عبد الرحمن مبيريك

تحاول هذه الورقة قراءة بعض التطورات المتجددة في المنطقة المغاربية وأبرزها قمة تونس الثلاثية التي جمعت ليبيا والجزائر وتونس مع غياب المغرب وموريتانيا، وبيَّنت الورقة بعض السياقات المهمة لفهم هذه القمة.

في 22 أبريل/نيسان 2024، احتضنت تونس العاصمة قمة مغاربية ثلاثية حضرها رئيسا تونس، قيس سعيد، والجزائر، عبد المجيد تبون، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد المنفي.

وحمل البيان الختامي للقمة تأكيدًا على تعزيز التنسيق الأمني وحماية الحدود، وضبط حركة الهجرة غير النظامية خاصة القادمة من الساحل الإفريقي في اتجاه أوروبا. وتعهد القادة الثلاثة أيضًا بتعزيز التعاون الاقتصادي والاستثمار البيني.

اللافت في قمة تونس ليس ما تضمنه بيانها الختامي؛ ذلك أنه لم يخرج عن المألوف، بل طبيعتها الثلاثية التي تكسر قاعدة خماسيةالعمل المغاربي المشترك السائدة منذ إعلان تأسيس اتحاد المغرب العربي، في فبراير/شباط 1989.

فقمة تونس لم تحضرها موريتانيا ولا المغرب! وإن كانت أبرز محطة في مسار البناء المغاربي مع إرهاصات الاستقلال، أي مؤتمر طنجة، في أبريل/نيسان 1958، كانت ثلاثية بمشاركة الحزب الدستوري التونسي، وحزب الاستقلال المغربي، وجبهة التحرير الوطني الجزائرية.

ويعود ذلك إلى كون ليبيا كانت تحت الوصاية البريطانية، بينما كانت البلدان الثلاثة الممثلة تحت الاستعمار أو الحماية الفرنسية، أما موريتانيا فكانت محل مطالبات إلحاقية مغربية كان يقودها علال الفاسي، زعيم حزب الاستقلال المستضيف للمؤتمر.

مبادرة الجزائر: القراءات المتعددة

الواقع أن قمة تونس توجت مسار تقارب بين الجزائر وبين تونس وليبيا، بدأ باجتماع ثلاثي بين قادة البلدان الثلاثة على هامش قمة الدول المنتجة للغاز التي احتضنتها الجزائر في مارس/آذار 2024. وخلال هذا الاجتماع، الذي دعا إليه الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، اتفق القادة الثلاثة على الالتقاء خلال ثلاثة أشهر، والسير في اتجاه تعزيز التشاور والشراكة بين بلدانهم.

ويمكن النظر إلى اجتماع الجزائر ثم قمة تونس في إطار توجه جزائري إلى تنويع الشراكات الاقتصادية والتبادل التجاري مع جوارها المباشر. فقد أعلن الرئيس الجزائري نية بلاده إقامة مناطق للتبادل الحر مع خمس من دول الجوار، هي: موريتانيا وتونس وليبيا ومالي والنيجر، قبل نهاية 2024.

وفعلًا، دشن الرئيس الجزائري ونظيره الموريتاني، في شهر مارس/آذار 2024 بتندوف، منطقة تبادل حر، يُفترض أن تعزز التبادل التجاري والشراكة بين القطاع الخاص في البلدين خاصة في المجال المصرفي.

وبينما تؤكد السلطات الجزائرية أن الهدف من هذا التوجه الإفريقي هو تعزيز الشراكة البينية على مستوى القارة والمساهمة في إرساء أسس منطقة التبادل الحر القارية التي أقرها الاتحاد الإفريقي، يرى متابعون لشؤون المنطقة في توجه الجزائر جنوبًا تعبيرًا عن تردي علاقاتها مع الشمال خاصة فرنسا على خلفية رفض الجزائر استقبال المهاجرين غير النظاميين المرحَّلين، ورد فرنسا بخفض عدد التأشيرات التي تمنحها قنصلياتها في الجزائر للطلاب الجزائريين الراغبين في الدراسة بفرنسا.

كما أن علاقات الجزائر مع إسبانيا ساءت جدًّا في العامين الأخيرين على خلفية التقارب بين مدريد والرباط والذي تُوِّج، في أبريل/نيسان 2022، ببيان إسباني رسمي يعتبر مبادرة الحكم الذاتي التي يعرضها المغرب لتسوية النزاع على الصحراء الغربية بأنها الأساس الأكثر جدية وواقعية وذو المصداقية لحل النزاع“.

وفضلًا عن كل هذا، فإن علاقات الجزائر بأوروبا الغربية، وهي شريكها التجاري الأهم والأقرب، ليست في أحسن أحوالها في ضوء التزام الجزائر الحياد بشأن الحرب الروسيةالأوكرانية، ورفضها التنديد باجتياح روسيا أراضي أوكرانية في فبراير/شباط 2022.

وهنا تبدو دلالة الفقرات التي تضمنها البيان الختامي لقمة تونس بشأن الهجرة غير النظامية وحماية وتأمين الحدود، والدعوة لتسوية سياسية في ليبيا. وهي مواضيع تحتل عادة مكانة مركزية في الحوار بين دول جنوب المتوسط المغاربية في أغلبها وبين دول الشمال المنتمية كلها لإطار مؤسسي واحد هو الاتحاد الأوروبي.

وبحكم موقعها الجغرافي المركزي في المنطقة المغاربية وامتدادها جنوبًا إلى منطقة الساحل، تبدو الجزائر مؤهلة أكثر من غيرها للاضطلاع بدور المخاطَب الرئيس بالنسبة للأوروبيين بشأن هذه المواضيع في إطار مؤسسي مغاربي لا يضم المغرب.

الجزائر والمغرب: علاقة على المحك

في أبريل/نيسان 2024، أكد الرئيس الجزائري أن هذا الإطار الثلاثي ليس موجهًا ضد أحد، وأن الباب مفتوح لدول المنطقة وجيراننا في الغرب“.

لزم المغرب الرسمي صمتًا مطلقًا إزاء قمة تونس رغم ما قد يكون لها من تداعيات على منظمة اتحاد المغرب العربيالتي وُلدت على أرض مغربية هي مراكش خلال قمة استضافها الملك الراحل، الحسن الثاني، في فبراير/شباط 1989، وحضرها قادة البلدان الأربعة المغاربية الأخرى: الليبي معمر القذافي، والتونسي زين العابدين بن علي، والجزائري الشاذلي بن جديد، والموريتاني معاوية ولد سيد أحمد الطايع.

مقابل هذا الصمت الرسمي، تناول الإعلام المغربي قمة تونس على نطاق واسع وأفرد لها مساحات مهمة، مُفترضًا فشلها الحتمي، واستحالة قيام إطار مغاربي دون المغرب.

ينظر الإعلام المغربي إلى قمة تونس على أنها حلقة جديدة في الصراع الدبلوماسي والسياسي مع الجزائر والذي بلغ ذروته بإعلان هذه الأخيرة قطع علاقاتها بالرباط، في أغسطس/آب 2021، ليستدعي ما يعتبرها انتصارات دبلوماسية مغربية، خاصة في ملف قضية الصحراء الغربية والموقف الإسباني، ثم يخلص إلى أن الجزائر تواجه عزلة من الشمال ومن الجنوب، مستشهدًا بالتوتر في علاقاتها مع مالي والنيجر على خلفية الانقلابين العسكريين في هذين البلدين ومساعي الوساطة التي قادتها الجزائر وانتهت إلى توتر في علاقاتها بالأنظمة العسكرية الحاكمة هناك.

تعيش علاقات المغرب وتونس حالة من الفتور الشديد منذ استقبال الرئيس، قيس سعيد، زعيم جبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، خلال مشاركته في القمة الإفريقية التي احتضنتها تونس في أغسطس/آب 2022. ومن هذا المنطلق يرى الإعلام المغربي أن سياسة تونس الخارجية باتت رهينة لمواقف الجزائر، كما يقلل من أهمية مشاركة رئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد المنفي، ويعتبر أن دوره تمثيلي، وأن السلطة بيد رئيس الحكومة، عبد الحميد الدبيبة، وعدم مشاركته يعني أن ليبيا ليست معنية بالإطار الثلاثي الجديد.

يثمِّن الإعلام المغربي رفض موريتانيا المشاركة في قمة تونس، ويعتبر ذلك دليلًا على تهافت المبادرة الجزائرية وأنها لا تعبِّر عن مزاج إقليمي عام يعكس تطلعات شعوب المنطقة بقدر ما هي محاولة لكسر عزلة مستفحلة على المستوى الإقليمي ومشاكل سياسية واجتماعية داخلية مستفحلة يعيشها النظام الجزائري.

