقوقي المعروف عبد السلام المسماري والناشطة المدنية انتصار الحصايري، موجة انحسار عامة للجمعيات والمنظمات الأهلية التي تفككت واندثر كثيرٌ منها، بعد اندلاع الصراع بين «فجر ليبيا» وعملية «الكرامة» في 2014.

كان العدد التقديري المتداول للجمعيات الأهلية يُراوحُ بين 1800 و1900 منظمة وجمعية منتشرة في كل ربوع البلد، بعدما كان عددها لا يتجاوز 95 جمعية (غير مستقلة) في عهد القذافي. أما اليوم فتدلُ جميع المؤشرات على تراجع ذاك الزخم، إذ توقفت غالبية الجمعيات عن العمل وتفرق أعضاؤها.

الإعلام حلقة مفقودة

كان لاحتجاب كثير من الصحف وتوقف محطات إذاعية وقنوات تلفزيونية عن البث في السنتين الأخيرتين أثرٌ كبير في تراجع دور الإعلام التحفيزي والتنويري، لاسيما في ظل أزمة وسائل الإعلام العامة ما أتاح للقنوات الخاصة استقطاب المشاهدين وخدمة أجندات سياسية لا تتطابق مع رسالة المجتمع المدني.

وفي هذا السياق حذر «المركز الليبي لحرية الصحافة» من التحريض في وسائل الإعلام مُعتبرا أن الأخيرة «لا تدعم السلم المجتمعي وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، بقدر ما تلعب دورا سلبيا، خصوصا في ظل غياب التنظيم الهيكلي والقانوني لقطاع الإعلام»، ومنتقدا بشدة «الخروق التي يرتكبها الصحافيون سواء باعتماد خطاب التحريض والكراهية أم التعاطي بشكل غير مهني مع قضايا الإرهاب والنزاعات المسلحة».

مع ذلك تدلُ التعبئة التي أتاحت خروج الآلاف إلى شوارع طرابلس على أن نبض المجتمع المدني ما زال حيا في المدينة، وأن السكان وصلوا إلى أقصى ما في قُدرتهم على تحمُل الاشتباكات المتتالية بين الميليشيات وسط المباني السكنية، والشوارع المكتظة بالأهالي، في كل من حي الأندلس وقرجي وغوط الشعال وقرقارش، مع استخدام الأسلحة المتوسطة والثقيلة في تلك المعارك.

قبل ذلك خرج المتظاهرون في الأول من حزيران/يونيو الماضي إلى شوارع طرابلس احتجاجا على تدهور الأوضاع المعيشية وخاصة انقطاع الكهرباء وشح السيولة في المصارف، وشكلت المظاهرات بدورها علامة على يقظة المجتمع المدني واستعادة ثقته في نفسه.

أليست عودة الحيوية هذه مُقدمة لتنامي دور المجتمع المدني وإسهامه في تحقيق ما عجزت عن إنجازه الحكومات الثلاث، عن طريق تعزيز دور الجمعيات والمراصد ووسائل الرقابة المجتمعية؟

واستطرادا ألا يمكن أن يشكل المجتمع المدني في المستقبل القوة الثالثة التي تحسم الصراع بين الجنرال حفتر والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق؟
المحكُ الذي ينبغي اعتمادُهُ لاختبار مدى قوة المجتمع المدني وقدرته على توجيه الأحداث هو بلا شك إنهاءُ المظاهر المسلحة في العاصمة، وإخراج الميليشيات منها إلى معسكرات بعيدة عن التجمعات السكنية، ومعاقبة المخالفين.

وهذه الخطوة تحتاج إلى اتفاق ليبياقليميدولي على إنهاء المظاهر المسلحة في المدن، تنفيذا للترتيبات التي نص عليها الاتفاق السياسي، وهنا يمكن أن يلعب المجتمع المدني دورا مؤازرا ومُكملا لدور الدولة.

***

رشيد خشانة ـ كاتب وصحفي تونسي

_______________

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *