بقلم د. ياسر عبدالعزيز

تعطينا ليبيا حالياً المثل الأوضح على «تسلح الإعلام»، وتحوله إلى أداة قتال رئيسية فى معارك سياسية وصراعات مسلحة، بعدما انخرطت وسائل الإعلام الليبية فى المعركة الدائرة بين طرفى النزاع المتمثلين فى «الحكومة الانتقالية» و«البرلمان»، بطبرق، من جانب، و«حكومة الإنقاذ» و«المؤتمر الوطنى»، بطرابلس، من جانب آخر.

فى حوار أجرته «المصرى اليوم» مع الناطق باسم رئاسة أركان الجيش الليبى، العقيد أحمد المسمارى، يوم الجمعة الماضى، قال إن «حكومة الإنقاذ»، التى يعارضها الجيش الوطنى، وحلفاءها الإقليميين، «يستخدمون الإعلام بشكل كبير، ولديهم أكثر من مؤسسة إعلامية تتبع (داعش) و(القاعدة، وحدد أسماء بعض الفضائيات التى يتهمها بلعب أدوار لصالح تلك التنظيمات الإرهابية.

فى المقابل، فإن «حكومة الإنقاذ» تتهم خليفة حفتر، والفريق السياسى الذى يمثله، والدول الإقليمية التى تدعمه، بإطلاق فضائيات مخصصة لتشويهها، وإشاعة أخبار مضللة عنها.

لا يقتصر الأمر على تبادل الاتهامات بين أطراف النزاع الليبى، لكن دراسات علمية، منها دراسة نشرها الباحث د. محمد على الأصفر، فى فبراير 2015، أثبتت أن «الفضائيات الليبية أسهمت فى تأجيج الصراع، وأضحت أداة من أدوات القتال، عبر التحيز، والأخبار المجهلة، وغياب الموضوعية».

يعطى الإعلام الليبى المثل الأوضح لتأثير الظروف السياسية فى البيئة الإعلامية؛ فبعد الإطاحة بحكم القذافى شهد هذا الإعلام قدراً من الانفتاح والتنوع، فى ظل غياب سلطة مركزية مهيمنة، بعد أكثر من أربعة عقود من الحكم الشمولى، الذى حول وسائل الإعلام إلى أذرع دعاية، بعيداً عن أى قواعد مهنية.

لكن غياب التنظيم أدى إلى انحراف ممارسات وسائل الإعلام بشدة، حتى إن معاهد ومراكز بحوث دولية، مثل «المعهد الأمريكى لمؤشرات السلام» ، و«معهد الاستشارات ألتاى» ، اعتبرت أن «الرأى العام الليبى لم يعد يثق فى وسائل الإعلام الوطنية بسبب ممارساتها غير المهنية، وشيوع أنماط الأداء الحادة والمنفلتة، وعدم الالتزام بالقواعد المنظمة للعمل الإعلامى».

بعد أكثر من ثلاث سنوات من الممارسات الإعلامية المنفتحة وغير المسئولة، فى ظل هشاشة سلطة الدولة، وغياب التقنين، جرت الانتخابات البرلمانية فى يوليو من العام 2014، وهى الانتخابات التى أدت إلى خسارة التيارات الأصولية، وتوزع السلطة بين كيانين رئيسيين؛ أحدهما فى الشرق متمثلاً فى «برلمان طبرق»، المدعوم من «عملية الكرامة» بقيادة المشير خليفة حفتر قائد الجيش، وثانيهما فى الغرب متمثلاً فى «المؤتمر الوطنى العام» المنتهية ولايته، والمدعوم من حركة «فجر ليبيا».

اندلع الصراع المسلح بين الجانبين، وانخرطت ميليشيات عديدة فى أعمال القتال، إضافة إلى الجماعات «الجهادية» المسلحة، وبعض القبائل، التى استخدمت الأسلحة أيضاً فى صراعات شملت أرجاء البلاد المختلفة.

وفى غضون ذلك، وقعت انتهاكات حادة بحق وسائل الإعلام والإعلاميين والصحفيين، بعدما تحولت تلك الوسائل إلى أذرع دعائية للأطراف المتصارعة، بحسب ما أظهرته بحوث ودراسات أجرتها جهات موثوقة؛ حيث انعكس الانقسام السياسى على الساحة الإعلامية بوضوح، لتبلغ الممارسات الإعلامية فى ظل هذا الانقسام حدوداً قياسية فى تخطى القيم المهنية، إلى حد أن بعض هذه الممارسات يحرض مباشرة على العنف والإبادة الجماعية لبعض الفئات والشرائح والسكان.

لقد تزايد عدد وسائل الإعلام الليبية فى فترة الحرب الأهلية كالفطر، وهو أمر يعود إلى دخول مستثمرين جدد فى صناعة الإعلام.

