تيم إيتون

الاعتماد الاقتصادي على القطاع العام

أصبحت الدولة الليبية متضخمة على نحو متزايد. فمن بين عدد السكان البالغ نحو 7 ملايين نسمة، يعمل ما يقرب من 2.6 مليون شخص في وظائف حكومية. وقد قفز الإنفاق على الرواتب عبر ميزانية الدولة بشكل هائل منذ سقوط نظام القذافي.

ومن السمات اللافتة للصراعات في ليبيا منذ عام 2011 أن الأطراف المتحاربة كانت، في الغالب، جميعها تتقاضى رواتبها من الدولة، ما يعني أن الحرب الأهلية – من الناحية المالية على الأقل – كانت في جوهرها صراعاً تخوضه الدولة ضد نفسها.

ويُعدّ أحد العوائق الرئيسية أمام إحراز تقدم في الإصلاح الاقتصادي هو القناعة الثقافية الراسخة في المجتمع الليبي بأن الوظيفة الحكومية هي الشكل الأكثر موثوقية للدخل (إذ ينظر كثيرون إلى العمل في القطاع العام على أنه ضرورة لضمان المستقبل المالي). بل لعلّ أحد أكثر الإرثات إضراراً بالاقتصاد التي خلفها نظام القذافي هو الخلط بين التوظيف والرعاية الاجتماعية.

والمفارقة أن العمل في القطاع العام اليوم لا يوفر في الواقع شبكة أمان حقيقية: فقد أدت إخفاقات الدولة العامة إلى أن كثيراً من الليبيين باتوا غير قادرين حتى على سحب رواتبهم (الحكومية) من حساباتهم المصرفية؛ وحتى في الحالات التي يتمكن فيها الموظفون من السحب، فإن آثار التضخم على أرض الواقع في الاقتصاد الحقيقي – حيث يُعد سعر الصرف في السوق السوداء مؤشراً أدق من الإحصاءات الدولية عن التضخم في ليبيا – تعني أن تلك الرواتب تشتري عدداً أقل من السلع.

وقد أضعف اختلال الحوكمة الاقتصاد الليبي تدريجياً إلى درجة أن بعض الخبراء، بحلول عام 2025، جادلوا بأن الإيرادات التي يتلقاها مصرف ليبيا المركزي لم تعد كافية لتغطية رواتب القطاع العام.

آثار مركزية الدولة

هناك قدر من الإجماع بين الخبراء الاقتصاديين على أن البنية الفائقة المركزية لنظام الحوكمة في ليبيا – بغض النظر عن صراع النخب على السيطرة على الدولة – تحول دون استفادة المجتمعات المحلية من الإنفاق الحكومي. فالحكومات المحلية، مثل المجالس البلدية، تمتلك صلاحيات محدودة وتعتمد على الوزارات المركزية في التمويل، في حين تمرّ تقريباً جميع قرارات المشتريات عبر طرابلس.

وتقع مقار معظم مؤسسات الدولة في طرابلس، ما يجعل العلاقات الشخصية أو السياسية وإمكانية الوصول إلى العاصمة الليبية عوامل حاسمة في الحصول على الوظائف والعقود. ويُعدّ النفوذ السياسي والمالي لطرابلس على بقية أنحاء البلاد مصدراً رئيسياً للتظلم لدى سكان الشرق والجنوب.

ويُعدّ إعادة توازن سلطة الدولة، عبر تفويض صنع القرار والسيطرة المؤسسية إلى مناطق خارج طرابلس، مطلباً أساسياً لكثيرين في الشرق على وجه الخصوص. (فالواقع أن مؤسسات وطنية مثل المؤسسة الوطنية للنفط ومصرف ليبيا المركزي أُنشئت في الأصل في بنغازي، وكان البرلمان يعقد جلساته هناك بشكل دوري قبل صعود القذافي إلى السلطة).

وسيكون لامركزية الدولة آثار كبيرة على توزيع السلطة، ويمكن أن تلعب دوراً مهماً في التوسط لإنهاء الصراع.

ويمكن القول إن إعادة توازن بحكم الأمر الواقع قد بدأت جزئياً بالفعل، إذ سعت عائلة حفتر – المهيمنة سياسياً في شرق البلاد – إلى ضمان احتفاظ شبكاتها وحلفائها بحصة مسيطرة في شركات الدولة الرئيسية في قطاعي النفط والتنمية.

كما تتمتع عائلة حفتر وشركاؤها بإمكانية الوصول إلى التمويل عبر السيطرة على مصارف تجارية مملوكة للدولة ومقرها محلياً. غير أن هذه الآليات المختلفة تعتمد عادة على علاقات شخصية أو ترتيبات مرتجلة؛ وما ينقص هو اتفاق مؤسسي منظم حول كيفية إدارة أموال الدولة على مستوى البلاد بطريقة تتجاوز المصالح الفصائلية.

مواطن الضعف المستقبلية

هناك اعتراف واسع بأن الدولة الليبية لا يمكنها الاستمرار على مسارها الحالي. إذ يُعتقد أن نحو 96 في المائة من إيرادات الدولة تأتي من الوقود الأحفوري. وهذا يجعل الاقتصاد شديد الهشاشة أمام تقلبات أسعار النفط والغاز العالمية، وكذلك أمام التغيرات السوقية المرتبطة بالتحول نحو الطاقة الخضراء. وإضافة إلى ذلك، لم يُبذل إلا القليل لتنويع الاقتصاد الليبي أو إعداده لمواجهة التحديات المستقبلية.

وتوجد حاجة ملحّة لدعم تنويع سبل العيش القادرة على الصمود في وجه تغير المناخ. فقد أبرزت كارثة درنة عام 2023 – عندما أدت الأمطار الغزيرة إلى انهيار سدين وحدوث فيضانات دمّرت المدينة والمناطق المحيطة بها – مدى تعرض ليبيا لتأثيرات التغير المناخي. ويُعدّ التعرض لمخاطر ارتفاع درجات الحرارة، والتصحر، وندرة المياه من بواعث القلق الكبرى.

ورغم توقيع ليبيا على اتفاق باريس للمناخ عام 2016 وتصديقها عليه في عام 2021، فإنها لم تقدّم بعد مساهمتها المحددة وطنياً (NDC) التي توضح خططها لخفض الانبعاثات والتكيف مع التغير المناخي، كما لم تنشر الحكومة خطة وطنية للتكيفوإلى جانب المخاطر المباشرة، فإن الفشل في معالجة هذه التهديدات الواضحة قد يؤدي إلى تفاقم الصراع الاجتماعي.

ثالثا: تحديات معالجة المحركات الاقتصادية الهيكلية للصراع

إن العوائق أمام تحسين الحوكمة الاقتصادية متجذرة بعمق. وتشمل هذه العوائق المصالح الراسخة، والشك الشعبي تجاه المسؤولين، وعدم اليقين بشأن ما إذا كان الإصلاح التدريجي أو الجذري هو الخيار الأجدى.

لقد كان الإصلاح الضروري للدولة الليبية موضع إجماع بين الخبراء منذ أكثر من 25 عاماً. ولكن إذا كان هناك اتفاق واسع على أن المحركات الاقتصادية للصراع لا يمكن معالجتها من دون تغيير هيكلي، فلماذا نُفذت إصلاحات قليلة جداً؟

في الواقع، تواجه الجهود الرامية إلى تحسين الحوكمة الاقتصادية والتخفيف من حدة الصراع العديد من العقبات، من بينها غياب الحوافز، وضعف الدعم الشعبي لتقليص حجم الدولة، وغياب الاتفاق حول كيفية تنفيذ الإصلاحات.

ومن بين هذه العوامل، يُعدّ غياب الحوافز لدى المسؤولين الحاليين وشركائهم الدوليين ربما العائق الأكثر وضوحاً أمام الإصلاح. فكما ذُكر، يوفر النظام الحكومي شديد المركزية في ليبيا – حيث تحتكر الدولة توزيع عائدات النفط والغاز – للنخب وشبكاتها إمكانية الوصول إلى موارد هائلة.

ولمن يسيطرون على هذا النظام مصلحة طبيعية في الحفاظ على الوضع القائم، لا سيما أن النقاشات حول الحوكمة الاقتصادية غالباً ما تُختزل في قضايا «تقاسم السلطة» – أي عملياً كيفية تقسيم ثروة الدولة بين الأطراف المتصارعةوبالتالي، تميل النخب الليبية المتنافسة على السلطة إلى تهميش القضايا الصعبة المتعلقة بالإصلاح الهيكلي، مكتفية بخطاب سطحي حول اللامركزية والتنمية.

ويبقى همّها الأساسي هو السيطرة على الهياكل المؤسسية والموارد القائمة، بدلاً من إنشاء نظام أكثر عدالة أو استشرافاً للمستقبل. ويؤدي ذلك إلى ترسيخ حسابات صفرية، حيث يصبح الوصول إلى المنصب أو البقاء فيه وسيلة للسيطرة على الموارد المالية أو الماديةوهذا يجعل شاغلي المناصب الحاليين مترددين في دعم إصلاحات قد تُضعف نفوذهم (وبالتالي تقوض أي التزامات إصلاحية قد يكونون قد قدموها أصلاً من أجل الوصول إلى السلطة).

وغالباً ما تتكرر هذه الحوافز السلبية على المستوى الدولي، إذ تركز الدول الخارجية – بدلاً من مساعدة ليبيا على معالجة مشكلاتها الهيكلية في الحوكمة – على حماية وتطوير مصالحها السياسية و/أو التجارية من خلال التعامل مع النخب الليبية.

ولا يقل خطورة عن ذلك ضعف الدعم الصريح للإصلاح من الفئة التي يُفترض نظرياً أنها ستستفيد منه: أي الجمهور. فرغم صعوبة قياس الرأي العام حول هذه القضايا، ورغم أن إصلاحات الحوكمة التقنية ليست موضوعاً شائعاً في الأحاديث اليومية، فإن السخط من الوضع الاقتصادي وتدهور الخدمات العامة واضح للعيان.

وإلى جانب ذلك، يبدو أن هناك دعماً واسعاً للامركزية الإدارية، كما يدرك كثير من الليبيين مدى اعتمادهم المفرط على دولة غير فعالة. ومع ذلك، لا يزال التركيز الثقافي على الدولة قوياً، وتوجد قلة ثقة في أن إصلاحات نظام الدولة – مثل رفع الدعم المكلف عن الوقود والكهرباء والأدوية والمواد الغذائية – ستعود بالفائدة على المواطنين.

ولا تُدرج وجهات نظر المواطنين العاديين ومخاوفهم بشكل كافٍ في هذا النقاش. فقد ظلت مناقشات الإصلاح الاقتصادي محصورة إلى حد كبير في أوساط الخبراء، كما اقتصرت محاولات التغيير في الحوكمة عموماً على الحوارات بين النخب الحاكمة.

وكان أحد الاستثناءات البارزة هو الحوار الاجتماعيالاقتصادي الذي قادته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) بين عامي 2018 و2021. وقد وفّر هذا الحوار منصة شاملة ومتنوعة لأطراف ليبية مختلفة لصياغة رؤية طويلة الأمد للتنمية المستدامة في ليبيا.

ونُشرت نتائج هذه المبادرة في تقرير عام 2021، عارضاً رؤية مشتركة تتمحور حول الازدهار والعدالة وقوة مؤسسات الدولة. كما طرحت جهود أخرى، مثل برنامج «صناع السلام الليبيين»، الذي يجمع ليبيين من مختلف أنحاء البلاد وبوجهات نظر متعددة لإثراء جهود الوساطة الدولية، رؤى لتوزيع عادل للموارد في إطار عملية سياسية أوسع.

وقد تنامت النقاشات الليبية المحلية حول هذه القضايا في السنوات الأخيرة، لكن لا يزال هناك الكثير مما ينبغي القيام به لتعزيز الضغط المجتمعي من أجل إدراج الإصلاحات الاقتصادية في العملية السياسية.

وحتى بين أولئك الذين يدافعون بالفعل عن الإصلاحات ويعملون على تيسيرها، لا يوجد توافق حول المسارات التي ينبغي اتباعها أو الترتيب الأمثل للخطواتفالبعض يدعو إلى إصلاحات تدريجية بدعم دولي، بينما يرى آخرون أن نظام الحوكمة في ليبيا معيب من أساسه ويتطلب إعادة هيكلة شاملة وفورية.

