علي العسبلي

في حوار جديد مع صديقي الوهمي، صاحب النظرة الثاقبة التي نادرًا ما تُصيب، قال لي بكلّ ثقة: “المشكلة في ليبيا بين الأطراف السياسية…”. قاطعته ضاحكًا ولم أدعه يُكمل. ضحك هو أيضًا، لكنه لم يفهم لماذا.

في ليبيا، كلّ شيء يُحسبونه سياسة: حوارات، اجتماعات، مُبادرات، اتفاقات. لكنّك إن نظرت من قرب، فستجد أنّ كلّ من يمسك بخيوط اللعبة لا يعرف معنى السياسة أصلًا.

خذ البرلمان مثالًا: لو جمعت أعضاءه المئتين، أو من تبقّى منهم على قيد الحياة، وسألتهم سؤالًا بسيطًا: ما هو توجّهك السياسي؟ ستسمع إجابات من نوع: “أنا مع الجيش، أو أنا مستقل، أو أنا مع الاستقرار“. أحدهم قد يهزّ رأسه مُعتقدًا أنّه أجاب إجابة نموذجية، بينما هو في الواقع يكرّر شعارات فارغة لا أكثر.

أعضاء مجلس الدولة؟ حكومة الدبيبة؟ حكومة حماد؟ المجلس الرئاسي؟ خذ من كلٍّ حفنة، فلن تجد بينهم من يعرف اليمين من اليسار، ولا من قرأ كتابًا في السياسة، ولا من يعرف من السياسيين سوى ما يراه في نشرات الأخبار.

هؤلاء لا ينطلقون من أيّ منطلقات سياسية، بل من غرائز أو مصالح تتعلّق بالسلطة والنفوذ، المال والغنيمة، وغيرها.

كلّ من يمسك بخيوط اللعبة لا يعرف معنى السياسة أصلًا

في ليبيا، لا وجود لعمل سياسي حقيقي. فمنذ الاستقلال، كانت الأحزاب ممنوعة، والسياسة الوحيدة التي مُورست كانت تحت مظلّة النظرية العالمية الثالثة“: إقامة الولائم، حشو البطون، توزيع الوعود على أبناء القبيلة أو المنطقة، في انتظار لحظة التصعيدبرفع الأيدي لاختيار مرشّحك تارةً، أو لضرب أنصار المرشّح الخصم تارةً أخرى.

ثم تحمل ملفاتك تحت الإبط بحثًا عن وظيفة مرموقة أو حتى راتب من أنقاض الدولة.

أين الأحزاب السياسية؟

كثيرة هي بالأسماء، برّاقة بالشعارات، لكنها فارغة من أيّ مضمون. أحزاب شنطة، لا يتجاوز عدد أعضائها شخصين أو ثلاثة في أفضل الأحوال.

لا ندوات، لا ورش، لا صالونات فكرية، لا نشاط في الجامعات، لا صحف حزبية، ولا حتى خصومات فكرية بين اليمين واليسار والوسط. لا شيء سوى حسابات مهجورة على منصّة فيسبوك تنشر صور رئيس الحزبمع العبارة المعتادة: السياسي الوطني الكبير.

حتى من يمسكون بزمام الأمور في ليبيا، سلطات الأمر الواقع، شرقًا وغربًا، لو نظرت إلى تاريخهم لذهلت.

خذ خليفة حفتر مثلًا، في تاريخه كمية كبيرة من التقلّبات الفكرية، وستعجز عن تحديد توجّهه أو منطلقاته.

فقد بدأ أحدَ الانقلابيين مع معمر القذافي في ما سموه ثورة الفاتح، وكان وحدويًا قوميًّا عروبيًّا على نهج جمال عبد الناصر، ثم انشق بعد هزيمته وأَسره في حرب تشاد، وانضم إلى المعارضة، إلى أن احتضنه الفصيل الإسلامي منهم، ولقبوه بـخالد بن الوليد“.

بعدها، ارتمى في أحضان المخابرات الأميركية، وقضى سنواته في ولاية فرجينيا، على بُعد أمتار من مقرّ وكالة المخابرات الأميركية.

ثم عاد إلى ليبيا بعد الثورة ليقاتل إلى جانب الإسلاميين، وصوره لا تزال حتى اليوم مع أفراد محسوبين على داعش، قبل أن ينقلب عليهم ويقود حربًا باسم القضاء على الإرهاب، ليستفرد بالسلطة هو وأبناؤه بحكمٍ عسكريٍّ عائليٍّ قمعي.

الصراع في ليبيا ليس سياسيًا، بل هو صراع من أجل المال والسلطة، تُغذّيه المصالح والتحالفات القبلية والمناطقية والدينية الهشّة.

صراع بين من يريد أن يبقى، ومن لا يمانع أن يختفي بشرط أن يقبض.

صراع على الكراسي، لا عبر مشروع أو رؤية، بل عبر محاصصة تُرضي هذا الطرف المسلّح أو ذاك المتنفذ.

حتى الفاعلون الدوليونيدركون ذلك، لكنهم يواصلون اللعبة لأنّ مصالحهم تمرّ من هنا.

***

علي العسبلي ـ كاتب وحقوقي ليبي وسجين رأي سابق

_____________

مواد ذات علاقة