وفضلاً عن الجانبين المتصارعين، اللذين طور كل منهما وسائل إعلام مؤيدة ومساندة له، دخلت الأموال السياسية من دول فى الإقليم وخارجه، إضافة إلى عدد من رجال الأعمال، الذين سعوا إلى اتخاذ نقاط ارتكاز فى الواقع السياسى والاجتماعى الذى يتشكل فى البلاد، عبر امتلاك وسائل إعلام.

بسبب توظيف وسائل الإعلام فى الصراع، باتت البيئة الإعلامية امتداداً لحالة الحرب الأهلية، وراحت الأطراف المتصارعة تستهدف وسائل الإعلام والإعلاميين بأعمال العنف، كجزء من عملياتها المسلحة.

من بين الانتهاكات التى وقعت بحق وسائل الإعلام والإعلاميين عمليات اقتحام، وقصف بالصواريخ و«الهاون»، وإيقاف بث، وخطف صحفيين، وقتل، وترويع، وتهديد.

فى شهر مارس من العام 2014، اقتحم مسلحون مقر قناة «النبأ»، وأوقفوا بثها، وقبل ذلك، تعرض تليفزيون «بنغازى تى فى» للقصف بقذائف «الهاون»، كما اقتحم مسلحون قناة «العاصمة»، وخطفوا ثلاثة من العاملين بها، كما تعرضت قناة «ليبيا الحرة» لاعتداء بالقنابل اليدوية، فى بنغازى، فى يونيو 2014، وهى اعتداءات سجلتها المراصد والمراكز الحقوقية، كما صدرت بحقها بيانات إدانة من مؤسسات دولية.

ويمكن فى هذا الصدد إجمال ستة عناصر رئيسية تصف الأوضاع الحالية للإعلام الليبى على النحو التالى:

تحول صناعة الإعلام إلى أداة موظفة سياسياً لمصلحة أطراف الحرب الأهلية، بما يجعلها هدفاً دائماً للقوى المتصارعة، ويحرفها عن أدوارها المهنية.

هشاشة البنية التحتية المتمثلة فى آليات البث والتوزيع، والمطابع، وشبكات الاتصالات، ومقار العمل، والتجهيزات اللوجيستية.

صدور عدد كبير من وسائل الإعلام الليبية من خارج البلاد، بالنظر إلى الصعوبات الأمنية وتفاقم المخاطر، بما يعنيه هذا من غياب القدرة على المتابعة والتغطية الميدانية للوقائع.

زيادة كبيرة فى المال السياسى الذى دخل الصناعة؛ سواء من دول إقليمية أو أجنبية أو من رجال أعمال وجماعات سياسية ودينية، بهدف استخدام وسائل الإعلام فى الصراع السياسى.

تدنى ثقة الجمهور الليبى فى المنظومة الإعلامية الوطنية.

تفاقم مخاطر إشاعة خطاب الكراهية، والتمييز، والتحريض على العنف، الذى يحول وسائل الإعلام أحياناً إلى أدوات لتأجيج الصراع.

وببساطة شديدة فإن تلك الملامح الرئيسية لصناعة الإعلام فى ليبيا لا يمكن أن تنتج منظومة إعلامية تتحلى بالحد الأدنى من اشتراطات الوفاء بالدور المنوط بها، والأخطر من ذلك أنها تبدو أقرب إلى منظومة تسلح من كونها منظومة إعلامية.

يزيد الدور الخارجى فى تلك المنظومة بالتوازى مع زيادته فى الحرب الأهلية المشتعلة فى ليبيا، وكما يأتى السلاح من الخارج، فإن البث كذلك يأتى من خارج الحدود، وكما تتدنى ثقة المواطنين فى الأطراف المتصارعة، فإن ثقة الجمهور تتدنى حيال الأداء الإعلامى.

إن الدرس الليبى فيما يخص التطورات الإعلامية المصاحبة للتغيرات السياسية الحادة التى ضربت هذا البلد، مرير.

يؤدى تفكك سلطة الدولة إلى تضعضع سيادتها على المجال الإعلامى، وهو أمر يقود إلى بيئة إعلامية «قتالية» بامتياز، تعمل على تأجيج الصراع وليس حله، وتغذى نزعات العنف، وتعمق الكراهية.

بسبب هذا الانهيار السياسى والإعلامى يستسلم الجمهور الليبى، كما تقول البحوث، إلى فضائيات ناطقة بالعربية تبث من عواصم لديها مصالح سياسية فى ليبيا، ولديها جماعات مقاتلة على الأرض.

تقوم تلك الفضائيات بتقديم حصص دعائية للفريق السياسي/ الميليشياوى الذى تدعمه، ولا تقدم بالطبع حصصاً إخبارية تتسم بالموضوعية وتتحلى بالدقة.

عندما تنهار سيادة الدولة على الأرض، فإن سيادتها على مجالها الاتصالى تنهار أيضاً، ويلعب الإعلام دوراً خطيراً فى تلك الأثناء لإبقاء الدولة فاشلة ومنهارة.

_______________________

 

مواد ذات علاقة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *