بقلم دينا حلمي

«  …ثائق سرية تكشف تورط مدعي عام الجنائية الدولية في قضية تلقي رشوة من ملياردير ليبي» …  «اتهام مدعي عام الجنائية السابق بالتعاون مع رجل أعمال ليبي» … «أوكامبو يرتشي من أحد رجال القذافي»

كانت هذه إذن مجموعة من العناوين الصحفية، تسلط الضوء على الجانب المظلم من عمل الجنائية الدولية، المنوطة بالأساس بإرساء قيم العدل والإنسانية ومحاربة الفساد ومحاكمة مجرمي الحرب.

لكن ما يلفت نظر القارئ العربي ويثيره أن يجد اسمًا عربيًا في إحدى قضايا فساد هذه المحكمة، ويكون هذا الرجل، هو الملياردير الليبي، «حسن طاطاناكي».

فمن هو؟

وأين يقع على الخريطة السياسية للبلاد؟

وما مدى قربه من حكومات ليبيا المختلفة ودول الجوار النافذة في الداخل الليبي؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه في سياق التقرير.

«طاطاناكي» رجل الأعمال المقرب لنظام الطاغية

لا تخلو البيروقراطيات العربية الحاكمة من طبقات رجال الأعمال، لاسيما وأن هذه الدول على غناها بالموارد الطبيعي فهي فقيرة بما فيها من فساد. هناك في ليبيا ثمة رجل أعمال اشتهر بالنفوذ، وعُرف عنه تشييده لقصور العظماء حول العالم، ذاع صيته بالشرق الأوسط والولايات المتحدة وأوروبا، هو الملياردير الليبي المرتبط دائمًا بالسلطة «حسن طاطاناكي».

فما بين القذافي و حفتر دائمًا ما تردد اسم «طاطاناكي»، كأحد الفاعلين وصانعي الأحداث من خلف الكواليس، إلى أن ارتبط اسمه مؤخرًا بدولة الإمارات العربية المتحدة، بصفته إحدى أذرعها ووسطائها لتنفيذ استراتيجيتها بالأراضي الليبية.

تكفّل الملياردير الليبي بآلاف الدولارات للترويج لـ «القذافي» إعلاميًا وتغيير صورته في عيون العالم الخارجي

انطلاقًا من فترة «القذافي» وغرائبه الشهيرة، بدأ رجل الأعمال مساره السياسي في المشهد الليبي، بالعمل في مجال العلاقات العامة لتعزيز علاقات ليبيا الخارجية مع دول العالم ورسم صورة معتدلة لها بعيدًا عن تلك التي رسمها «القذافي» في أذهان العالم بمعتقداته ومواقفه الغرائبية المعروفة.

وما بين يناير/تشرين الثاني 2008 وأبريل/نيسان 2010 دفع الرجل صاحب بريمات استخراج النفط الليبي أكثر من 570 ألف دولار لتغطية الرسوم والمصروفات لشركة علاقات عامة أمريكية، تُدعى «براون لويد جيمس» لتعزيز صورة ليبيا وخاصة مع الولايات المتحدة، حيث ساعدت هذه الشركة بالنيابة عن «طاطاناكي» في ترتيب بعض خطابات «القذافي»، وتوزيع مقالاته، وإجراء مقابلات له مع وسائل الإعلام.

كذلك تكفل «طاطاناكي» بأكثر من 575 ألف دولار أخرى دفعها إلى شركة العلاقات العامة للتنسيق بشأن زيارة «القذافي» الأولى إلى نيويورك، والتي كان من المقرر أن يلقي خلالها خطابًا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وبالرغم مما قام به «القذافي» من تصرفات تخيب أمل «طاطاناكي» وشركة العلاقات العامة، حيث مزق الميثاق العام للمنظمة أمام الجميع ووجه الاتهامات إلى «مجلس الأمن» مشبهًا إياه بتنظيم «القاعدة»، إلا أن ذلك لا ينفي الدور الذي قام به رجل الأعمال وراء الستار في تحسين علاقات ليبيا مع العالم الخارجي وخاصة مع واشنطن.

كيف تغير ولاء المال بين عشية وضحاها؟

انتهت جهود «طاطاناكي» وسقطت بسقوط القذافي عقب الثورة الشعبية الليبية، إلا أن الرجل ذاته لم يسقط، ولم يستغرق وقتًا طويلًا ليواكب الأحداث وينتقي حلفاءه الجدد، إذ سرعان ما تغيرت ولاءاته وتحول من كونه أحد أهم المقربين لنظام «القذافي» إلى أحد أبرز الفاعلين على الساحة الليبية بعد صعود «حفتر»، وتأسيس «قوات الكرامة» بقيادته ومن ورائه دولة الإمارات، فقد استطاع طاطاناكي الانضمام إلى ذلك التحالف، موجهًا جهوده في خدمة الاستراتيجية الإماراتية لدعم «حفتر» بليبيا.

سرعان ما تبدل طاطاناكي وتغيرت ولاءاته وتحول من الرجل المقرب للنظام إلى أحد وكلاء الإمارات الداعمين لحفتر ماليًا وإعلاميًا

من أجل هذا أنشأ «طاطاناكي» قناة «ليبيا أولًا» والتي مولتها الإمارات وأنفقت عليها نحو 74.4 مليون دولار لدعم «حفتر » إعلاميًا، وتشويه جماعة «الإخوان المسلمين» بليبيا، حيث تتبنى القناة أجندة معادية لكلّ من ينتمي لتيّار الإسلام السياسي، وتروج في المقابل لـ«ميليشيات الكرامة» بقيادة «خليفة حفتر».

