بقلم د. زياد عقل

سادت حالة من التفاؤل بعد انعقاد اجتماع باريس الثلاثي بين الرئيس الفرنسي، وخليفة حفتر القائد العام للجيش الوطني الليبي، وفايز السراج رئيس المجلس الرئاسي، خاصة بعد أن صدر بيان اجتماع باريس ليؤكد على اتفاق الطرفين على ضرورة اللجوء للحل السياسي في ليبيا.

وجاء اجتماع باريس ليبني على ما جاء في الاجتماعات السابقة بين حفتر والسراج في كل من القاهرة وأبو ظبي، حيث أكد على التمسك بعدد من النقاط التي من الواضح أنها باتت تشكل الإطار العام للتسوية السياسية في ليبيا، وهي التمسك بهيكل الدولة الناتج عن اتفاق الصخيرات، والمتمثل في المجلس الرئاسي، ومجلس النواب، ومجلس الدولة كمؤسسات، وحكومة وفاق وطني تحصل على تأييد مجلس النواب كسلطة تنفيذية، والجيش الوطني الليبي كقوة عسكرية شرعية، مع الاتفاق على ضرورة تعديل بعض النقاط الخلافية في الاتفاق من خلال جولات تفاوض، وهي النقاط المتعلقة بتشكيل المجلس الرئاسي والسلطة المباشرة على القوات المسلحة الليبية.

كما أكد اجتماع باريس أن الطرفين (سراج وحفتر) مع المضي قدما في عملية سياسية مؤسسية تبدأ بالاستفتاء على الدستور وتنتهي بانتخابات رئاسية وبرلمانية.

وقد يبدو الأمر وكأن ليبيا باتت بالفعل على شفا الخروج من أزمة الانقسام، خاصة أن اجتماع باريس هو ثالث لقاء في سلسلة مباحثات ومفاوضات بين الطرفين، بجانب دعم إقليمي ودولي لمسار التسوية السياسية وإطارها، وتحديد للنقاط الخلافية وآلية التفاوض حول تعديلها، وهو ما يشير لحالة من الحلحلة تشي ببعض الأمل للخروج من الأزمة الحالية.

ولكن ما يحدث على أرض الواقع داخل ليبيا لا يشير بالضرورة لاقتراب هذا الحل.

فالخلاف الذي حدث بين حفتر والسراج حول دخول سفن حربية إيطالية لميناء طرابلس، وتهديد خليفة حفتر بأن الجيش الوطني الليبي سوف يقوم بضرب أية سفن حربية أجنبية تدخل المياه الإقليمية الليبية، وإصرار السراج على أن التواجد الإيطالي ليس تدخلًا عسكريًا ولكنه استكمال للدعم والتعاون اللوجيستي مع سلطات خفر السواحل الليبية، كل هذا يشير إلى أن الطرفين، بالرغم مما جاء في بيان اجتماع باريس من توافق، لازالا يتصارعان داخليا حول بسط النفوذ والتعامل مع الفاعلين الدوليين أو الأطراف الإقليمية.

وبالتالي الأقرب للواقع هو أن الأطراف الليبية بدأت تستعد لمرحلة التفاوض، ولكن هذا الاستعداد لا يعني التعاون أو التنسيق المشترك وبالتالي ينعكس على مجريات الصراع على الأرض، ولكنها مرحلة تحاول فيها الأطراف الليبية زيادة نفوذها وإعادة بناء تحالفاتها قبل الدخول لمرحلة التفاوض، وهو ما تُدلل عليه الخلافات الداخلية والتحركات الخارجية لكل من حفتر والسراج في الفترة الأخيرة.

لكن بالرغم من عدم توصل الأطراف الليبية لمرحلة بها ما يكفي من تنسيق وتوافق للمضي قدما في التسوية السياسية، وإنهاء الصراع، ورفع العبء عن الشعب الليبي، إلا أن مجمل محاولات التسوية السياسية التي بدأت بإعلان القاهرة في مارس الماضي (2017) تشير إلى أن هناك عددًا من التحولات في المشهد الليبي من المهم رصدها حتي نتمكن من قراءة المشهد بشكل وافي.

تراجع احتمالات التدخل العسكري الخارجي

بات من الممكن القول إن احتمالات التدخل الدولي العسكري في ليبيا باتت غير مطروحة في المرحلة الراهنة، وهو تحول كبير بالمقارنة بالوضع السائد خلال عام ٢٠١٥، عندما كانت هناك مشاورات حول تشكيل قوة عربية مشتركة واحتمال تدخلها في ليبيا، وتلويح كل من فرنسا والولايات المتحدة في ذلك الوقت باحتمال اللجوء للعمل العسكري في ليبيا.

فمنذ تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة في يناير الماضي (2017) لم تعد ليبيا على أجندة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وبالطبع لم تخرج الولايات المتحدة من المشهد في ليبيا، ولكنها باتت أقرب للمراقب منها إلى الفاعل.

وبالرغم من تأكيد الإدارة الأمريكية مرارًا وتكرارًا على اهتمامها بالوضع في ليبيا، إلا أنها لم تعد متواجدة على الأرض داخل ليبيا مثلما كانت خلال فترة إدارة باراك أوباما.

وفيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي، لم يعد هناك اجماع داخل الاتحاد حول أفضل طريقة للتعامل مع ليبيا؛ فبعد أن كان الخيار العسكري مطروحًا في 2015، بدأت الدول الأوروبية في التعامل مع الوضع في ليبيا كدول منفردة وليس من خلال مظلة الاتحاد الأوروبي، وهو ما تفعله فرنسا، وإيطاليا، وإنجلترا.

كما أن الخلافات حول سياسات الهجرة، وتعامل أوروبا مع شمال أفريقيا كبوابة للهجرة غير الشرعية، خلقت هذه الخلافات المزيد من الصعوبات أمام التوصل لموقف موحد داخل الاتحاد الأوروبي حول ليبيا، وهو ما كان له أثره بالتراجع عن فكرة التدخل العسكري وتفضيل اللجوء إلى حماية المصالح من خلال التواصل المباشر مع الأطراف المعنية داخل ليبيا.

وعلى الصعيد الإقليمي، لم تعد فكرة القوة العربية المشتركة مطروحة من الأساس، كما أن الانسداد السياسي الناتج عن اختلاف رؤى كل من مصر والجزائر بشأن ليبيا تم حله من خلال التنسيق بين الدولتين، وبالتالي لم يعد هناك داعي للجوء للتدخل العسكري من قبل دول جوار ليبيا.

الأمر الآخر الذي يقلل من احتمالات التدخل العسكري في ليبيا هو تطور القدرات العسكرية والكفاءة القتالية للجيش الوطني الليبي، وقدرته على فرض سيطرته على رقعة جغرافية شاسعة بين الشرق والجنوب في ليبيا، وتحديث قدراته اللوجستية من خلال دعم مستمر من مصر والإمارات، بالإضافة للشرعية التي يتمتع بها من قبل مجلس النواب، وهو ما سمح له بأن يكون الطرف الأقوى عسكريا والقادر ليس فقط على تطوير قدراته، ولكن أيضا الحفاظ على تماسكه ووحدته، خاصة في ظل انهيار عدد كبير من تحالفات الميليشيات في الغرب الليبي. وبالتالي، مع وجود قوة عسكرية قادرة على السيطرة شبه الكاملة على المناطق المتواجدة بها، وتتلقى دعمًا بشكل منظم يطور من قدراتها، باتت تكلفة التدخل العسكري أعلى بكثير من ذي قبل عندما كانت الكيانات العسكرية الليبية مفككة وأقل قوة.

التوازنات الإقليمية والدولية

شهدت التوازنات الإقليمية والدولية فيما يتعلق بالأطراف المتصارعة في ليبيا تغيرًا ملحوظًا. كما قامت هذه الأطراف بتحركات واضحة بعد اجتماع باريس، على المستويين الدولي والإقليمي.

دوليا، بدأ حفتر في التقرب لروسيا بشكل ملحوظ، وبدأ عمق العلاقات بين خليفة حفتر وروسيا يمتد لتخرج من حيز الدعم السياسي فقط لحيز التعاون العسكري، وهي أحد أهم المصالح الروسية في القضية الليبية، والحصول على نصيب الأسد من عقود إعادة تسليح الجيش الليبي فور رفع حظر التسليح عنه، وهو ما يضمنه خليفة حفتر لروسيا، سواء بوجوده على رأس القوات المسلحة أو السلطة السياسية.

وبالإضافة لزيارة موسكو، وعقد جلسة مع وزير الدفاع الروسي، توجه حفتر بعد اجتماع باريس إلى عمان لعقد لقاء مع السفير الأمريكي في ليبيا، وهو ما فسرته السفارة الأمريكية على أنه حرص منها على التواصل مع كل الأطراف، ولا يعني بالضرورة دعمًا سياسيًا.

هذه التحركات تشير إلى نية حفتر فرض نفسه ليس كقيادة عسكرية فقط، بل سياسية أيضًا. وكما تشير إلى تفهم القوى الدولية لتحول خليفة حفتر لأقوى أطراف الصراع ميدانيًا في الوقت الحالي. ومن ناحية أخرى، يستمر حفتر في حسن استخدام الدعم غير المنقطع من كل من مصر والإمارات على كل المستويات كي يصنع لنفسه أرضية صلبة من الدعم يقف عليها خلال مرحلة التفاوض حول التسوية السياسية.

على الجانب الآخر، لا تختلف محاولات فايز السراج لتحسين وضعه خلال عملية التفاوض المرتقبة عن محاولات حفتر، وإن كان السراج يمتلك عددًا أقل من الكروت نظرًا للعديد من الأسباب.

الدعم الدولي الأساسي الذي يعتمد عليه فايز السراج هو الدعم الأوروبي، حيث تجد أوروبا نفسها في حاجة للتواصل الدائم مع السلطة الموجودة بطرابلس بسبب استخدام سواحلها كممر للهجرة غير الشرعية لأوروبا.

وفي الوقت ذاته، هناك كم ضخم من الاستثمارات الأوروبية (الإيطالية على وجه الخصوص) في الغرب الليبي، وبالتالي لا تسعى أوروبا للدخول مرة أخرى في مرحلة من غياب السلطة الشرعية داخل طرابلس أو اتهامها بالتعامل مع كيانات غير شرعية؛ فالسراج بالرغم من ضعف نفوذه ميدانيا في الغرب الليبي، إلا أن الدعم المستمر من الأمم المتحدة يجعله القيادة الأكثر تواصلا مع الفاعلين الدوليين.

أضف إلى ذلك انهيار تحالفات الميليشيات والتحالفات السياسية في الغرب الليبي بشكل دوري خلال العام الماضي، ولذا يعد السراج أمل أوروبا الأخير كي لا ينزلق الغرب الليبي في مرحلة من تشرذم السلطة بالرغم من هشاشة نفوذ السراج في المنطقة الغربية.

وكما هو الشأن بالنسبة لحفتر، فقد التقى السراج هو الآخر بالسفير الأمريكي بعد اجتماع باريس.

وإقليميًا، تجد الجزائر نفسها في موقف مشابه للموقف الأوروبي، فبالرغم من كون فايز السراج هو الطرف الأضعف بين الفاعلين في الغرب الليبي، إلا أنه مرة أخرى الطرف الوحيد الذي يحظى بشرعيه، وتجاوزه يعني خرقًا لاتفاق دولي تحرص كل دول جوار ليبيا على الإبقاء عليه كإطار للخروج من الأزمة.

وهكذا، فإن التوازنات الدولية والإقليمية في المرحلة الحالية، والتي تسبق الدخول في جولة من التفاوض، باتت في صالح خليفة حفتر أكثر من فايز السراج، وفي صالح الشرق الليبي الذي استطاع الحفاظ على دعم مستمر وغير منقطع من عدد من الأطراف والفاعلين سواء دوليا أو إقليميا، وهو ما يعني أن الشرق الليبي سوف يكون الطرف الذي يقدم التنازلات الأقل في المرحلة المقبلة خلال جولات التفاوض نظرًا لوحدة موقفه، وقوة حلفائه، وسيطرته الميدانية.

التحالفات الداخلية في ليبيا

لا يختلف الوضع داخل ليبيا كثيرًا عن الوضع إقليميا ودوليا؛ فهناك محاولات على مستويات متعددة يسعى كل طرف من خلالها لضمان أكبر قدر ممكن من الدعم الداخلي، سواء على المستوى القبلي أو الجغرافي أو السياسي.

على سبيل المثال، تقوم مصر في الفترة الأخيرة بمحاولات متكررة لعقد جلسات صلح بين قبائل مصراتة وقبائل المنطقة الشرقية، حيث عقدت بالفعل جلستان بالقاهرة.

