بقلم محمد فتوح

يستعرض التحقيق الدور الكامل الذي تلعبه السلفية المدخلية في ليبيا، بداية من نشأته في عهد القذافي، ومواقفه المتباينة من الثورة الليبية، وما يتصل بفضاء الفتوى الخاص به، وأهم الرموز فيه،

وصولا للتحول الذي شهده التيار باعتباره حركة عسكرية منضوية تحت لواء خليفة حفتر، لتصبح بمرور الوقت، أهم فاعل عسكري في ثوب ديني ضد مكتسبات ثورة 17 فبراير 2011.

الجزء الخامس

الذئاب المدخلية المنفردة

بجانب الكتائب المدخلية المنظّمة، ينتشر عدد كبير من شرعيي المداخلة، ويظهر بعضهم في الإعلام للتبرير لحفتر باعتباره وليّ أمر يجب القتال في صفه وطاعته ضد التكفيريين، ومن هؤلاء عبد الفتاح بن غلبون، الشهير بالشيخ طابونة.

يتخذ بن غلبون في مقاطعه نهجا يسعى عبره لإضفاء صفات شرعيةعلى قادة الانقلاب، فيسمي حفتربسماحة الوالد حفظه الله، وهو الوصف الذي يظهر تأثره بوضوح تجاه المداخلة في السعودية، ويسمي عقيلة صالحبسماحة الأب رعاه الله.

ومن القادة العسكريين للمداخلة، الملازم أحمد عبد الرزاق غرور الحاسي آمر فرقة القبض الخاصة والذي اتُّهم بارتكاب جرائم حرب وقتل خارج القانون، وقد أدت معارضته لعدد من عمليات حفتر لاستدعائه في قاعدته في المرج، ثم قتله، وقد اتُّهم الحاسي سابقا في عدد من عمليات الاختطاف، وتصفيات لعدد من العسكريين والسياسيين، أبرزها اختطاف وكيل وزير الخارجية حسن الصغير، ووكيل وزارة الدفاع مسعود أرحومة، وتصفية الملازم علي بو عمران العرفي، ومحاولة الاعتداء على العقيد المهدي البرغثي وزير دفاع حكومة الوفاق، واقتحام مزرعة العقيد فرج البرعصي.

ومن قادة المداخلة العسكريين كذلك، المدخلي قجة الفاخري، والذي انتمى للمداخلة قبل عقد من الزمان، وهو الذي يُلقب بالشيخ قجة، وقد كان من دعاة طاعة وليّ الأمر إبان حكم معمر القذافي.

ومع صعود حفتر أصبح الفاخري آمر قوة سلوق، ثم قاد مذبحة الأبيار، والتي قتل فيها 38 مواطنا مدنيا واستيقظ أهل البلدة على جثثهم بعدما أُلقيت في الشوارع وبين مجمعات القمامة، قبل أن يُلقى القبض عليه على إثر هذه المذبحة المروعة.

المدخلية في ليبيا.. حلقات التدخل الخارجي

بيد أن المقابلات التي أجريتُها في طرابلس ومصراتة وسرت وبنغازي والبيضاء تكشف تململا عميقا في أوساط ضباط من الجيش الوطني الليبي أو قادة ميدانيين أو مسؤولين في وزارة الداخلية لدى الطرفَين إزاء النفوذ المتنامي للتيار المدخلي وأهدافه الخفية

(فريدريك ويري باحث في منطقة الشرق الأوسط)

نظرا لأن ليبيا لم تعرف الجيش النظامي المتماسك بمعناه المتداول في أدبيات العلوم العسكرية، فقد ألغى معمر القذافي عام 1991 وزارة الدفاع بالكلية، مستعيضا عنها بكتائب سماها الكتائب الثورية، والتي جمعها من قبائل موالية له أو مليشيات مرتزقة، ومع بقاء الجيش بصورته الظاهرية، إلا أنه بقي ضعيفا، وقد استمر هذا الحال حتى إعادة تشكيل وزارة دفاع ليبية مرة ثانية بعد الثورة في عام 2011 ، وهو ما سينعكس على قوات خليفة حفتر وطبيعتها بعد عملية الكرامة في 2014.

