رشيد خشانة

تفاقمت وتنوعت التعديات على الحريات في المنطقة المغاربية، إذ شملت ناشطين حقوقيين وإعلاميين ومكونات أخرى من المجتمع المدني، على نحو عزز قبضة الدولة، بعد فترة من الارتخاء لم تدم طويلا.

وشكل حبس الصحافي الجزائري المخضرم إحسان القاضي مرآة لسطوة الأجهزة الأمنية على المجتمع، إذ أن السيناريو يتكرر بنفس الطريقة تقريبا في جميع الدول المغاربية، فالذين يتولون الاعتقال هم ضباط شرطة بملابس مدنية، يأخذون المعتقل إلى مقر الشرطة السياسية، مثلما حصل مع الصحافي إحسان القاضي، حيث تم التحقيق معه أمنيا، قبل إحالته على القضاء.

خمس سنوات سجنا

ذلك هو المسار المُتبع مع غالبية المعتقلين السياسيين نساء ورجالا. وقررت محكمة سيدي محمد، وسط العاصمة الجزائر سجن القاضي خمس سنوات، بينها ثلاث سنوات نافذة. أما التهم الموجهة إليه فهي عرض منشورات ونشرات للجمهور «من شأنها الإضرار بالمصلحة الوطنية عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي». ويتعلق الأمر ببرامج يبثها القاضي عبر موقعي «راديو إم» و«مغرب إيمرجون».

لكن من يُحدد إذا ما تم الإضرار بالمصلحة الوطنية أم لا في تلك البرامج الإعلامية؟ أكثر من ذلك قررت المحكمة، زيادة على عقوبة السجن، حل شركة «إنترفاكس»، التي تُدير موقعي «راديو إم» و«مغرب إيمرجون» مثلما أسلفنا. وإمعانا في الانتقام من القاضي، قررت المحكمة أيضا إلزامه بدفع غرامة مالية، تعادل 54 ألف دولار. واعتبر لسان الدفاع عن القاضي أن شروط المحاكمة العادلة لم تتوافر في محاكمته.

ومن الواضح أن قسوة التعاطي مع القاضي وغلق صحيفتيه، هما رسالتان للجسم الصحافي بأكمله، لتحذيره مما قد يناله من اعتقال ومحاكمة، إذا ما تمسك بمطلب حرية الإعلام واستقلاليته. ولم تكتف السلطات الجزائرية بحبس النشطاء وإحالتهم على المحاكم، وإنما سعت إلى ضرب الهيئات القانونية التي تشكل سندا يحمي ظهورهم ويكشف النقاب عن التجاوزات المُرتكبة في حقهم.

مسلسل لشل الرابطة

ومنذ مطلع العام الجاري، بدأ تنفيذ فصول مسلسل يرمي إلى شل الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان (الثانية في العالم العربي) إذ فوجئت قيادتها بقرار حلها، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من دون تلقيها أي إشعار رسمي من السلطات بذلك القرار.

واتضح لاحقا أن وزارة الداخلية هي التي تقدمت بطلب رسمي للمحكمة، يوم الرابع من ايار/مايو الماضي، لحل الرابطة، وسرعان ما استجاب القضاء للطلب، إذ قررت المحكمة في 29 تموز/يوليو الماضي الاستجابة لطلب الحل، قبل أن يُنشر الحكم رسميا، لكن، مرة أخرى، لم يتم إشعار الرابطة بقرار المحكمة، كما لم تُتح لها الفرصة القانونية للدفاع عن نفسها ورد التهم الموجهة إليها، والتي وصفتها بـ«الكيدية».

ولاحظت الرابطة الجزائرية أن الجمعيات والمنظمات التي لحقتها الإجراءات القمعية الأخيرة، هي من تضامنت مع الحراك الاجتماعي، الذي عرفته الجزائر منذ 2019 ويُذكر من ضمنها «تجمع العمل الشبابي» (راج) وجمعية «أس أو إس باب الوادي». واعتبرت الرابطة أن الحكم القضائي الجديد الذي استهدفها، «يُدين آخر شاهد مستقل على انحسار مساحة الديمقراطية في الجزائر».

حراك في المغرب

في السنوات الأخيرة، ارتبطت المعارك الديمقراطية في المغرب الكبير، بحركات شعبية، واسعة الأجنحة، عالية السقف، أسوة بانتفاضة الجزائر، التي أطاحت بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة في 2019 وانتفاضة الحوض المنجمي في تونس، في أواخر عهد زين العابدين بن علي، وانتفاضة الريف في شمال المغرب، العام 2021 التي أُنهيت بالقوة.

وطفت على سطح الأحداث بعد ذلك، أسماء إعلاميين أيدوا مطالب «الانتفاضة» فأتى الدور عليهم ليدفعوا الثمن باهظا. وهناك إعلاميون سُجنوا لرفضهم الامتثال لخط التحرير الذي تسعى السلطات لفرضه عليهم، ومن هؤلاء توفيق بوعشرين وسليمان الريسوني وعمر الراضي في المغرب.

واعتقل بوعشرين عام 2018 وظل يؤكد أن محاكمته «سياسية» بالرغم من المحاولات المتكررة للسلطات لإلصاق تهم جنسية به. وأكد أن متابعته قضائيا مرتبطة بافتتاحياته المنتقِدة في صحيفة «أخبار اليوم» التي كان مدير نشرها، والتي توقفت عن الصدور في العام 2021. وأثارت محاكمته في حينها انتقادات من نشطاء حقوقيين داخل المغرب وخارجه.

وإلى جانب بوعشرين، أكدت المجموعة تعرض الصحافي عمر الراضي الذي يقضي في السجن عقوبة بخمس سنوات، لـ«ممارسات انتقامية» وفق تصريحات أسرته، التي أفادت أنه مُنع من الدواء، بالرغم من وضعه الصحي الصعب. كما تم «منعه» من الكتابة، وتفتيش الزنزانة بحثا عن الكتب والمخطوطات، بعد أن تم سلبه كل ما دوّنه خلال ترحاله من سجن إلى آخر.

وتكررت تلك الانتقادات في محاكمتي عمر الراضي وزميله سليمان الريسوني. ويقضي الريسوني، المعتقل منذ 2020 عقوبة بالسجن مدتها 5 أعوام، في قضيتي اعتداء جنسي متفرقتين، مع إضافة تهمة «التخابر» للأول. وكانت منظمة «هيومن رايتس ووتش» أدانت في أحد تقاريرها، استخدام «تقنيات قمعية» لإسكات صحافيين ومعارضين في المغرب، بمحاكمات في قضايا اعتداءات جنسية ملفقة.

أنموذج فريد في المنطقة؟

في المقابل ترد السلطات المغربية على تلك التقارير، بأن المحاكمات طالت أولئك الصحافيين في علاقة بقضايا لا تمُتُ لحرية الصحافة بصلة، زاعمة أن «القضاء مستقلٌ، ولا يتلقى أوامر من أي جهة كانت». إلا أن أحمد بنشمسي مدير الاتصال والمرافعة في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» وهو صحافي مغربي سابق لاحقته سلطات بلده، اعتبر أن المغرب يشكل نموذجا فريدا من نوعه في المنطقة، إذ «طور بيداغوجيته في القمع والترهيب» على ما قال.

وشدد بنشمسي، الذي كان يتحدث إلى المشاركين في ندوة نظمتها أخيرا «الهيئة الوطنية لمساندة معتقلي الرأي» بمناسبة مرور ثلاث سنوات على اعتقال الصحافي سليمان الريسوني، أن المغرب على عكس بلدان أخرى، مثل مصر التي تعتقل الأشخاص، وتعتدي عليهم بشكل مباشر، استطاع تطوير بيداغوجيته الخاصة.

وأوضح بنشمسي أنه، وبدل الاعتداء على ألف شخص، يتم الاعتداء على عشرة أشخاص، ويعرف العالم كله بقصتهم، ويكونون عبرة لأي شخص يفكر في انتقاد النظام أو يفتتح منبرا صحافيا، وهذه هي بيداغوجيا الترهيب الخطرة، التي تتوخاها السلطات المغربية. وهذه أمارة على أن الأنظمة الاستبدادية باتت تجتهد لتنويع أصناف التعديات على الموقوفين وتكثيف الضغوط المادية والمعنوية عليهم، وتسليط ضغوط اجتماعية، أساسا من أفراد أسرهم، لحملهم على التعاون معها.

ورأى بنشمسي أن الصحافيين المستقلين المشاكسين بالمغرب ينقسمون إلى فئتين، الأولى تعتبر الدولةُ أنهم غير معروفين بما يكفي، لكي تبذل جهدا خاصا معهم، أو لتضع لهم كمائن أو ملفا قضائيا بتهم جنائية لا علاقة لها بالصحافة، ضاربا مثلا على هذه الفئة بعدد من المدونين، مثل سعيدة العلمي ونور الدين العواج، اللذين يُتابعان قضائيا بفصول القانون الجنائي، التي تُجرم حرية التعبير.

هذه الفئة من الصحافيين والمدونين، يستهدفهم «المخزن» (الدولة) بشكل مباشر، ويحاكمون بسبب أقوالهم وكتاباتهم، بفصول غير مشروعة. ثم هناك فئة ثانية، ينتمي لها الريسوني والراضي، وتتكون من صحافيين معروفين دوليا، وتبذل الدولة مجهودا كبيرا للتشويش على مواقف الغرب المساند لهم، وتعطيل دخولهم على خط هذه الملفات. وحسب بنشمسي تجري فبركة تهم مرتبطة بالجنس لهذه الفئة الثانية، خاصة في سياق دولي يشهد اهتماما كبيرا بحقوق المرأة، وهو ما فطن له «المخزن» ودأب على استثماره.

ولفت بنشمسي إلى أن المدافعين عن حقوق الإنسان في الغرب، الذين لا يملكون تفاصيل دقيقة حول هذه الملفات، يجدون أنفسهم في وضع صعب، لأن الأمر لا يتعلق بحرية الصحافة مباشرة، بل بحقوق المرأة والمثليين. وتطرق بنشمسي إلى تقرير «هيومن رايتس ووتش» بعنوان «فيك فيك» الذي ينبه إلى وجود أساليب مختلفة لقمع الصحافيين والحقوقيين، ومن ذلك حالة الريسوني، الذي انتهك حقه في محاكمة عادلة بالاعتقال غير المبرر لمدة سنة، وعدم تمكينه من ملف قضيته.

كما نبه بنشمسي إلى أن التقرير يرصد وجوه التحرش التي يتعرض لها الصحافيون والمدافعون عن حقوق الإنسان بالمغرب، ومن ذلك تسجيلات فيديو من كاميرات مخبأة في المنازل أو الفنادق، والاعتداء الجسدي في الشارع، والتخويف عبر الأقارب، وما يكتب في المواقع من مقالات مسيئة، مبنية على معلومات مُضللة.

التيار السلفي المدخلي

أما في ليبيا فإن كثرة الميليشيات المسلحة وشلل مؤسسات الدولة، شجعا على انتشار الانتهاكات ودوس القوانين (إن وُجدت). وعلى مدى الفترة الماضية نفذت الأجهزة الأمنية والكيانات المسلحة في أنحاء ليبيا، حملات واسعة استهدفت بالدرجة الأولى حرية التعبير وتكوين الجمعيات، والمجتمع المدني المستقل بشكل عام.

وأفاد «البرنامج الدولي لحماية حقوق الانسان» أن من قاد تلك الحملات هو جهاز الأمن الداخلي في طرابلس، وبالتحديد العناصر المنتمية إلى التيار السلفي المدخلي (نسبة للداعية السعودي المتشدد ربيع المدخلي). كما استعان منفذو تلك الحملات بقوانين تعود إلى عهد القذافي.

وفي السياق أثارت مقاطع فيديو نُشرت على فيسبوك موجة من خطابات الكراهية ضد المدافعين عن حقوق الإنسان. وتم تداول قائمة من النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، مرفوقة بدعوات لمحاكمة «المرتدّين» بموجب الشريعة الإسلامية والحكم عليهم بالإعدام «إذا ما ثبتت إدانتهم». وفي 13 آذار/مارس 2022 تم حل «حركة تنوير» وهي حملة اجتماعية بارزة تدعو للمساواة بين الجنسين والحقوق الاجتماعية والثقافية. وفرّ أعضاء مجلس إدارتها إلى الخارج خوفا على سلامتهم. وهذا دليل على أن الوضع في داخل ليبيا بات خطرا وغير آمن بالنسبة للمعارضين المعتدلين السلميين.

خطابات الكراهية

كما تم استهداف منظمات أخرى بخطاب الكراهية والتهديدات عبر الإنترنت، بما في ذلك مجموعة «حوار ليبي عقلاني» ومنظمة البركة للتنمية المجتمعية. لكن مفوضية المجتمع المدني (رسمية) لم تتصد لتلك التجاوزات، بل إنها دعمت التدابير القمعية، بالرغم من علمها أن الغاية منها هي إرهاب مكونات المجتمع المدني، والضغط عليها بُغية حملها على غض الطرف عن الانتهاكات والهجمات.

وعلى الرغم من الحملات التي تقوم بها الجمعيات للتشهير بتلك الضغوط، تُمعن السلطات الأمنية في شرق ليبيا كما في غربها، في التنافس للسيطرة على البلاد، وتتفتق «مواهبها» على أساليب جديدة للقضاء على الأصوات الناقدة والمستقلة، وتعزيز مناخ الخوف والترهيب، على نحو يجعل أية انتخابات مقبلة مطعونا في شرعيتها، فالانتخابات ليست فقط قوانين، وإنما من شروطها أيضا إيجاد مناخ سياسي سليم وآمن.

وفي هذا الإطار دعت خمس منظمات إقليمية ودولية إلى «الوقف الفوري للهجمات والانتهاكات بحق المجتمع المدني». كما شددت المنظمات الخمس، وهي الشبكة الأورومتوسطية للحقوق والتحالف العالمي لمشاركة المواطنين ومنظمة المادة 19 وشبكة المدافعين الأفارقة عن حقوق الإنسان ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، شددت على أن احترام الحريات الأساسية وسيادة القانون يمثلان أولوية قصوى قبل الانخراط في أية عملية انتخابية ذات مصداقية، فضلاً عن ضرورة ضمان قدرة منظمات المجتمع المدني والنشطاء والإعلاميين على ممارسة عملهم من دون قيود أو ضغوط.

تونس: دستور جديد

وفي تونس تفاقمت الانتهاكات والإجراءات القمعية ضد المعارضين والمنتقدين، بمستويات غير مسبوقة منذ الانتفاضة التي أطاحت بالجنرال زين العابدين بن علي العام 2011. وشملت الانتهاكات وضع قيود على حرية التعبير والتضييق من فضاءات العمل السياسي والجمعياتي استنادا على قانون الطوارئ. وتابع الرئيس قيس سعيد العمل بخريطة الطريق السياسية التي وضعها بمفرده، من خلال فرض إجراء استفتاء دستوري، في الخامس والعشرين من تموز/يوليو العام الماضي، وانتخابات برلمانية في 17 كانون الأول/ديسمبر الماضي، كما أجرى قبلهما «استشارة الكترونية».

ويتفق الخبراء القانونيون في تونس على أن عملية الإصلاح الدستوري لم تكن شفافة، خاصة أن قرابة 89 في المئة من المسجلين في اللوائح الانتخابية لم يُدلوا بأصواتهم. وقد منح الدستور الجديد رئيس الجمهورية سلطات شبه مطلقة، من دون حماية قوية لحقوق الإنسان. كما تضمّن العديد من الحقوق، لكنّه قضى على الضوابط والتوازنات اللازمة لحمايتها، ولم يضمن بالكامل استقلالية القضاء و«المحكمة الدستورية» التي لم تُبصر النور بعدُ.

وكانت «المحكمة الأفريقية لحقوق الانسان والشعوب» أصدرت في ايلول/سبتمبر 2022 حُكما مهما نصّ على أنّ الإجراءات التي اتخذها سعيّد كانت غير متناسبة، وأمرت بإلغاء العديد من المراسيم، بما في ذلك المرسوم الذي ألغى العمل بالجزء الأكبر من دستور 2014، كما أمرت بإنشاء المحكمة الدستورية في غضون عامين.

شخصيات عامة في السجن

يمكث حاليا في السجن منذ ما يزيد عن ستة شهور، أكثر من عشرين من شخصيات عامة ورؤساء أحزاب وحقوقيين ومحامين وقضاة ورجال أعمال، من دون التحقيق مع غالبيتهم أو إخلاء سبيلهم بكفالة، خاصة أن جوازاتهم محتجزة لدى السلطات الأمنية.

ونسب سعيد لأولئك المعارضين أنهم كانوا يُعدون مؤامرة لقلب حكمه، لكنه لم يكشف عن أية وثيقة تدعم تلك المزاعم. ومن أخطر المراسيم التي سنها سعيد المرسوم 54 المتعلق بالجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، الذي يُقوض حرية التعبير. واتسم العام الجاري باتساع نطاق الاعتقالات والمحاكمات، التي استهدفت إعلاميين وسياسيين وحقوقيين.

كما لوحظت مطاردة للمعلقين السياسيين في القنوات التلفزيونية المحلية، بعدما كانت متنفسا للمجتمع. وتعرضت الإذاعات الخاصة والصحف الورقية والإلكترونية لتضييقات شديدة، ما جعلها مضطرة للتخلي عن بعض صحافييها. وكثيرا ما يُردد التونسيون في هذه الأيام، أن أكبر مكسب حققوه من ثورة 2011 هو استعادة الحرية والكرامة، لكن مجيء سلطة تيوقراطية إلى سدة الحكم أفقدهم أهم مكسب حصدوه من الثورة.

______________

مواد ذات علاقة