ويرى خبير ليبي أن الإصلاح الاقتصادي جزء من إعادة تفاوض أوسع على العقد الاجتماعي، وهي عملية ستستلزم بالضرورة تقليص حجم الدولة ولا مركزية السلطة. وتقترح مجموعة أخرى أن قانوناً للامركزية يمكن أن يشكل الأساس لسلام دائم.

لكن تبقى الأسئلة قائمة: كيف يمكن تنفيذ إصلاحات شاملة بطريقة منظمة وفعالة؟ وما هي مخاطر أن تؤدي هذه الجهود إلى جعل وضع سيئ أصلاً أكثر سوءاً؟

رابعا: «المسار الاقتصادي» في ليبيا حتى الآن

شهدت السنوات الأخيرة محاولات متقطعة لتطوير البعد الاقتصادي في مفاوضات السلام، وكان لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا دور بارز في هذا السياق. غير أن عدم الاستقرار، والمعارضة السياسية، والتنافس بين الحكومات الليبية المتوازية، أعاقت إحراز تقدم ملموس.

وقد أدرك صناع السياسات الدوليون منذ وقت طويل الحاجة إلى الحد من المحركات الاقتصادية للصراع في ليبيا، واتخذوا عدداً من الخطوات العملية للتواصل مع الأطراف الليبية حول هذه القضايا. وشملت هذه الخطوات الإعلان عن «مسار اقتصادي» للمفاوضات في عام 2018، ثم الجهود اللاحقة لجعل الإنفاق الحكومي أكثر اتساقاً، والحد من تحويل الأموال العامة من قبل المسؤولين وشبكاتهم.

كما عبّرت الأمم المتحدة عن التزامها المستمر بإصلاحات الحوكمة من خلال عملية «متعددة المسارات» أُعلن عنها مؤخراً. واستمرت أيضاً الجهود الرامية إلى تيسير الحوار بين الأطراف الليبية – مثل التوصل إلى اتفاق حول الميزانية بين حكومة الوحدة الوطنية ومجلس النواب – سعياً لبناء توافق بشأن الحوكمة الاقتصادية.

لكن هذه الجهود الظرفية ظلت، حتى الآن، منفصلة إلى حد كبير عن الجهود الأوسع في المسار السياسي للمفاوضات. والأهم من ذلك أنها اتخذت طابع الحوار أكثر من الوساطة المباشرة؛ إذ كانت الاجتماعات تهدف إلى تبادل وجهات النظر لا إلى فرض اتفاقات ملزمة.

تسلسل المفاوضات الاقتصادية

منذ عام 2014، تشكّل الاقتصاد الليبي أساساً بفعل التحديات السياسية والأمنية الناجمة عن ظهور حكومات متنافسة في غرب البلاد وشرقها. ورداً على هذا الانقسام، ركز المجتمع الدولي في البداية على تقليل الأضرار، أي التخفيف من تأثير الصراع على المؤسسات الاقتصادية الرئيسية، ومحاولة منع انقسامها وحماية القطاعات الحيوية مثل النفط.

وقد أسفرت هذه الجهود عن نتائج متباينة؛ فعلى سبيل المثال، فشلت في الحفاظ على حوكمة وطنية موحدة لمصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، لكنها لم تكن بلا جدوى تماماً.

بل يمكن القول إن التحرك الدولي المنسق حال دون حدوث تداعيات أشد خطورة. فقد ضمن الاعتراف الدولي الشامل بقيادة مصرف ليبيا المركزي في طرابلس أن الكيان الموجود هناك وحده هو القادر على الوصول إلى الأسواق المالية الدولية والعملات الأجنبية.

وفي حالة المؤسسة الوطنية للنفط، مُنعت القيادة الموازية التي أُنشئت في الشرق، بفعل ضغط المجتمع الدولي، من بيع النفط مباشرة في الأسواق العالمية. ولم تحل هذه التدابير جميع المشكلات المرتبطة بانقسام الحوكمة – إذ طوّر الشرق، كما ذُكر سابقاً، آليات تمويل خاصة به منفصلة تماماً عن نظرائه في طرابلس – لكنها حافظت على درجة مفيدة من الترابط الاقتصادي الوطني.

