
المسار الاقتصادي بوابة خروج طرابلس من دوامة العنف.
منذ انهيار نظام القذافي عام 2011، لم تنجح ليبيا في مغادرة الحلقة المغلقة من العنف والفوضى، رغم كثافة المبادرات الإقليمية والدولية التي تعاقبت تحت عناوين إنهاء الحرب الأهلية وإعادة بناء الدولة.
وبعد أكثر من عقد على ذلك التحول المفصلي، بات واضحًا أن الإخفاق لا يعود فقط إلى تعقيد المشهد الليبي أو تشابك العوامل المحلية والإقليمية، بل إلى خلل بنيوي في مقاربة الأزمة نفسها، وهو ما تضعه ورقة بحثية صادرة عن المعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني (تشاتام هاوس) في صلب التشخيص والتحليل.
وتنطلق الورقة، المعنونة بـ«الخروج من دائرة الصراع في ليبيا»، من نقد جوهري للنهج الذي حكم السياسات الدولية تجاه ليبيا على مدى السنوات الماضية.
وقام هذا النهج، بحسب الدراسة، أساسًا على عقد صفقات بين النخب السياسية والعسكرية المتنافسة، عبر اتفاقيات لتقاسم السلطة والثروة الوطنية بين مناطق نفوذها، بهدف الحفاظ على مستوى منخفض من العنف ومنع انزلاق البلاد إلى حرب شاملة. غير أن هذا «السلام الهش» لم يكن سوى إدارة مؤقتة للصراع، سرعان ما تحوّل إلى عامل يغذّي أسبابه بدل أن يعالجها.
وأسهمت المفارقة التي تبرزها الورقة أن تلك السياسات، التي سعت ظاهريًا إلى الاستقرار، عمليًا في تعميق ديناميات الصراع. فبدل بناء مؤسسات دولة جامعة، جرى تكريس منطق الريع والمحاصصة، ما شجّع النخب المتصارعة على الاستيلاء على مؤسسات الدولة واستخدامها كمصادر للتمويل والنفوذ.
وبهذا المعنى، لم يعد الصراع في ليبيا مجرد نزاع سياسي أو أمني، بل أصبح صراعًا على «اقتصاد الدولة» ذاته، حيث تتحول السيطرة على الموارد والعائدات إلى الهدف الرئيسي للتنافس.
وفي هذا الإطار، يقدّم الباحث تيم إيتون، الزميل في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تشاتام هاوس، طرحًا بديلًا يرى فيه أن كسر دائرة العنف يتطلب إعادة ترتيب أولويات عملية السلام.
فبدل حصر المفاوضات في المسار السياسي التقليدي، يدعو إيتون إلى دمج الأسباب الاقتصادية للصراع بشكل منهجي ومتكافئ مع المسار السياسي، بحيث تصبح قضايا الحوكمة الاقتصادية، وإدارة الموارد، والإنفاق العام جزءًا لا يتجزأ من أي تسوية وطنية، ومدعومة بوساطة دولية فاعلة وقادرة على فرض الالتزامات.
ويستند هذا الطرح إلى واقع بات محل إجماع بين الباحثين، وهو أن العوامل الاقتصادية تمثل أحد المحركات الأساسية لانهيار الدولة الليبية.
ومع ذلك، ظل هذا البعد مهمّشًا في التدخلات السياسية الدولية، التي ركزت على تشكيل حكومات توافقية أو ترتيب انتخابات، من دون معالجة البنية الاقتصادية الريعية التي تغذّي الصراع وتمنح النخب أدوات الاستمرار فيه. والنتيجة كانت تسويات مؤقتة سرعان ما انهارت، لأنها لم تمسّ جذور الأزمة.
ويكمن جوهر المعضلة، كما توضّح الورقة البحثية، في التداخل العميق بين التنافس السياسي والتنافس الاقتصادي. فوجود حكومتين متوازيتين في غرب وشرق البلاد ليس مجرد انقسام إداري، بل تعبير عن صراع على السيطرة على الموارد والعائدات، وفي مقدمتها النفط.
ونجحت بعض الاتفاقيات المؤقتة أحيانًا في تهدئة التوتر حول ملفات محددة، مثل إدارة المصرف المركزي أو إنتاج النفط، لكنها لم تُدمج أبدًا ضمن «مسار اقتصادي» منظم وشفاف، يكون جزءًا من مفاوضات سلام شاملة وتحت رعاية دولية واضحة.
وبدل ذلك، اعتمدت الوساطة السياسية ضمنيًا على توزيع الموارد بين الفصائل المتنافسة كوسيلة لتجنب اندلاع العنف، وهو خيار أدّى إلى ترسيخ المحسوبية وتقويض أسس الحوكمة الاقتصادية الرشيدة.
وتفاقم هذا الواقع الداخلي بفعل تحوّل ليبيا، في السنوات الأخيرة، إلى ساحة تنافس بين قوى إقليمية ودولية تسعى إلى توسيع نفوذها أو تأمين وصولها إلى الموارد والأسواق، ما بدّد أي توافق دولي سابق حول أولوية قيام دولة ليبية موحدة ومستقرة.
وتبدو تداعيات هذا المسار جلية في المؤشرات الاقتصادية والمالية. فاستيلاء النخب على مقدرات الدولة أدّى إلى تفشّي الفساد وارتفاع الإنفاق العام إلى مستويات غير قابلة للاستمرار.
وتشير تقديرات الورقة إلى أن العجز المالي الحقيقي تجاوز 10.4 مليارات دولار في العام الماضي، أي ما يعادل نحو 22 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ومع اعتماد الدولة شبه الكامل على عائدات النفط والغاز، تصبح المالية العامة شديدة الهشاشة أمام تقلبات الأسعار العالمية، ما يهدد قدرة الدولة على دفع الرواتب أو تمويل أي برامج تنموية في حال وقوع صدمة اقتصادية.
ومع تصاعد الضغوط المالية، تزداد شهية النخب للاستحواذ على موارد إضافية، وهو ما يظهر في تنامي دور الشركات الخاصة المرتبطة بمراكز النفوذ داخل قطاعات كانت حكرًا على الدولة، وفي مقدمتها قطاع النفط.
ولا يفاقم هذا الاتجاه فقط عدم المساواة، بل يقوّض فكرة الدولة نفسها بوصفها إطارًا جامعًا لتوزيع الموارد بشكل عادل.
وأما المواطن الليبي، فهو الحلقة الأضعف في هذه المعادلة. فالأثر المباشر لهذا الفشل البنيوي يتمثل في تراجع قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية، وارتفاع أسعار السلع، وتآكل القدرة الشرائية، في ظل قطاع عام ضخم يعتمد تاريخيًا على الرواتب الحكومية. كما أدّت أزمة السيولة في القطاع المصرفي إلى عجز بعض الموظفين عن سحب رواتبهم، فيما أصبحت الأدوية المدعومة والمواد الأساسية أقل توفرًا، ما يعمّق الإحساس بانهيار العقد الاجتماعي.
واستنادًا إلى هذه المعطيات، تخلص الورقة إلى أن كسر حلقة العنف وعدم الاستقرار يتطلب إدماج تدابير رسمية لمعالجة الدوافع الاقتصادية للصراع ضمن المفاوضات السياسية.
وتحدّد لذلك خمسة مجالات أساسية:
يبدأ أولها بالحاجة إلى استقرار فوري للحوكمة الاقتصادية عبر وساطة دولية منسقة، تعمل من خلالها الأمم المتحدة وشركاؤها والمؤسسات المالية الدولية على تحسين الشفافية والمساءلة، ولا سيما في ما يتعلق بالإنفاق العام وتحصيل الإيرادات وصياغة ميزانية موحدة للدولة.
وأما المجال الثاني فيتمثل في إصلاح هيكلي طويل الأمد للحوكمة الاقتصادية، عبر مسار اقتصادي رسمي يُدمج ضمن العملية السياسية الشاملة، ويركّز على تفكيك نظام الحكم الريعي وإيجاد بدائل حقيقية لمنطق تقاسم السلطة والثروة بين النخب. ويتطلب ذلك برنامج إصلاح استراتيجي واضح وآليات مساءلة صارمة تضمن الالتزام.
ويبرز المجال الثالث في ضرورة بناء قدرات مؤسسات الدولة الليبية، إذ تفتقر هذه المؤسسات إلى الخبرات والإمكانات اللازمة لتنفيذ إصلاحات عميقة. وهنا يصبح دعم المؤسسات المالية الدولية مشروطًا بالتقدّم الفعلي في إصلاحات الحوكمة، لا مجرد تقديم مساعدات تقنية معزولة.
ويتعلق المجال الرابع بإنفاذ قوانين مكافحة الفساد، ليس فقط على المستوى المحلي، بل أيضًا في مواجهة شبكات التمويل غير المشروع العابرة للحدود التي تغذّي نفوذ الفاعلين المحليين والخارجيين وتقوّض أسس الدولة.
وأما المجال الخامس والأخير، فيكمن في تفعيل الدبلوماسية العامة وإشراك الشعب الليبي في مسار التسوية، بدل الاكتفاء بالتفاوض مع نخب راكمت مصالحها في ظل الفوضى ولا تملك حافزًا حقيقيًا للتغيير.
وفي المحصلة، تقدّم ورقة تشاتام هاوس تشخيصًا قاسيًا لكنه واقعي للأزمة الليبية، وتدعو إلى انتقال جذري من إدارة الصراع إلى معالجة أسبابه البنيوية.
فبدون كسر الحلقة التي تربط السياسة بالريع والاقتصاد بالفساد، ستظل ليبيا تدور في فلك التسويات المؤقتة، معرضة في كل لحظة للعودة إلى العنف، ومهددة بالانزلاق نحو نموذج الدولة الفاشلة بالكامل.
__________