توفيق المديني

أصبحت الدولة في البلدان العربية دولة غنائمية، يسيطر عليها الحكام السادة اللصوص أو مصاصي الدماء الصرف، الذين لا يميزون بين النطاقين العام والخاص، حيث يقوم الحاكم وبطانته ببساطة باغتراف كل ما يرغبون فيه من ثروات البلاد، من دون حسيب ولا رقيب.

من هنا، فإنَّ إصرار الحاكم العربي المستبد على الاستمرار في الحكم، يفرض عليه أن يكون نصيرا للفساد، ومسايرا للاستعمار الخارجي، وهو لن يستطيع ذلك من دون انتهاج سياسة استعمار داخلي، تسمح له بتركيز كل السلطة بين يديه وبين أيدي المقربين منه.

والحاكم وإن فعل ذلك بالمعنى السياسي فحسب في السابق، إلا أنه طور أدوات القمع في سنوات ما بعد 1967، ليضيف المعنى الحزبي الشمولي والطائفي والعائلي والمناطقي، وكذلك الفساد الاقتصادي والمالي، بحيث لم تعد هناك حدود واضحة بين الأمن المشروع والجريمة السياسية، وبين القطاع الخاص والقطاع العام، ولا بين القطاعين الخاص والعام من ناحية، وخزينة الحاكم الخاصة من ناحية أخرى.

كما أنه ابتدع أساليب وتشكيلات مقاتلة لا تحترم قوانين الدولة التي يرأسها هو بالذات، فإذا بنا ندخل إلى مرحلة خصخصة الدولةنفسها، بعد أن شهدنا مراحل الخصخصة الاقتصادية لا لصالح القطاع الإنتاجي الخاص، بل لصالح السلطة الحاكمة وزبانيتها الفاسدة.

قراءة في كتاب

في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: “الدولة الغنائمية والربيع العربي، للمحامي اللبناني أديب نعمة ؛ يقدم فيه الباحث تحليلا معمقا عن طبيعة الدولة الغنائمية السائدة في العالم العربي. لكنه قبل أن يغوص في تأصيل فكر الدولة الغنائمية، فهو يبدأ بتقديم تحليل لطبيعة الأنظمة العربية السائدة.

الملامح الجوهرية للنظام العربي

اعتاد المحللون والخبراء على وصف الأنظمة العربية، من خلال استخدامهم لمجموعة من المصطلحات، يعتقدون أنَّها تعبر عن طبيعة هذه الأنظمة:

  • بعضها الأول ينتمي إلى الحقل السياسي المباشر (ديكتاتورية، تسلطية، شمولية، دولتية، عسكرية، أمنية)،

  • وبعضها الثاني إلى السياسي التاريخي (استبدادية)، أو السياسي الاقتصادي (ريعية)،

  • ويغلب بعضها الثالث البعد الاجتماعي (البطريركية، الأبوية، القبلية/ العشائرية/ العائلية، الطائفية)،

  • وبعضها الرابع يركز على البعد المتعلق بإدارة الدولة (فردانية، مشخصنة، فاسدة، زبائنية) .

 إذا كانت هذه المصطلحات كلها تعبر عن خصائص حقيقية في هذه الأنظمة، فإنَّها لا تخترق بنيتها ووظائفها ولا تلتقط جوهرها الأكثر أهمية، ولا تفصح عن المتشابه بين الفئات الفرعية التي يصح وصفها باستخدام أحد المصطلحات السابقة التي أشرنا إليها.
ثمة تمايزات واختلافات بين هذه المفاهيم، ولكن ثمة ما هو مشترك أيضا، وهو ما قام الباحث أديب نعمة بتبيانه في القسم الثالث من الكتاب، وتحديدا في الفصل الخامس المعنون: الشعب يريد إسقاط النظام: أي نظام؟

الأنظمة غير الديمقراطية

هناك أولا البعد المتصل بغياب الديمقراطية والحريات العامة، أو ضعفها أو تقييدها، وإذ تُعرّف الأنظمة العربية بالنفي بأنها غير ديمقراطية، فإن توصيفها المباشر غالبا ما يتم من خلال وصف النظام بأنه ديكتاتوري أو تسلطي أو استبدادي، وهي المصطلحات الأكثر شيوعا، تحمل إلى حد بعيد دلالات متشابهة، إلى جانب أوصاف أخرى يستعرضها تباعا.

الديكتاتورية الاستبدادية، التسلطية

يقول الباحث أديب نعمة: “الديكتاتورية هي المفهوم النقيض للديمقراطية بحسب الاستخدام الشائع، وبحسب الاشتقاق اللغوي أيضا، ومرجعيتها التاريخية تعود إلى اليونان الأفريقية، يمكن أن تكون ديكتاتورية عسكرية، وهي الأوضح، أو مدنية.

غالبا ما تتميز النظم الديكتاتورية بوجود صلاحيات واسعة جدا جدا للفرد القائد، الذي لا يوجد غالبا ما يحد من سلطته من الناحية القانونية أو العملية، الأنظمة التي تعتمد شكل الدولة الحديثة ومؤسساتها، هي أقرب إلى مفهوم النظام الديكتاتوري من الأنظمة ذات الطابع التقليدي الملكي على سبيل المثال، حيث هناك العائلة ــ القبيلة ــ النخبة اللصيقة بالملك، التي يسمع رأيها، مع تغليب مصلحة الجماعة الضيقة هذه على مصلحة الفرد.

النظم الديكتاتورية هي نظم تقدم نفسها على أنها نظم حديثة بمعنى ما (حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي هو مثال واضح على نظام ديكتاتوري من هذا النوع).
النظام الاستبدادي، هو إعادة صياغة مفهوم النظم الديكتاتورية في بلداننا، مع لحظ المرجعية التاريخية للمنطقة، المصطلح نفسه يحيل إلى مفاهيم الاستبداد الشرقي أو الآسيوي أو الإقطاعي (بمعنى ما قبل الرأسمالي).

وهو شكل من ممارسة الحكم والتسلط موجود في تاريخنا القديم والوسيط والحديث أيضا؛ من استبداد الفراعنة إلى الإمبراطورية العربية ــ الإسلامية الوسيطة إلى السلطنة العثمانية.

إنه أحد صيغ الديكتاتورية، الخاصة بالبلدان النامية ومنها البلدان العربية، لكن المفتوحة على أشكال من التسلط أكثر تخلفا، وأكثر تتنوعا من مفهوم النظام الديكتاتوري، الذي أشرنا إلى أنه ينتمي بالشكل أقلّه إلى مرحلة ما بعد الثورة الصناعية، والاستبدادية هي بمعنى ما ديكتاتورية الأنظمة التقليدية” .

أما مصطلح النظام التسلطي أو الدولة التسلطية، الذي يستخدمه عالم الاجتماع الكويتي الراحل خلدون النقيب في كتابه الدولة التسلطية في العالم العربي، فهو أكثر عمومية وضبابية، ولا يمكن اعتباره مصطلحا دقيقا، كما الديكتاتورية والاستبدادية.

إنه يحيل التسلط إلى أسلوب ممارسة السلطة، ومصدر شرعيتهاالمفروضة قسرا، بغض النظر عن درجة قبولها أو رفضها من قبل المواطنين. التسلطية تحيل إلى سياسة القسر واستخدام القوة المادية أو الرمزية، وقهر المعارضين والمواطنين، والميل تتجاوز القانون، أو سن قوانين جائرة باستخدام القوة والقهر، في العلاقة بين مكونات النظام السياسي ومع المجتمع، لكن أي سلطة لا يمكن أن تحكم دون حد أدنى من التأييد الشعبي ومن المشروعية والشرعية، وتتضمن ممارستها جانب إقناع وجانب قسر.

وعندما يتقلص جانب الإقناع ويتضخم جانب القمع بحكم تراجع قاعدة المؤيدين، تجنح السلطة إلى الممارسات التسلطية القائمة على القسر بشكل متزايد، وتتحول إلى تسلط خال من أي إقناع أو تأييد أو مصلحة.

وصفة التسلطية مشتركة بين الدكتاتورية والاستبدادية، وهي وصف لكيف يمارس الحكم سلطته، وكيف يقيم التوازن بين عنصر القوة والقسر المادي والعناصر الأخرى في فرض الهيمنة.

الأنظمة الدولتية

ينتقل الباحث أديب نعمة إلى توصيف الأنظمة الدولتية التي نجدها سائدة في بعض البلدان العربية، والتي تتميز بدور أساسي للدولة وجهازها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما يتجاوز الدور المتعارف عليه الذي تقوم به الدولة في نموذج الديمقراطيات الليبرالية من النمط الأوروبي.

النظام الدولتي يمكن أن يكون له مسحة اشتراكية (وهي في حقيقة الأمر نزعة شعبوية بالأساس)، إذا تضمن دورا كبيرا للدولة في النشاط الاقتصادي على حساب آليات السوق، مصحوبا بشعارات وأهداف اجتماعيةوممارسات توزيعية، توصف الدولة أيضا بكونها دولة تدخلية، سواء من خلال التخطيط المركزي أو من خلال دورها الاقتصادي في إنتاج السلع والخدمات، أو التقييد التشريعي والتنظيم المقيد للسوق.

كما يمكن لهذا التدخل أن يتخذ في الاقتصادات التي ليس لها نكهة اشتراكية، شكل تدخل الإدارة السياسية في عمل آليات السوق والنشاط الاقتصادي في خدمة النخب الحاكمة من دائرة رجال الأعمالالمتداخلة معها.

إلا أن الدولتية تمتد خارج نطاق الاقتصاد إلى السياسة والاجتماع، عندما تعتمد النخب الحاكمة على الدولة وجهازها في إعادة إنتاج سلطتها وحكمها، وتعتمد إلى تقليص هامش الاستقلالية بالنسبة لجهاز الدولة، بصفتها إدارة، عن التسلطية السياسية.

يقول الباحث أديب نعمة في هذا الصدد: “لا يميز النظام الدولتي بشكل فاضح ومقونن وممأسس بين الوظيفتين الإدارية والسياسية للدولة ومؤسساتها وأجهزتها.

في النظام الدولتي، يكون لجهاز الدولة دور كبير في إدارة المجتمع وفي إعادة إنتاج السلطة، وكذلك في إعادة إنتاج نفسه كجهاز بيروقراطي بصفته أداة سيطرة الحاكم، والنظام الدولتي أيضا ــ مثل النظام الديكتاتوري ــ أقرب إلى شكل الدولة الحديثة، باستناده إلى مؤسسات الدولة وجهازها (بما هو جهاز مدني)، أكثر من النظم التي تتسم بطابع تقليدي، التي تستقي جانبا مهمّا من سلطتها وسطوتها من التشكيلات والانتماءات الاجتماعية الأولية (القبلية، الدين، الطائفة)، التي تتشارك التأثير والمساهمة في بناء السلطة مع الدولة وجهازها، هذا إن لم يكن في أساس بناء جهاز الدولة نفسها.

وليست أنظمة الدولة العربية كلها دولتية (لبنان على سبيل المثال ليس نظاما دولتيا، وكذلك نظم دول مجلس التعاون الخليجي التي لها طابع تقليدي، فإن للدولة فيها دورا كبيرا بما في ذلك في الاقتصاد، ولكنها ليست أنظمة دولتية بالمعنى الذي أشرنا إليه)”.

يتبع

***

توفيق المديني ـ باحث تونسي خريج جامعة باريس السادسة مهندساً في الإلكترونيات. ثم استقر في سورية منذ عام 1985 على أثر طرده من فرنسا.
باحث في مركز الدراسات الفلسطينية بدمشق، ومتفرغ للعمل الفكري والثقافي، عضو اتحاد الكتاب العرب، واتحاد الصحافيين السوريين.

_______________

أديب نعمة ـ محامي وأديب وباحث الباحث في العلوم الاجتماعية، والناشط في المجتمع المدني.

المصدر كتاب “الدولة الغنائمية والربيع العربي: يتكون من مقدمة، وخمسة أقسام، واثني عشرَ فصلا، ويتضمن 350 صفحة من الحجم الوسط، والصادر عن دار الفارابي في بيروت في أيار 2014،

مواد ذات علاقة