بقلم ياسين خطاب

لعلّه سؤال متأخّر زمنيّا عند كثيرين، فقد وقع الفأس في الرأس كما يقولون، نعم هي فأس الثوّار وإنها رؤوس أصنام السلطة، واليوم ليس بيد أحدنا أن يُعيد الأيّام لنفكّر قبل أن تصدح أصوات الميادين الهادرة في شوارع القاهرة وصنعاء وتونس وبنغازي ودمشق.

لكن إلحاح السؤال يشغل عقولنا كلّما طرقت الثورة أبوابها وجدّدت ذكراها في وجدان الثائرين وخيالهم حين أرادوها لتوفّر العيش الكريم فقالوا “خبز”، وتعتق الفكر والقلم فهتفوا “حرية”، وتجلب المساواة والعدل فصدحوا “عدالة اجتماعية”، فالثورة في أولى لحظاتها لم تكن سوى مشروع “الخلاص الجماعي” لأفراد استبدّ بعقولهم حلم الانطلاق ومجتمعات أنهكها خراب السلطة.

جرت الأيّـامِ وحدث ما رأيتم حين أرادت قوى الثورة المضادة كما اصطلح على تسميتها أن تعيد إلى الميادين هدوءها، وأن تنقل الضجيج وأصحابه إلى عنابر السجون، وحفر المقابر، وتقول آلتها الإعلامية بلا حياء: أيها الثائرون .. قد ضرّكم من غرّكم، فقد أَضعتم البلاد خلف مغامراتكم، فلا أرضًا قطعتم ولا ظهرًا أبقيتم.

إنها مأساة عقل يقفز إلى النتائج مهملا أسباب الظواهر ودوافعها، عقلٌ لا يريد أن يواجه حقيقة أعلنها ابن خلدون مبكّرا في مقدّمته حين كتب “الظلم مؤذن بخراب العمران”، فهم يريدون منا أن نسلّي أنفسنا بالوهم، ونغضّ أبصارنا عن المآسي، بل يريدون لنا أن نموت ذُلاًّ على أسرّة مستشفيات تفتقد لأدنى مقوّمات الإنسانية، أو ننتظر أجلنا في السجون على ذمّة التفكير، أو أن نهلك في حوادث المرور جرّاء طرقاتنا المتهالكة، المهم أن لا يعيش الواحد منّا عزيزًا يطالب بحقّه في الحياة، وشريفًا يرفع الظلم عن بلده وأهله.

لمَ يستكثر علينا أمثال هؤلاء بلدًا نتعايش في أرجاءه وندير اختلافنا داخله، ويجعلون أقصى ما يمكن أن يهبه الوطن لأبناءه تذكرة هروبٍ نحو فردوس الغرب الموعود، إنهم يصنعون الوطن آلهة لا تقبل العزّة لمحبّيها، فتتلّذذ بظلمهم وقتلهم وتشريدهم، ويزعمون أن الحياة لا يمكن أن تحلو لنا ولأوطاننا في آن معًا، وكأني بالشاعر العراقي أحمد مطر يهجوهم حين كتب ساخرًا:

نموت كي يحيا الوطن

يحيا لمن ؟

من بعدنا يبقى التراب والعفن

نحن الوطن !

من بعدنا تبقى الدواب والدمن

نحن الوطن !

إن لم يكن بنا كريماً آمناً

ولم يكن محترماً

ولم يكن حُراً

فلا عشنا.. ولا عاش الوطن!

سيقول بعضهم: لقد فشلت الثورة حين حكمت، فاتركوا الناس يقررون مصيرهم ؟ ودعوا البلد للسابقين من حكّامه ؟ فأقول لهؤلاء: أي مصير ينتظر البلد وأهله إن لم يكن العدل أساسه، وحقوق الناس وجهته،  فلم يفسد أوطاننا سوى الحلول الجاهزة، والأفكار المسلوقة، فأي حلول سيجدها من يكرّر تجربته مرّة بعد أخرى ويتوقّع نتائج مختلفة؟ ذلك هو الجنون بعينه وفق أينشتاين الذي كان يقضي جلّ وقته في فهم المشكلة قبل البحث عن حلها.

أمّا القول إن الحل يكمن في التفاهم مع الغرب، فهو حل راهن ينطلق من ضعفنا وعدم قدرتنا على أي فعل مرحلي، لكنّه قطعًا حلٌّ وإن رضينا به آنيًّا فلايمكن القبول به على الدوام، فأي غرب يجب علينا أن نتفاهم معه؟ وإلى متى سنظلّ بانتظار تعاطفهم؟ ومتى سيبقى العربي في أوّل الطابور؟ فنحن اليوم في حاجة ماسّة إلى حلول تقوم على احترام ذواتنا وإعادة تصوراتنا بالقدر ذاته الذي نحن بحاجة إلى إعطاء الآخر وزنه ومساحات تحرّكه.

الثورات وإن فشل بعض قياداتها إلاّ إنها لم تكن مشروع عجز ولا فشل، والسّير وإن بدا متوقّفا إلاّ أن المسار لم يكن خاطئا، لكنه التغيير ولابدّ أن يأخذ زمنه، فالوقت جزءٌ من العلاج، فهو الذي سيصنع للبلد نخبته، ويرفع للشعب إدراكه ويصحّح له كثيرا من تصوّراته.

***

ياسين خطاب/ صحفي ليبي

______________

مواد ذات علاقة

Leave a Reply to Anonymous Cancel Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *