حسونة بعيشو
تحت شمس حارقة، يقف الليبيون في طوابير طويلة أمام محطات الوقود، ساعات وربما أياما من الانتظار للحصول على بضع لترات تكفي لتشغيل سيارة أو مولدة كهرباء منزلية.
وعلى الطرق، تتسابق شاحنات النفط الثقيلة نحو الموانئ، حيث يتولى مهربون نقل الشحنات إلى الأسواق العالمية.
ليبيا من كبار منتجي النفط في العالم. تعوم على أكبر بحيرة احتياطي نفط في أفريقيا. وبدلا من تخفيف معاناة المواطن، جعل الدعم الحكومي السخي النفط سلعة مثالية للتهريب المنظم.
يكلف التهريب ليبيا خسائر بنحو خمسة مليارات دولار سنويا، وفق البنك الدولي. والأخطر أن العائدات المهدورة خارج ميزانية الدولة، تتحول إلى مصدر تمويل رئيسي للميليشيات التي تسيطر على مسارات التوزيع الحيوية وتعيد إنتاج الصراع المسلح على السلطة ليبيا.
في أكتوبر 2024، أكد تقرير للبنك الدولي أن “مناطق الجنوب الليبي تشهد حالات متكررة من نقص الوقود، وتصل الأسعار في السوق الموازية إلى 7 دنانير للتر الواحد عند توفره،” بينما السعر الحكومي لا يتجاوز 15 بالمئة من الدينار الليبي.
يقول المواطن محمد الصيد، الذي يعيش في مدينة سبها الجنوبية: “نحن لا نجد الوقود، وإذا وجد فهو يُباع بأسعار أعلى لأن أصحاب محطات الوقود يتاجرون به في السوق السوداء”. ومع تمدد الطوابير أمام محطات الوقود القليلة التي تقتح أبوبها، غالبا ما يعود المواطن إلى بيته بخزان شبه فارغ. ويضطر الأهالي، وفق لمحمد الصيد، لشراء الوقود من المهربين بأسعار باهظة لتشغيل مولدات الكهرباء لسياراتهم، “بينما يظل الدعم الحكومي نظريًا لا يلمس أثره المواطن العادي في الجنوب”.
وتكشف أحدث أرقام صندوق النقد الدولي أن ليبيا دفعت ثمنًا باهظًا لدعم الطاقة في 2024، إذ خصصت 9 مليارات دولار للوقود وحده، بينما التهم قطاع الكهرباء – الذي يستخدم جزءًا من هذا الوقود في عملياته التشغيلية – مليارات أخرى.
“عند إضافة تكلفة النفط الخام المكرر محليًا والغاز الطبيعي المستخدم في إنتاج الكهرباء، والمقدّرة بحوالي 3.9 مليار دولار و4 مليارات دولار على التوالي، يصل إجمالي فاتورة دعم الطاقة في عام 2024 إلى نحو 17 مليار دولار، أي ما يعادل 35% من الناتج المحلي الإجمالي،” وفق الصندوق.
سفن لا تنام
على الساحل الشرقي، يروي ميناء بنغازي القديم حكايات تجارة غير مشروعة حولت المرفأ إلى شبكة معقدة لعمليات التهريب المنظمة. يرسم تقرير خبراء الأمم المتحدة لعام 2024 صورة مثيرة لهذا الميناء الحيوي الذي تسيطر عليه قوات الجيش الليبي. وبينما ينام الليبيون ويستيقظون على وقع لأزمة الوقود، هناك سفنٌ كبيرة لا تنام جراء التخمة بالنفط المهرب.
فقد رصد التقريرالأممي ما لا يقل عن 137 عملية تهريب، بين أكتوبر 2022 وسبتمبر 2024، شاركت فيها 48 سفينة قامت بزيارة الميناء أكثر من 185 مرة خلال تلك الفترة. لم تكن مجرد شحنات محدودة، إذ ارتفع متوسط حمولة السفينة الواحدة من 5,700 طن إلى 9,970 طنًا من الديزل، ليصل إجمالي ما تم تهريبه إلى نحو 1.125 مليون طن.
تلك السفن لم تكن تجارية عابرة. كاتت في الغالب مستأجرة أو بلا سجلات واضحة، تستخدم وثائق مزورة أو صادرة عن جهات وهمية، يقول التقرير. “ميناء بنغازي يعكس اليوم معادلة مختلفة؛ موقع استراتيجي يُفترض أن يدعم الاقتصاد الوطني، لكنه تحول إلى شريان لتهريب الوقود نحو الأسواق الخارجية،” يقول المحلل السياسي أحمد الساعدي لـ”الحرة”.
وطالما قدمت المؤسسة الوطنية للنفط شكاوى للنيابة العامة، منذ مايو 2022، عن تهريب الوقود إلى تركيا وإسبانيا ومالطا وإيطاليا عبر سفن كان من بينها Queen Majeda، التي تم ضبطها في ألبانيا بشحنات تبلغ قيمتها أكثر من مليوني دولار،” يضيف الساعدي.
“استمرار هذا النمط يعني أن الميناء يعمل بوجهين: نشاط رسمي معلن، وآخر غير قانوني تحت الطاولة، ما يضاعف خسائر الدولة ويزيد الضغط على المواطن الذي يقف في طوابير الوقود يوميًا”.
في الغرب أيضا تزدهر شبكات التهريب عبر البحر في مدن ساحلية مثل زوارة والزاوية و صبراتة والخمس. ورصد تقرير خبراء الأمم المتحدة لعام 2023 عدة حالات لتهريب الوقود عبر البحر، وحدد مواقع للتهريب منها منطقة سيدي علي القريبة من الحدود التونسية.
يقول الساعدي إن “الوضع في الخمس وزوارة والزاوية وصبراتة يعكس نمطا متكررا؛ إذ تتحول حصص الوقود المخصصة للمواطنين عبر حلقات وسيطة إلى مهربين ينقلونها برا نحو تونس أو بحرا عبر المتوسط”. ويرى الساعدي أن تلك المدن ستظل محطات رئيسية في اقتصاد الظل الذي يموّل جماعات مسلحة ويقوّض استقرار البلاد، ما لم تُفرض رقابة صارمة على سلاسل التوزيع والموانئ.
المقايضة… وقود خارج الموازنة
حتى عام 2021، كان مصرف ليبيا المركزي يضع سقفا صارما لمخصصات استيراد الوقود، ما جعل المؤسسة الوطنية للنفط تصطدم سنويا بجدار الأرقام.
يقول الخبير الاقتصادي محمد الصافي لـ”الحرة”: “غالبا ما كانت هذه المخصصات تنفد قبل نهاية العام، فيما كان المصرف يرفض طلبات المؤسسة بزيادتها بحجة مخالفتها للميزانية المعتمدة. وحدث ذلك في ظل تقلبات إنتاج النفط وانخفاض أسعاره، ما تسبب في أزمات سيولة ونقص النقد الأجنبي مع ارتفاع الطلب على الوقود داخليا”.
ولمواجهة هذا الاختلال، سمحت حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس للمؤسسة باستخدام آلية تُعرف بـ”المقاصة”، وتعني تبادل النفط الخام مع شركات وسيطة مقابل الحصول على وقود مكرر يُسلَّم مباشرة إلى ليبيا، من دون دفع مبالغ نقدية.
كانت آلية المقاصة، يضيف الصافي، وسيلة فعّالة وسريعة لتوفير الوقود، لأنها تتجاوز الإجراءات البيروقراطية المعتادة مثل الموافقات المالية والتحويلات النقدية، لكن قيمة المحروقات التي تحصل عليها ليبيا لم تكن تُسجَّل رسميًا في الموازنة أو الحسابات الحكومية. لكن “عدم وجود أرقام دقيقة عن الكميات أو قيمتها المالية، يفتح الباب لغياب الشفافية والفساد،” يضيف.