وعلى نحو عام، واصلت الكيانات التابعة للمؤسسة الوطنية للنفط في شرق وجنوب ليبيا استخراج النفط والمنتجات البترولية وبيعها، في حين تلقت السلطات في غرب البلاد الإيرادات وقامت بتوزيعها على المستوى الوطني.

في عام 2015، سعى الاتفاق السياسي الليبي، الذي وُقّع من قبل ليبيين دُعوا إلى عملية حوار برعاية الأمم المتحدة، إلى إنشاء حكومة موحدة لإنهاء الانقسام الإداري. وبينما وضع الاتفاق خريطة طريق لإجراء انتخابات في ظل حكومة موحدة، فقد سعى في الوقت ذاته إلى تحييد المؤسسات الاقتصادية والمالية عن الاضطرابات السياسية خلال فترة انتقالية كان من المفترض أن تسبق الانتخابات.

وشدّد الاتفاق على الشفافية، وسياسات مكافحة الفساد، والالتزام بالمعايير الدولية. وتحت مظلة الأمم المتحدة، هدف الاتفاق أيضاً إلى تجنب إغلاقات النفط وضمان استمرار عمل القطاعات الحيوية. إلا أن الحكومة التي تشكّلت بموجب الاتفاق – والمعروفة باسم حكومة الوفاق الوطني – رُفضت من قبل خليفة حفتر ومجلس النواب في الشرق، ما دفع الشرق إلى الإبقاء على حكومته الخاصة. وهكذا بقيت المشكلات دون حل.

في نوفمبر 2017، قال غسان سلامة، الممثل الخاص الجديد للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا ورئيس بعثة الأمم المتحدة آنذاك، أمام مجلس الأمن إن «السياسة في ليبيا تتشكل بدرجة كبيرة بفعل الافتراس الاقتصادي».

وقد أدرك سلامة ونائبته ستيفاني ويليامز أن الاستيلاء على الموارد أصبح محركاً رئيسياً للصراع المستمر في ليبيا، وأن معالجة هذه المشكلة تتطلب وضع القضايا الاقتصادية في صدارة الانخراط السياسي للأمم المتحدة مع البلادغير أن هذا الإعلان عن النوايا لم يُترجم إلى أفعال، جزئياً بسبب تدهور الأوضاع على الأرض.

كان سلامة يأمل في الانتقال من التوسط في اتفاقات مؤقتة حول قضايا محددة، مثل إغلاقات النفط، إلى معالجة الأسباب الجذرية للصراع ضمن تسوية سياسية أشمل. وكانت خطته طرح المكونات الاقتصادية للإصلاح في «المؤتمر الوطني» المزمع عقده في أبريل 2019، والذي كان من المقرر أن يجمع مختلف الأطياف الليبية للتفاوض على اتفاق ينهي الانقسام السياسي ويرسم مساراً توافقياً للمستقبل.

غير أن الشكل الدقيق لما كان مخططاً له على الصعيد الاقتصادي لم يُكشف عنه قط، ليس أقلها لأن المؤتمر أُلغي بعد هجوم قوات الجيش العربي الليبي التابعة لحفتر على طرابلس، قبل موعد انعقاده بأسبوعين.

ورغم هذه الانتكاسة، ظلت بعثة الأمم المتحدة ملتزمة بمعالجة المحركات الاقتصادية للصراع من خلال إنشاء هيئة ليبية جديدة وأخرى دولية موازية لها. ففي 7 يناير 2020، أنشأت البعثة «لجنة الخبراء الاقتصاديين الليبيين» (LEEC)، والتي ضمت مسؤولين وخبراء وأكاديميين ليبيين، وكُلّفت بوضع إصلاحات أساسيةوجاء إنشاء اللجنة بعد أشهر من التفاعل الذي قادته البعثة، وتوّج بعقد اجتماع في القاهرة ضم الأعضاء الذين تم اختيارهم للجنة لمناقشة آليات عملها.

وقُسّمت اللجنة إلى ثلاث مجموعات عمل:

  1. القطاع المصرفي والقطاع الخاص؛

  2. توزيع الإيرادات والشفافية؛

  3. إعادة الإعمار والتنمية.

وفي الوقت نفسه، اجتمع ممثلو المجتمع الدولي في 9 يناير 2020 في مؤتمر برلين الأول، حيث سعى سلامة إلى حشد الدعم للجهود السلمية التي تقودها الأمم المتحدة. وانطلق المؤتمر من قناعة مفادها أن التوصل إلى اتفاق بين الأطراف الليبية المتنافسة غير ممكن دون توافق دولي حول المسار الواجب اتباعه في ليبيا.

وأسفر الاجتماع عن «إعلان برلين»، الذي حدد سبعة مكونات لعملية السلام، من بينها وقف إطلاق النار، وإصلاح القطاع الأمني، والإصلاح الاقتصادي والمالي. كما أعلن الإعلان تشكيل «لجنة متابعة» لفريق العمل الاقتصادي (EWG) لتنسيق الدعم الدولي لاستقرار الاقتصاد الليبي وتوحيد مؤسساته، تحقيقاً لأهداف الإعلان.

وصادق قرار مجلس الأمن رقم 2510 (2020) على مخرجات مؤتمر برلين، وأكّد في الوقت ذاته إنشاء لجنة الخبراء الاقتصاديين الليبيين. غير أن القرار لم يوضح بشكل حاسم العلاقة بين المسارين الاقتصادي والسياسي، ما أبقى الغموض قائماً حول الأدوار المتوقعة لكل من اللجنة الليبية وفريق العمل الاقتصادي.

هل كان من المفترض أن تُمنح لجنة الخبراء صلاحيات اتخاذ قرارات ملزمة لأي سلطة حاكمة؟ أم أن دورها اقتصر على تقديم المشورة للسلطات الليبية ونظرائها الدوليين ضمن فريق العمل الاقتصادي؟

ما اتضح لاحقاً هو أن أعضاء لجنة الخبراء توقعوا أن تُمنح صلاحيات تنفيذية، بما يضعهم على قدم المساواة مع نظرائهم في المسار السياسي، في حين انتهى الأمر بالمجتمع الدولي إلى تبني الخيار الثاني. وهكذا أصبحت اللجنة عملياً هيئة استشارية تعمل مع فريق العمل الاقتصادي لتقديم توصيات إلى الحكومة الليبية. وعلى الرغم من أهمية هذا الدور، فإنه كان أقل وزناً بكثير من المسار السياسي.

وزاد من تعقيد عمل فريق العمل الاقتصادي وجود أربعة رؤساء مشاركين له – الولايات المتحدة، وبعثة الأمم المتحدة، ومصر، والاتحاد الأوروبي – لكل منهم أولوياته ومصالحه الخاصة. كما كانت الأولويات الموكلة إلى الفريق واسعة للغاية، تراوحت بين السعي إلى إصلاح اقتصادي هيكلي ودعم تقديم الخدمات العامة الأساسية.

وفوق ذلك، لم يكن لدى فريق العمل الاقتصادي وسائل واضحة لتحقيق هذه الأهداف الطموحة، باستثناء تيسير الحوار بين المسؤولين والمؤسسات الليبية.

وفي الوقت ذاته، صاغت الوحدة الاقتصادية في بعثة الأمم المتحدة «خارطة طريق مفصلة للإصلاحات السياسية» كان من المفترض تنفيذها بدعم من فريق العمل الاقتصادي ولجنة الخبراء. وأدت هذه التطورات مجتمعة إلى أن يتمحور المسار الاقتصادي حول التوصل إلى اتفاقات بين شاغلي المناصب القائمين، مع استهداف تحسينات في الحوكمة الاقتصادية.

غير أن الزخم لهذه الأجندة تراجع مع تركيز الاهتمام الدولي على تشكيل حكومة جديدة عبر عملية اختيار أخرى قادتها الأمم المتحدة، عُرفت باسم «ملتقى الحوار السياسي الليبي»، في أكتوبر 2020. ونتيجة لذلك، لم يتحقق سوى القليل من التدابير المستهدفة في خارطة طريق الإصلاح.

يتبع

***

تيم إيتون زميل باحث أول في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تشاتام هاوس، ويركز بحثه على الاقتصاد السياسي للصراع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعلى الاقتصاد السياسي للصراع الليبي على وجه الخصوص.

____________

مواد ذات علاقة