مبادرة في مواجهة أخرى: المتوسط والأطلسي

ظلت المنطقة المغاربية موزعة في هويتها البحرية بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وظل التساؤل قائمًا دائمًا: هل المنطقة المغاربية متوسطية أم أطلسية؟ ورغم أن الهوية الحضارية المتوسطية طاغية، فإن البعد الأطلسي لم يكن أبدًا هامشيًّا في تاريخ المنطقة خاصة في الحقبة الاستعمارية وما بعدها. فإذا كانت تجارة القوافل التي ازدهرت وحملت التنوير إلى المنطقة جاءت من المتوسط، فإن الأطلسي أصبح المجال الأهم للمبادلات التجارية والثقافية منذ الحقبة الاستعمارية.

لا يمكن النظر إلى المبادرة الجزائرية، التي تبلورت في قمة تونس، بمنأى عن مبادرة أخرى أطلقها المغرب أواخر السنة وجاء الإعلان عنها في خطاب الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الثامنة والأربعين لـالمسيرة الخضراء، في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وسُميت الإستراتيجية الأطلسية لدول الساحل“. انعقد الاجتماع التأسيسي للمبادرة، في 23 ديسمبر/كانون الأول 2023، وحضره وزراء خارجية المغرب، البلد المضيف، ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

واللافت أن الدول الأربع التي لبَّت الدعوة المغربية كلها من دول الساحل الإفريقي وكانت منضوية في إطار إقليمي هو مجموعة الخمس للساحلالذي تأسس عام 2015 بمبادرة من موريتانيا، ثم انفرط عقده بإعلان مالي والنيجر وبوركينا فاسو الانسحاب منه، في 2023، على خلفية موجة الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة ورافقها بروز مزاج شعبي مناوئ لفرنسا وتوجه من المجالس العسكرية الحاكمة في البلدان الثلاثة إلى تعزيز التعاون الأمني والعسكري مع روسيا ممثلة في شركة فاغنرالتي توفر الحماية الأمنية لهذه الأنظمة.

تقوم المبادرة المغربية على توفير منفذ إلى المحيط الأطلسي لدول الساحل الحبيسة، وهو أمر يبدو المغرب عاجزًا عن توفيره ذاتيًّا بحكم أنه لا يتصل جغرافيًّا بهذه الدول جميعها. غابت موريتانيا والسنغال وغينيا كوناكري عن اجتماع مراكش، وكان ذلك إخفاقًا كبيرًا للمبادرة المغربية في مهدها. إذ كيف يمكن الحديث عن منفذ بحري يتصل بالمغرب لوجستيًّا عبر ميناء الداخلة في غياب هذه البلدان الثلاثة؟

يمكن فهم الموقف الموريتاني من حقيقة أن اجتماع مراكش كان في الواقع تجميعًا لدول مجموعة الخمس للساحلفي إطار جديد يقوده المغرب البعيد جغرافيًّا عن منطقة الساحل، وبالتالي فإن نواكشوط ترفض المضي في ركاب المغرب داخل إطار كانت هي نفسها تقوده. هذا فضلًا عن دوافع اقتصادية لعل أهمها اعتماد دولة مالي الكبير على ميناء نواكشوط في الاستيراد والتصدير.

أما السنغال، فكان موقفها تعبيرًا عن القطيعة بين منظمة الإكواسوالأنظمة العسكرية في مالي وبوركينا والنيجر، كما أنها ترى في المشروع المغربي مشروعًا منافسًا. فميناء داكار هو أحد أهم موانئ الاستيراد بالنسبة لمالي والنيجر في مستوى دون ذلك.

توجد منطقة الصحراء الغربية المتنازع عليها بين المغرب وجبهة البوليساريو في القلب من الإستراتيجية الأطلسية المغربية، فأكبر ميناء ستستند إليه هو ميناء الداخلة الأطلسيوهو ميناء في المياه العميقة يوجد في منطقة العركوب شمال مدينة الداخلة، وبدأ العمل فيه عام 2019 وسيكلف نحو 1.3 مليار دولار، وأهم طريق سيؤمِّن الربط بين المغرب والدول المعنية عبر الأراضي الموريتانية هو طريق (تيزنيتالداخلة) الذي يمتد نحو 900 كيلومتر في الإقليم.

وفي ضوء هذه الحقائق الموضوعية، يمكن فهم تحفظ موريتانيا على المشاركة في اجتماع مراكش انسجامًا مع مبدأ الحياد الذي تلتزمه إزاء نزاع الصحراء الغربية منذ توقيع اتفاق الجزائر مع بوليساريو، في أغسطس/آب 1979.