وهو ما أشار إليه تقرير ديوان المحاسبة الليبي لعام 2021، الذي سجل قيام المؤسسة الوطنية للنفط “بتصدير شحنات نفط دون جباية إيراداتها واستبدالها بشحنات محروقات خارج الموازنة العامة ودون الإفصاح عن ذلك لوزارة المالية”.
وأضاف التقرير أن المؤسسة “قامت بتأجيل تحصيل قيمة ضرائب وإتاوات على الشركات الأجنبية بقيمة 10.4 مليار دينار كان من المفترض أن تكون ضمن إيرادات العام 2021”.
تحذيرات الديوان لم تتوقف.
في تقريره لعام 2023، كشف أن الإنفاق على شراء الوقود المدعوم تضاعف بشكل حاد، من 2.9 مليار دولار (16 مليار دينار ليبي) في 2021 إلى أكثر من 7.6 مليار دولار (41 مليار دينار ليبي) في 2023، تحت مبرر تغطية احتياجات السوق ومحطات الكهرباء.
وفي يناير 2025، دخل النائب العام على خط الأزمة عندما طالب مؤسسة النفط، بخطاب رسمي، بوقف العمل بنظام المقايضة. وبالفعل، أُوقف النظام بعد اتفاق بين مصرف ليبيا المركزي وديوان المحاسبة والمؤسسة، نتج عنه تشكيل لجنة لمراجعة كل العمليات المالية الخاصة بمبادلات النفط الخام بالمحروقات خلال عام 2024.
حرب الساحل الغربي
على طول الساحل الغربي الليبي، تدور منذ منتصف عام 2023 حرب صامتة وغير معلنة. فبقوة الطائرات المسيرة التركية، تنفذ قوات تابعة لحكومة طرابلس غارات جوية متكررة على مواقع يُشتبه في استخدامها لتهريب الوقود وتخزينه، ولا سيما في مدينة الزاوية التي تحتضن أكبر مصفاة نفط في البلاد وميناءً للتصدير. وكان آخر هذه الضربات في أغسطس 2025.
لكن صورا وفيديوهات نشرها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي أظهرت أن بعض تلك الغارات لم تستهدف فقط أوكار التهريب المزعومة، بل أصابت أيضًا أحياءً سكنية ومنشآت مدنية. ومع صمت حكومة طرابلس حيال ذلك، تعاظمت الشكوك بشأن أهداف الحملة، حيث وصفها مراقبون بأنها ذات دوافع سياسية أكثر من كونها حربًا على التهريب، معتبرين أنها أداة لتصفية مليشيات يعتقد بولائها للجيش الوطني في الشرق.
في تحليله لملف مكافحة تهريب الوقود، يوضح المحلل السياسي إبراهيم بلقاسم في تصريحات لـ”الحرة” أن “الضربات الجوية التي استهدفت أوكار التهريب ساهمت في ردع بعض الجماعات المسلحة، لكنها لم تكن كافية”. ويضيف بلقاسم: “هناك انتقائية في هذه الحملات، حيث تقتصر على الجماعات التي تعارض حكومة الدبيبة، في حين تُمنح الجماعات الموالية للحكومة دعما عسكريا ولوجستيا واضحا، يتضمن الزي الرسمي والسلاح والتدريب”.
ويربط بلقاسم هذه الانتقائية بغياب مؤسسات الجيش والأمن في غرب ليبيا منذ تولي عبد الحميد الدبيبة الحكم، وهو ما أدى إلى تصاعد نفوذ الميليشيات في مدن مثل الزاوية. أما جلال الجروشي، الخبير في الشؤون الليبية في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، فيذهب أبعد في تشكيكه. فهو يرى أن الحملة فقدت مصداقيتها منذ بدايتها لأنها انطلقت بعد إخطار مسبق للمجموعات المسلحة بتوقيتها.
ويضيف في حسابه على منصة “أكس” أن مصفاة الزاوية تقع تحت سيطرة خصوم الدبيبة السياسيين، إذ تهيمن عليها قبيلة أولاد بوحميرة منذ عام 2013، ما يجعل المسألة أقل ارتباطًا بمحاربة التهريب وأكثر صلة بصراعات النفوذ المحلي.
إصلاح الدعم: الصدمة أم التدرج؟
في مطلع 2024، بدأ الحديث عن رفع دعم الوقود في ليبيا يتحول من تسريبات إلى تصريحات علنية. لوّح رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، بالقرار باعتباره خطوة ضرورية لـ”وقف نزيف التهريب” وضبط السوق. حاول الدبيبة طمأنة الشارع عبر طرح ثلاث آليات تعويض، وهي دفعات نقدية مباشرة، وزيادة الرواتب، أو بطاقات وقود مدعومة بكمية محددة.
وفي الشرق، كان الموقف متقاربا رغم الانقسام السياسي، فقد وافقت حكومة أسامة حماد المعينة من البرلمان على إنهاء دعم الوقود، لكنها لم تعلن خطة زمنية واضحة. لكن الاحتجاجات الشعبية والانتقادات السياسية كانت قوية.
في طرابلس وبنغازي وحتى في مدن أصغر، كان الخوف من ارتفاع الأسعار هو القاسم المشترك في النقاشات اليومية. ويرى خبراء اقتصاد أن أي إصلاح للدعم في ليبيا يجب أن يكون تدريجيا، مقترنا بتعويضات موجهة للفئات الأقل دخلا، مع ضبط الحدود والموانئ لوقف التهريب، في حين يرى آخرون أن أسلوب الصدمة هو الأفضل من الناحية الأمنية، لأنه سينهي التهريب بشكل أسرع.
يقول محمد الصافي إن “التدرج في رفع الدعم له منافع اقتصادية، حيث أثبتت الدراسات أن التضخم الناتج عن الصدمة خلال سنة يساوي التضخم الناتج عن التدرج خلال خمس سنوات. فالتدرج يسمح للمواطن بأن يعدد دخله وأن يتعامل تدريجيًا مع التضخم الناتج عن رفع الدعم، بينما أسلوب الصدمة قد يوقعه دون خط الفقر”.
ويتابع الصافي: “أسلوب الصدمة له منفعة أمنية كما يرى بعض السياسيين الليبيين، لأنه سيقطع الطريق أمام المنتفعين بطرق قانونية من الدعم واحتواء غضب الشارع والضغط على الحكومة للتراجع عن قرارها. لكن نحن في ليبيا بحاجة إلى دراسة لإثبات أي الخيارين أفضل”.
بين التضحية بالمألوف والمخاطرة بالمجهول، تتعمق مخاوف الليبيين من أن تكون هذه الإصلاحات مجرد قناع زائف يخبئ وراءه تدهورا أكبر في أوضاعهم المعيشية.
فإما أن يقبلوا بقرار قد يحد من فساد استنزف خيرات بلادهم، ولكنه قد يضيف عبئا اقتصاديا ثقيلا على كاهلهم في ظل غياب ضمانات قوية، وإما أن يظلوا أسرى دائرة الأزمات المتكررة التي تغذيها شبكات التهريب، ويظل وقودهم الرخيص وقودا لأزمة لا تنتهي.
***
حسونة بعيشو ـ صحافي ليبي عمل مع مؤسسات إعلامية ودولية كـ“صوت أمريكا” و“شبكة الشرق الأوسط للإرسال، و“الوكالة الأميركية للتنمية الدولية“، وتركز أعماله على قضايا ليبيا والسياسة الإقليمية.
_____________