ومن المفترض أن تستمر تلك الجهود. وهي محاولة لجعل قبائل مصراتة أكثر مرونة، وقبولا لخليفة حفتر كجزء من عملية التسوية السياسية، بل ومستقبل ليبيا السياسي. وتشير الكثير من التقارير الصحفية في الفترة الأخيرة أن هناك انقسامًا داخل مصراتة حول حفتر، وهو ما يعد تطورًا في صالح حفتر مما لا شك فيه.

وعلى الجانب الآخر، يبذل فايز السراج محاولات مماثلة في الغرب يسعى من خلالها جاهدًا للحصول على المزيد من التأييد القبلي والجغرافي.

علي سبيل المثال، قام السراج في يونيو 2107 بإصدار قرار من المجلس الرئاسي بتقسيم ليبيا إلى ٧ مناطق عسكرية وتعيين آمر عسكري لكل منطقة، بما في ذلك بنغازي وطبرق، والجفرة، وهي المناطق التي لا يوجد للسراج أو للمجلس الرئاسي بها أية سلطة أو تواجد ميداني.

وجاءت التعيينات بعدد من قادة الميليشيات ممن ينتمون لقبائل ذات نفوذ في موقع آمر المنطقة العسكرية. ولعل الأزمة الأخيرة حول زيارة وفد من عملية البنيان المرصوصلقطر لشكرها على دعمها للعملية والاعتراف بدورها في مواجهة الإرهاب في ليبيا دون علم المجلس الرئاسي، وهو ما دفع السراج لإصدار بيان عن المجلس الرئاسي لإدانة الوفد والزيارة، يعني أن حجم الدعم الداخلي وسقف التوافق حول فايز السراج والمجلس الرئاسي يتراجع داخل المنطقة الغربية، وهو ما يمنح بدوره خليفة حفتر والمنطقة الشرقية فرصا أكثر خلال مرحلة التفاوض، ويجبر فايز السراج على تقديم الكم الأكبر من التنازلات خلال العملية التفاوضية.

مسار التسوية السياسية

تظل آلية دول الجوار حتى الآن هي الآلية التي أثبتت أكبر قدر من الفاعلية في التواصل مع مختلف الأطراف الليبية، وعلى العمل على جهود المصالحة الوطنية سواء من الداخل الليبي أو من خارج ليبيا.

ويرجع ذلك إلى لكم المصالح التي تربط هذه الدول بالوضع في ليبيا. فبالرغم من معاناة أوروبا من ظاهرة الهجرة غير الشرعية، والتي تعد ليبيا وعدم استقرارها أحد بواباتها، إلا أن حجم التهديد الذي يخلقه الصراع في ليبيا على دول الجوار لا يمكن مقارنته بأي تهديد يخلقه الصراع الليبي لدول أخرى.

وبالتالي سوف يكون المسار الأكثر فاعلية للتسوية السياسية هو المسار المقترح من قبل دول الجوار بتشكيل لجنة من مجلس النواب ومجلس الدولة للتفاوض حول تعديل الاتفاق، ثم إجازة الاتفاق المعدل من قبل المجلسين، ثم الانتهاء من كتابة الدستور والاستفتاء عليه، ثم صياغة قانون جديد للانتخابات وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية قبل نهاية عام 2018، وهو ما سوف يتم في ظل وقف لإطلاق النار، وجهود دمج العسكريين السابقين من أعضاء الميليشيات في الجيش الوطني الليبي، وهو ما يمكن تحققه إذا ما استمرت دول الجوار في التواصل مع كافة الأطراف الليبية، واستخدام وسائل الضغط الكثيرة التي تملكها كل من مصر والجزائر وتونس للتأكد من عدم تعطيل مسار التسوية السياسية في ليبيا.

الخلاصة

لقد باتت ليبيا بالفعل على شفا الدخول لمرحلة جديدة من التحولات السياسية، لا تعني هذه المرحلة أن الصراع السياسي والعسكري الدائر في ليبيا قارب على الانتهاء، فنهاية الصراع في ليبيا لا تعتمد على محاولات تقريب وجهات النظر بين السراج وحفتر، ولكنها تعتمد على بناء هيكل للدولة، وهو مازال أملا صعب المنال في المرحلة الحالية.

ولكن مما لا شك فيه من الممكن البدء على العمل عليه من خلال تفعيل عملية للمصالحة الوطنية والتسوية السياسية، ولكن اللحظة الراهنة تقول إن آليات الصراع في الفترة القادمة ستختلف كثيرًا نظرًا للاختلاف في توازنات القوى على الصعيدين الداخلي والخارجي.

___________

مواد ذات علاقة