تتخذ المبادرتان، الجزائرية والمغربية، من المنطقة المغاربية منطلقًا، لكن كليهما، رغم التنافس، كي لا نقول: العداء بين البلدين، تنتهيان إلى هدف واحد هو منطقة الساحل، في مسعى واضح لاستيعابه والتحدث باسمه لدى الشركاء الأوروبيين خاصة بشأن ملفات الهجرة والأمن ذات الأهمية الكبيرة بالنسبة للاتحاد الأوروبي.

وهنا يبدو البلدان المغاربيان الأهم كما لو أن كلًّا منهما يسعى إلى التكيف مع تداعيات خروج فرنسا من منطقة الساحل الإفريقي وتعزيز مكانته مخاطبًا ذا مصداقية في الملفات الأكثر حساسية وهي: الهجرة، والأمن، ومحاربة المجموعات المسلحة والجريمة.

لكن هذا الطموح تعترضه عوامل موضوعية صاحبت موجة الانقلابات الأخيرة أبرزها الحضور الروسي المتعاظم والمتوثب، وكذلك تنامي المشاعر الوطنية والخطاب السيادي الرافض لأي تأثير أو تبعية خارجية حتى لو كانت من دول شمال القارة الإفريقية. ويمكن الاستشهاد في هذا الباب بالأزمتين الدبلوماسيتين بين كل من مالي والنيجر مع الجزائر على خلفية وساطتها في مسار السلام في الأولى والأزمة الدستورية والسياسية اللاحقة على الانقلاب على الرئيس، محمد بازوم، في الثانية.

الاتحاد المغاربي: أي مصير؟

التنافس على ريادة المنطقة المغاربية بين الجزائر والمغرب قديم قدم استقلال هذين البلدين، وقد جسدته حروب مثل حرب الرمال، ثم ملف الصحراء الغربية الذي تسبب في مواجهة مسلحة دامت 16 عامًا بين المغرب من جهة والبوليساريو المدعومة من الجزائر من جهة ثانية، كما أن حالة الموت السريري التي يعيشها الاتحاد المغاربي، منذ آخر قمة لقادته عام 1994، كانت تعبيرًا صريحًا عن حالة الصراع بين هذين البلدين، نزولًا وصعودًا، والأزمات التي عاشاها.

واليوم، يطرح تنافس المغرب والجزائر، وهما القوتان الأهم اقتصاديًّا وسياسيًّا وديمغرافيًّا في المنطقة المغاربية، على طرح مبادرات تستهدف استشراف آفاق للتعاون والريادة خارج الإطار المغاربي، في بعضها، وداخل جزء منه دون الآخر، في بعضها الآخر، تساؤلات جدية بشأن إمكانية بقاء منظمة الاتحاد المغاربي، بل بشأن الوجدان المغاربي الذي عبَّرت عنه مبادرات سياسية ونماذج من التضامن والأخوة في مراحل مأساوية في أغلبها من تاريخ المنطقة أبرزها الحقبة الاستعمارية.

ويبدو الاتحاد المغاربي موزعًا بين جناحين؛ أولهما: عبَّرت عنه قمة تونس وتتزعمه الجزائر ومعها تونس وليبيا، والثاني: عبَّرت عنه مبادرة المغرب الأطلسية. وبين الاثنين، نجد موريتانيا وهي دولة نائية من دول الاتحاد وهي أقلها وزنًا من الناحية الديمغرافية والاقتصادية، لكن موقعها الذي يجعل منها بلدًا مغاربيًّا وساحليًّا في الآن ذاته يؤهلها للعب دور مساعد لنجاح المبادرتين، المغربية والجزائرية، في منطقة الساحل، وفي الآن نفسه بذل جهد للتقريب بين البلدين من أجل بقاء الاتحاد المغاربي.

لا تبدو المهمة يسيرة نظرًا للصراع على الريادة الإقليمية، كما تثار أسئلة كبرى بشأن رغبة موريتانيا في الدخول في الصراع بين البلدين الأكبر في المنطقة المغاربية، لكن إجماع الدول المغاربية على اختيار موريتانيا لتولي الرئاسة الدورية للاتحاد الإفريقي، أوائل عام 2024، عن منطقة شمال إفريقيا، يؤشر إلى أنها مؤهلة للعب دور في المصالحة المغاربية، الجزائريةالمغربية، ولأن تصبح قنطرة للتواصل بين الفضاء المغاربي والفضاء الساحلي الصحراوي.

***

عبد الرحمن مبيريك ـ صحفي بقناة الجزيرة مختص في الشؤون الإفريقية

_________________

مواد ذات علاقة