إذ تتألف قوات حفتر من تكتلات غير متجانسة تحت اسم كرامة ليبيا، ويربط كل تكتل من هذه التكتلات مجموعة من الولاءات أو القرابات العشائرية أو المليشيات المسلحة، وتتمثل هذه التكتلات في بقايا من الجيش الليبي أو قوات من القبائل الموالية لحفتر، بالإضافة إلى عدد من المرتزقة، وهو ما سهل دمج المداخلة بوصفهم قوات تابعة لجهاز الأمن الداخلي في صورة مليشيات مُدربة وذات انتماءات متجانسة. ومنذ 2016 تقوم القوات المسلحة الليبية بدمج المداخلة في صفوفها، حتى تم بالفعل إدماج عدد كبير من كتائب المداخلة ضمن وحدات الكرامة التابعة لحفتر، لا سيما قوات الصاعقة.

وهو التيار الذي يتأثر كما ذكرناويرتبط بولاءات ضمنية تتصل بالسعودية، وهو ما جعل عددا من المُراقبين يعتبرون المداخلة في قوات الكرامة ما هم إلا امتداد لفكر ديني خارجي، وسعودي بالأساس. فقد تم تشكيل منظومته الفكرية والفقهية خارج ليبيا، وتأتيه الفتاوى بصورة يومية على هيئة تسجيلات تُبث على صفحات التواصل الاجتماعي من قادة المداخلة حول العالم، مثل ربيع المدخلي وسعيد رسلان وغيرهم.

ومن هنا، يُمثّل الفضاء الديني السعودي في صورته المدخلية باعتباره ذا حضور كبير في الساحة الليبية. فالصراع في ليبيا تغذّيه أطراف دولية بدعم مخابراتي وعسكري، من قواعد وقوات إماراتية ومصرية وفرنسية، الثلاثي الذي عاون خليفة حفتر على السيطرة على الشرق، بالإضافة إلى مليشيات روسيّة مؤخرا.

ولا يتوقف الأمر مع المداخلة على حد الاستعانة بالفتاوى والمال السعودي وحسب، حيث تدربت فرق من المداخلة على أيدي قوات مصرية. ففي عدد من الفيديوهات المُسربة من مواقع تدريبية للمداخلة ، كانت التدريبات بإشراف ضباط مصريين قاموا بالإشراف على تدريب المداخلة في بنغازي، وكانت هتافات المداخلة جيش السيسي في بنغازي ضد التكفيري الغازي.. جيش السيسي في بنغازي جيش السنة والقرآن“!

وقد أفاد شهود عيان من طرابلس لـ ميدانأن فِرقا تابعة لقوات الردع الخاصة المدخلية بطرابلس تلقت تدريبات على يد قوات أجنبية كذلك.

حرب على الجميع

لا ينتهي دور المداخلة في المشهد الليبي عند حضورهم العسكري وفضاء الفتوى المُشكِّل له، وإنما يتمدد المداخلة إلى الفضاء الاجتماعي العام. فقد مُنح المداخلة سلطات واسعة في تسيير الشؤون الدينية في ليبيا مثل المساجد، والأوقاف الإسلامية، ولم يعد يجرؤ أي إمام أو داعية ليبي على مخالفة الفكر المدخلي في الأراضي التي تقع تحت سيطرتهم، وإلا وُسِم بأنه من الخوارج أو المبتدعة.

يقول موسى سالم، وهو داعية مدخلي: “تنتشر مساجدنا في ليبيا أكثر من أي دولة عربية أخرى، وأغلب مساجد ليبيا يقوم عليها دعاتنا!”. ومنذ بدايات الثورة، عمل المداخلة على إنشاء مكتبات دينية على نمط معين، لم يعرفها الفضاء الديني الليبي من قبل، مثل مكتبة مالك والهداية والرشد، والتي تعمل على توزيع كتب المداخلة، بالإضافة إلى مراكز للعلاج بالرُّقية، ومراكز لتحفيظ القرآن، وعدد كبير من المدارس التي تحت إشرافهم مباشرة، وتُخرج أجيالا على عقيدتهم.

ففي طرابلس وحدها خمس مدارس سلفية مدخلية للصغار بدعم سعودي، بينما بلغت مدارسهم ما يقارب العشرين مدرسة على الأراضي الليبية، وقد أثارت جدلا كبيرا حول تمويلها ومناهج تعليمها. وتعتبر هذه المدارس محاضن فكرية للمداخلة، ولا يُمكن لأي أحد أن يتم قبوله في مثل هذه المدارس. حيث يتحدث أحد مدرسي مدرسة أبناء النبلاءحول إمكانية قبول تلميذ أو تلميذة يعد أهليهم غير مداخلة في المدرسة، بقوله إن: “هذا الأمر تنظر فيه إدارة المدرسة“.

لكن الأمر لا يتوقف عند المحاضن الاجتماعية التي أنشأها المداخلة، فقد تجاوز ذلك أيضا حتى بلغت سيطرة المداخلة الدينية درجة كبيرة من التعنت مع أي مخالف لهم. وبحسب شهادة عيان لـميدان” –وقد كان مدخليا ثم تركهم-: “عامة المجتمع الليبي يرفض هؤلاء، فهم ذراع حفتر الديني والعسكري، وإن تمكّنوا فلن يُبقوا من مُخالفيهم أثرا، ويواصل: “يكثر الاعتداء على الخطباء بالقوة أو سجنهم إذا لم يسايروا رؤيتهم الدينية“. وقد تعددت هذه الحوادث والاعتداءات مثل اختفاء الشيخ إدريس الطويل، رئيس مكتب الأوقاف بمدينة شحات بعدما سيطر مداخلة على المدينة، قبل أن يتم العثور عليه في سجن قرنادة الذي يُسيطرعليه مداخلة.

بمعنى آخر، ليس على الإنسان سوى أن يُخالف المداخلة حتى يُرمى بالخوارج أو يُتّهم البدعة، ثم يصير عِرضه مستباحا لأي أذى قد يناله. فواحدة من تلك التهم كفيلة بأن تُبقي الإنسان في السجن بضع سنين ولا يجرؤ أحد على التعاطف معه، إن لم يتم قتله مباشرة، حتى وإن كان الإنسان سلفيا.

بين المداخلة والصوفية

تَمثّل أول شرخ أحدثه المداخلة في الفضاء الديني في ظاهرة تفجيرالأضرحة ونبش القبور، والعداء مع الصوفية في ليبيا، مع عدم اعتبار المكانة التاريخية للصوفية في ليبيا، لا سيما الحركة السنوسية، باعتبارها حركة دينية موغلة في القدم في الداخل الليبي.

نظر المداخلة إلى السنوسية كونهم مبتدعة، يجب قمعهم وتخليص الناس من بدعهم، وهو ما لاقى استياء في الأوساط الشعبية، لمكانة الحركة السنوسية في نفوس الليبيين، والتي ينتسب لها أعلام في مقاومة الاستعمار مثل عمر المختار ومنهم الملك السنوسي الذي انقلب عليه معمر القذافي!

لم يكتف المداخلة بنبش قبور الصوفية، بل قامت كتيبة سُبل السلامالمدخلية في مدينة الكفرة بتفجيرمقام محمد المهدي السنوسي نفسه والد الملك الليبي إدريس السنوسي. وقد جاء هذا الحادث في أعقاب اعتداءات مماثلة على التراث الصوفي الليبي، مثل إضرام النار في زاوية الشيخة راضية في ذكرى المولد النبوي، وهو مسجد أثري صوفي في طرابلس يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر، ودُمِّرَ مسجد تاريخي آخر في العاصمة لأنه صوفي. كما قامت القوات التابعة للواء خليفة حفتر بخطف ما يقرب من 20 صوفيا في بنغازي، وعلى رأسهم مدير مؤسسة الطارقالشبابية للتنمية والتطوير، عبد المطلوب السرحاني .

وقد دعا المجلس الأعلى للتصوف السني في ليبيا إلى إصدار بيان يجعل المداخلة والدواعش عملة واحدة قائلا: “إن أصحاب الفكر المدخلي بحملهم السلاح وتكفيرهم لمخالفيهم لا يختلفون عن الدواعش، كما طالب بنزع السلاح عنهم، والوقوف ضد الأفكار الدينية المستوردة.

***

محمد فتوح ـ محرر رواق

___________

مواد ذات علاقة