وفي هذا الإطار دائمًا ما كان الملياردير الليبي يصف نفسه بأنه شريك لـ«حفتر»،ويعلن صراحة كرهه للإسلاميين متهمًا إياهم بإفشال الثورة الليبية ومطالبًا بحظر تلك الجماعات كما هو الحال في الجوار المصري.

لم يتوقف الدعم الذي قدمه «طاطاناكي» إلى «حفتر» عند حد الدعم الإعلامي، إذ قام بتدعيمه ماليًا، وكان أحد الشخصيات التي اقترحت نقل مجلس النواب إلى مدينة «طبرق» شرقي البلاد، حيث الأراضي التي يسيطر عليها المشير، كما أعلن ذلك صراحة في حوار له مع مجلة «فورين بوليسي» في أغسطس/ِآب 2014.

وفي ذات السياق أكدت المجلة في تقرير لها أن «طاطاناكي» هو أحد أبرز رجال الإمارات في ليبيا، معتبرة إياه الشخص الأكثر تأثيرًا في شبكة الرموز الداعمة لمصر والإمارات نظرًا لثروته الكبيرة ودوره المتنامي في دعم «حفتر».

«طاطاناكي» يشتري الجنائية الدولية

توالت الأنباء منذ أيام عن حلقة جديدة في سجل ومسار رجل الأعمال الليبي، يستكمل بها دوره الداعم لـ«حفتر» على الساحة الليبية، عبر شرائه لـ«لويس مورينو أوكامبو»، المدعي العام السابق بالمحكمة الجنائية الدولية، بموجب عقد مدته ثلاث سنوات، وبراتب مليون دولار سنويًّا، إضافةً إلى راتب يومي قيمته خمسة آلاف دولار (مليون و825 ألف دولار سنويا) .

وذلك في مقابل:

ـ الحماية من المساءلة القانونية لقناته «ليبيا أولًا» الداعمة والمروجة لـ«حفتر»،

ـ ومساعدته في الترويج لمبادرته «العدالة أولًا» الهادفة لإحلال السلام في ليبيا،

ـ وتقديم النصائح والمشورة القانونية لتفادي محاكمته أمام الجنائية الدولية في ظل ما تسرب له من أن ملف «طاطاناكي» كان تحت مجهر محققي جرائم الحرب بالمحكمة .

الأمر الذي كشفته وثائق مسرَّبة نقلتها صحيفة «ميديا بارت» الفرنسية.

كشفت الوثائق أيضًا عن توصيات أوصى بها «أوكامبو» رجل الأعمال حذف أحاديث تحريضية ومعلومات أدلى بها «صقر الجروشي» قائد سلاح الجو في قوات برلمان طبرق (التي يقودها حفتر) على قناة «ليبيا أولا»، في مايو/آيار 2015، حيث تعهد فيها بقتل أي شخص يرفض الانضمام لحملته العسكرية قائلا: «هؤلاء خونة، يجب ذبحهم، واغتصاب نسائهم أمام أعينهم».

كذلك أشارت الوثائق التي بلغ عددها نحو أربعين ألف وثيقة وبرقيات دبلوماسية تم التحقق منها أن «أوكامبو» شدد على عدم جواز إطلاق مثل هذه التصريحات التحريضية، وعمل على اتخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين الموقف القانوني لـ «طاطاناكي» وألا يكون هدفًا لتحقيقات الجنائية الدولية على خلفية علاقته بـ«حفتر» والميليشيات المتهمة بارتكاب جرائم حرب في ليبيا.

مستقبل الملياردير في ظل الدور الإماراتيالمصري بليبيا

تشير هذه الشبكة من التحالفات والعلاقات التي يقيمها الملياردير الليبي مع كلٍ من المشير «حفتر» ودولة الإمارات وقدرته على التغيير على تجنيد أحد القادة السابقين للجنائية الدولية، إلى التأثير والنفوذ القوي لرجل الأعمال بالأزمة الليبية من وراء الستار.

كما تشير من جانب آخر إلى أن مستقبل الملياردير الليبي يتوقف إلى حد كبير على تزايد الدور الإماراتي بصفة خاصة والمصري بصفة عامة في ليبيا وذلك باعتباره أحد مفاتيح الاستراتيجية المصرية الإماراتية في الأزمة الليبية، الأمر الذي وضحته أيضًا «مجلة فورين بولسي» مشيرةً إلى أنه في ظل تطور الدور الإماراتي المصري، فإن شخصيات مثل «طاطاناكي» وغيره ستتمكن من الحصول على فرصة أكبر من منافسيهم.

وهكذا في ظل الدور المتزايد للإمارات بليبيا المتراوح ما بين بناء القواعد العسكرية وتوجيه الضربات الجوية والدعم المالي المفتوح لـ«حفتر» كما أشار تقرير فريق الأمم المتحدة في ليبيا الصادر في يونيو/حزيران الماضي، والذي اتهمها بانتهاك حظر الأسلحة المفروض على ليبيا بتقديم الدعم المادي والدعم المباشر لما يسمى بـ«الجيش الوطني الليبي» الذي يقوده «حفتر» من المتوقع أن يتزايد التأثير المستقبلي لـ«طاطاناكي» وأمثاله من وكلاء الإمارات في ليبيا.

________________

مواد ذات علاقة