عبد المطلب الوحيشي

دعني أختصر لك الطريق وأهمس لك بالأجوبة، ودعني أخبرك بالذي تعرفه وأعرفه، ويعرفه صحبي وصحبك وأهلي وأهلك، ودعني أحيلك إلى اللحظات التي ستؤرقني و ستؤرقك.

فهذه أجوبة تسبق أسئلتها، فمن عرفها وأيقظت فيه الشجون، فاعلم أن دماء المدينة تجري في عروقه، وأنه من طينتها وروحها. وإلا فإنه ليس منها، وإن أقام بين جنباتها واستوطن إرجاءها، أو توهّم في غفلته أنه ابنها.

فالأجوبة ستعتصر ذاكرتك وتُوقظ فيك الحنين وتُتعب قلبك وتثقل كاهلك، ولربما تسفح دموعك لوعة وحزنا.

فأولُ الأجوبة سيُحدِّثك عن المكان الذي كانت فيه بعض أوقاتك ولحظاتك الآسرة وأيامِك الخوالي. فهناك، لك في كلِّ شبر فيه قصة ودليل. فالمكان جادّة وميدان، وهو الشاهد على جذور المدينة وأصلها الثابت، وفرعها السامق الذي يُناطح كلَّ سماء.

وستعلم من الجواب أن الميدان صغير في رسمه، لكنه قلب دافق في منزلته، وشرايينه مسارب مميزة، يحفه شارع الاستقلال»، وينبثق منه «شارع مصراتة»، و«شارع زواوة»، والخمس»، ومتنفسه في «جامع أرخيّص».

سيأتيك جوابٌ ثانٍ ليقول لك إنَّ في وسطه نافورة يطِّل فيها نباتُ «السيلفيوم» في تيهٍ، ينتظر أن يفرد طائرَ«الفينيق» جناحيه فوقه.

ويستمر الجواب ليخبرك أن الميدان تعدّدت أسماؤه وتنوعت دلالتها، فمرة عُرف بـ«28 أكتوبر» عند زيارة الطاغية «الدوتشي»، ثم حمل أسما أخر تيمّنًا بحدثين كانا في (9 أغسطس) من تاريخٍ وجذوةً من العزّ لا تنطفئ: تأسيس الجيش السنوسي عام 1940م، ثم إعلان الجيش الليبي عام 1952م. وستتذكر أيضاً أن تسمية أخرى تُؤثر عن «عويلة البلاد» أضفت عليه مسمى «البكاديلي».

وسيأتي الجواب التالي ليحدّثك أن الميدان يفيض نشوةً من معانقه البحر ونسيمه، وأن يديه تمتدان مصافحتين «قصر المنار» مذ إعلان الاستقلال، وأنه وقف مشدوهاً وشاهدًا على ميلاد الجامعة الليبية، منارة العلم، ومهبط المعرفة.

ثم يأتي جوابا آخر يُنبهك إلى تميز متاجره ومحلاته وتفرد ملامحها وإن قلّ عددها. ستقرأ فيه أن قرطاسية «الصادق» وقرطاسية «الأمين حسني – كالاميرا» ثم «السلّاك»كانت المقصد والوجهة، وعبق من أيام المعارف والدراسة والقلم والكتاب.

وأن من أراد أن ينتقي أبهى الأقمشة والملابس، فليس له بدٌّ من أن يقصد بخُطاه محل «لنقي» في عمارة «كانون».

ثمّ تتوالى الأجوبة تباعاً، فهناك يطلّ عليك «بنك باركليز» في عمارة «الجبل الأخضر»، ولن تخطئ العين «توينتي ون»، وستلمح «موفادو» يزدان بالهدايا والعطور، وفي زاويةٍ صغيرةٍ يختبئ كشك «رجب القوارشة»، وسترشف «الشاهي بالكاكوية» و«السحلب»، وسترى وكالة «ايليو» للسفر والسياحة، وحلاق «الفلاح».

لن تنقطع الأجوبة، فالميدان وإن بدا للعين رقعةً صغيرة، فإنه كالشامة والخال يزين خدّ «يوسبريدس» البهية. والميدان واسطة عقد فريد، تبدأ منه المسارات وتؤوب إليه الدروب، ومحرابٌ صغيرٌ يمتد ليسع روح المدينة بأكملها.

ستكتشف أجوبة أخرى غابت عني، أماكن وأشخاص، وستطرق ذاكرتك صور كثيرٍ ممن كانوا هناك، وستنفثُ حزنك دخانًا مستعارًا، وتزفر حسرةً وحسرات، وستُغمض عينيك لتمخر عُباب بحر من المشاهد والوجوه، وترى كل الذي أخبرتك به.

ستتساءل كما تساءلت أنا، وتتقاذف في ذهنك أسئلة لا تلقى لها أجوبة.

  • ما الذي حلّ بنا؟

  • كيف يشيح الميدان بوجهه عنا؟

  • ولماذا غاب السّمان واختفت أسراب «السنونو»؟

  • وكيف يعتلي «نيرون» عرش الجماجم ليحرق الأركان؟

  • ولماذا تمتد سيوف التتار لتطمس كل الحكايات الجميلة؟

  • لماذا تغصُّ المدينة الآن بالراحلين وتمتلئ بالغائبين؟

  • وكيف «للصفيح» الأزرق أن يشوه وجه الحسناء؟

سيقول لك آخر جواب، أن لا همّ أشدّ وطأة من أن تستحضر وقت حزنك لحظاتك الماضية المفرحة! حينئذ يضطرب قلبك المتعب وستسمع في قرارة نفسك صوتا خفيا يقول لك:

«سيلي بالحيل ..وكبيهن دمع خفا ليل

مع الفرقة وسمور الليل…العقل تردا…دمعك زاد حدر من جدا

سيلي كان الدمع يردا»

سترتسم على شفاك ابتسامة غريبة تنقبض معها أساريرك! وتظل مبتسماً!

وحينها ستدرك، أن أقسى أنواع الألم وأشدّها، ذاك الذي يُرغمك على الابتسام، فقط كي تحبس دموعك وتمنعها من الانهمار!

_____________

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

مواد ذات علاقة